مستقبل الدعوة السلفية..


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

تطرح مجلة البيان هذه الرؤية النقدية للكاتب الكريم والذي له العديد من الدراسات الفكرية والدعوية الجادة من قبيل النقد الذاتي الذي يراد منه التعاون لدراسة واقعنا الدعوي بعلمية وموضوعية، رغبة في تلافي ما قد يوجه إليه من ملاحظات أو سلبيات، وأملاً في الوصول به إلى الأفضل إن شاء الله والمجال مفتوح لأي مناقشة موضوعية تلتزم بآداب الحوار.  والله من وراء القصد.  - البيان -

 

الدعوة السلفية هي عماد الصحوة الإسلامية المعاصرة، وهي مادتها، وقاعدتها القوية، التي تصل ما انقطع بين الخلف وسلفهم الطيب الصالح، وتدعو الناس إلى منهج الجيل الراشد، وهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأن ذلك النهج وذلك الهدي، هما في الحقيقة منهاج الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، كما قال: « تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابى ». [1]

 

وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الدعوة المباركة، تتحمل تبعات جسام في مسيرة الإحياء الإسلامي الجديد، تستدعي من أبنائها وأهلها أن يكونوا على قدر هذه التبعات، علماً وحكمة، وسعة وإدراكاً، وجهداً وجهاداً، وأثبت عند النوازل والفتن، على مختلف أنواعها وصنوفها.

بيد أن الأمر الذى لا يسعنا تجاهله، أو تجاوزه، هو أن هذه الدعوة وأهلها من العلماء والدعاة والمفكرين والعاملين، يبقون بشراً من البشر، وتبقى جهودهم في هذا السبيل، جهوداً بشرية، يعتريها ما يعتري الجهد البشري من عوارض مختلفة، منها الزلل، ومنها الخطأ، ومنها الغلو أو الإفراط أو التفريط، ومنها الذهول عن بعض الحقائق المنهجية أو العلمية أو الواقعية، ومنها ضعف بعض النفوس، أو ضعف بعض الهمم، وهذه كلها سلبيات تقع لكل جهد بشري، فطرة الله، ولا عصمة لأحد من الناس بعد النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الحقيقة من شأن استحضارها أن ينفي الحساسية الزائدة من أى ممارسة نقدية أو تقويمية ذاتية تتوجه إلى الجهود الدعوية المرتبطة بالمنهج السلفي، وإذا كنا نتوجه بالنظر والتقويم والنقد والتصحيح لمجهودات إسلامية مختلفة، من فصائل وأحزاب وجماعات، على قربها أو بعدها من المنهج الرشيد، فلماذا نستنكف نحن أن نقوم أنفسنا، ونعيد النظر في مسار الدعوة السلفية كل حين، للكشف عن المعوقات، أو الآفات، والسلبيات، التي تعترض مسار هذه الدعوة، أو التي تشينها، أو التي تتسبب في فتنة الآخرين تجاهها، إن انتساب أى شخص أو حركة أو تيار إلى المنهج السلفي لا يعني منحه صك عصمة مفتوحاً، بحيث يكون كل قول له أو فعل أو سلوك أو تقدير حقاً لا مراء فيه، ورشاداً لا زيغ معه، واستقامة لا اعوجاج بها، فهذا كله غلو ينبغي أن تتنزه عنه الدعوة السلفية، ولابد أن نملك الجرأة والثقة التي تجعلنا نعيد تقويم جهودنا الدعوية، بعدل وإنصاف، وتواضع وجد، حتى لا تتراكم الأخطاء، أو تتكاتف السلبيات، أو تتضخم الهفوات، بما يهدد وجود الدعوة ونكون عياذاً بالله فتنة للناس، في تقديرهم وحكمهم على منهج الفرقة الناجية ذاتها، والدعوة السلفية بوجه عام.

 

ثلاث ملحوظات مهمة:

 وفق هذا الاطار، وتلكم الرؤية، تجيء هذه الملحوظات الثلاث التي أقدمها للقارئ المسلم، باعتبارها محاور أساسية، ألاحظ وجود الاضطراب بسببها عند بعض الجهود الدعوية، وأرى أن ضبطها ووعيها، وترشيد المسار الدعوي فيها، هو مطلب بالغ الأهمية، وشديد الخطورة، ومن شأن الإحاطة به وانجازه أن يختصر الكثير من مسافات الطريق نحو التمكين لدين الله ودعوة الحق في مستقبل البشرية إن شاء الله - تعالى -.

 

الملحوظة الأولى: وتتعلق بفهم طبيعة الدعوة، ومداها، ورسالتها العامة، إذ هناك نفر من الدعاة يظنون الدعوة إلى التوحيد، مجرد عمل « تثقيفي » أو « تعليمي » تصحح به « تصورات » الناس تجاه مفهوم « الربوبية » و «الألوهية » ومنهج أهل السنة في « الأسماء والصفات » المتعلقة بالباري - سبحانه وتعالى - فحسب، دونما بيان شاف كاف عن « تجليات » هذه العقيدة في واقع الناس وسلوكهم ونظمهم الاجتماعية والقيمية والتشريعية ومشاعرهم وولائهم وجهادهم وغير ذلك، وهذا الاتجاه المحدود، لو تعززت وجهته في الدعوة السلفية، فستنتهى بنا حتماً إلى حصر الدعوة الإسلامية بشمولها في نوع من الجدل الكلامي الذى يكثر فيه تشقيق المعاني وتهويم الخواطر، وتناطح الأمثلة التجريدية، وإتاحة الفرصة تماماً أمام التيارات المنحرفة لصياغة الواقع الاجتماعى، وبنيان الأمة وفق مناهجهم الفاسدة.

 وهذا الخلل في الحقيقة يقدم بصور مختلفة أخرى، منها الحديث عن أن « تصحيح العقيدة » فقط هو مطلب هذه المرحلة، وليس من واجب الداعية وربما ليس من المشروع له أن يحدث الناس عن الانحرافات الخلقية، أو أزماتهم الاقتصادية أو مشكلاتهم التشريعية، أو تحدياتهم الدولية، أو هموم واقعهم المختلفة، فلا بد أولاً من تصحيح « عقيدة » الناس، ثم في مرحلة لاحقة نصحح باقى الانحرافات، ولا شك أن هذا انحراف كبير عن هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودعوة الإسلام قاطبة عند النبيين والمرسلين.

 لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو قومه إلى التوحيد الخالص في مكة، طوال ثلاث عشرة سنة، ليخرج قومه من ظلمات الجاهلية والوثنية والإشراك بالله، إلى نور التوحيد ومع ذلك الحرص الشديد على دعوة التوحيد، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في تصحيح الانحرافات الاجتماعية كلها في الواقع الذى يعيشه، ويقرن ذلك كله بالتوحيد، حتى لكأنهما بناء واحد لا يمكن فصل بعضه عن بعض في دعوة الحق، وحسبنا في ذلك القرآن المتلو في مكة:  ألم يكن مما تلاه - صلى الله عليه وسلم - على قومه في مكة (« ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين ») [2]

أرأيت كيف ترتبط الدعوة إلى العدل والقسط و « النزاهة » بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ !.

أولم يكن مما تلاه - صلى الله عليه وسلم - على الناس بمكة قول الحق - تعالى -: (« أرأيت الذى يكذب بالدين، فذلك الذى يدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ») [3]

أرأيت كيف ارتبطت العقيدة بالسلوك الاجتماعى بالعبادة في رباط واحد وسياق واحد! ألم نقرأ ما نزل من آخر سورة الفرقان، وفقه الدعوة وشمولها فيه: « (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون »، « والذين لا يشهدون الزور ») [4].

 

ألم يربط القرآن أذهان المسلمين بالأحداث الدولية الجارية في زمانهم وآثارها على الجماعة المسلمة، رغم بعد المكان، وانعدام الصلة تقريباً من الناحية العملية بين هذه الجماعة وتلك الأحداث (« غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ») [5] وعلى هذا النهج فقس، وهو أمر يطول ويشغل الصفحات العديدة، وهذا كله فيما نزل بمكة، ولا يوجد موحد آنذاك على الأرض إلا بضع عشرات من المؤمنين بقرية من قرى كوكب الأرض، وهذا أسوقه لمن يقابل بين واقع المسلمين الحالى، وواقع مكة: من بعد الناس عن التوحيد أو جهلهم به، وهذا أمر لا يسلم تماماً، فأوجه الافتراق واضحة، كما أن أوجه المشابهة موجودة أيضاً.

ثم هل جاء نبي أو رسول من رسل الله، إلا وكان يدعو إلى إصلاح المجتمع كله، وليس فقط تصحيح العقيدة فقط، ألم يكن منهم من جمع إلى التوحيد الدعوة إلى التنزه عن فاحشة إتيان الذكران، ومنهم من دعا إلى القسط في المعاملات التجارية (« أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ») [6]، ومنهم من دعا إلى إزالة التجبر والطغيان[7](«أتبنون بكل ريع آية تعبثون* وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين* فاتقوا الله وأطيعون »).

أولسنا مأمورين بالاقتداء بهذه الكوكبة الرائعة من دعاة التوحيد. (« أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [8].

 

 إن الدعوة السلفية مطالبة بمحاصرة هذه الجهود الانعزالية المنتسبة إلى المنهج السلفي، وهي في حقيقتها لا تتعدى الصورة الجديدة للمنهج الصوفي الانعزالي القديم، الذى عزل الدين عن الدنيا وهموم المجتمع ومقتضيات الاستخلاف في الأرض، قبل أن تأتي العلمانية لتستثمر هذا « الانحراف » وتؤسس عليه تخريبها الكبير في ديار الإسلام.

 

 الملحوظة الثانية: وهى محور أساس وجوهري من محاور الدعوة الإسلامية، يذهل المرء عندما يجد دعاة منتسبين إلى المنهج السلفي، ينازعون فيه، أو يحقرون من قيمته، وذلك هو أصل معرفة الزمان، والوعي العميق بالواقع الاجتماعي الذي تتحرك فيه الدعوة، وتتنزل به الأحكام، وقديماً قال الصالحون: « رحم الله امرءاً عرف زمانه فاستقامت طريقته ».

إن البصيرة النافذة بأحوال الزمان، وأحوال الناس فيه، والعلاقات التي تتحكم في سلوك الناس الاجتماعي، وتؤثر في اتجاهات هذا السلوك، والضغوط التي تفعل فعلها في الواقع، وموازين القوى، وأعراف الناس المتغيرة، وهموم المسلمين وما عمت به البلوى وما لم تعم، والأخطار المحدقة بالأمة من خارجها ومن داخلها، ومواقع القوة أو الضعف فيها وفى أعدائها، ونحو ذلك من أحوال، فهذا كله ليس مجرد جهود محمودة، بل هى مطلب شرعى لا تستقيم الدعوة، ولا تنضبط أحكام الشريعة بدون تحصيله، وبدون هذا الفقه للواقع لا يمكن لمسلم تنزيل قاعدة « المصالح والمفاسد»، ولا أصل « لا ضرر ولا ضرار »، ولا أصل « ارتكاب أخف الضررين » ولا باب « سد الذرائع » ولا باب « الضرورات العامة وما تعم به البلوى » وغير ذلك الكثير من مقتضيات الدعوة وأصول الأحكام، ومن دخل في شيء من هذا كله بدون معرفة بالزمان وبصيرة بأحوال المسلمين وفقه لواقعهم، فهو « مغامر » ولا شك، وضارب في عماية، ولا يؤمن جانب دعوته وفتواه أن تودي بالمسلمين إلى موارد الهلكة والفساد.

 ولقد كان من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، مراعاة أحوال الناس، والبصيرة بواقعهم وظروف الزمان، وموازين السلوك الاجتماعى، وكان يوجه دعوته - صلى الله عليه وسلم - وفق ذلك الاعتبار، فيقدم ويؤخر، ويوجه ويرشد.

 روت لنا كتب السنة الصحيحان والنسائي وأحمد واللفظ لمسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألم تر أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم، قالت: فقلت يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم، قال رسول الله: ولولا حدثان قومك بالكفر لفعلت ».

 لقد وعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقع الناس، وحساسيات ذلك الواقع ووضع ذلك كله في اعتباره وتقديره، فأخر ما كان يحب فعله مراعاة لذلك الواقع، وقد ثبت أن ابن الزبير - رضي الله عنه - حقق ما أمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد، بعد أن تغير الواقع واختلفت موازينه.

 وروت لنا كتب السنة اللفظ لمسلم في صحيحه من حديث معاذ بن جبل رضي الله - تعالى -عنه قال: كنت ردفِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له عفير، قال فقال: يا معاذ تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله - عز وجل - ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا.

 وفى هذا الحديث الجليل فائدتان، الأولى هي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما منع إذاعة البشارة في ذلك الوقت، مراعاة لأحوال الناس، ومبلغ فقههم وانتشار العلم فيهم، ودرجة وعيهم بوضع هذه البشارة من سياق التكليف كله، ومن لا يعرف واقع الناس لن يفهم قيمة ذلك الهدي الجليل، والفائدة الأخرى من اجتهاد « معاذ بن جبل» - رضي الله عنه -، عندما أذاع هذه البشارة قبل موتته، وما ذلك إلا لمعرفته بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المنع كان متعلقاً « بواقع الناس » فلما « تغير الواقع » وشاع العلم، وتمكن الإسلام في النفوس أذاع البشارة تأثماً من كتمان العلم، ومعاذ - رضي الله عنه - هو من هو في معرفة الحلال والحرام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختاره لتبليغ الدعوة ونشرها في « اليمن » وبعث معه أبا موسى الأشعري، وأوصاهما في مهمتهما الجليلة فقال: « يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا » [9] واليسر والبشارة أو العسر والتنفير ليسا من الأمور النظرية المجردة، وانما هى مرتبطة « بواقع الأحكام والدعوة في المجتمع وبين الناس » فمن جهل طبيعة الواقع أو تجاهل أحوال الناس لم يدر هل يسر عليهم؟ أم عسر؟ وهل نفرهم عن الدعوة أم حببهم إليها؟ فضلاً عن متى يكون التكليف « يسراً » في الواقع، ومتى يكون « عسراً ».

 

 وواقعة حديث معاذ رضى الله عنه نفسها تكررت مع أبى هريرة - رضي الله عنه -، وروتها كتب السنة، إذ حمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشارة: « من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة» فقال عمر - رضي الله عنه -، لرسول الله ص: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخلهم » [10]، وفى هذه الواقعة فائدة إضافية، وهى اجتهاد عمر - رضي الله عنه - في معرفة الزمان وأحوال الناس وواقعهم وبالتالي أثر البشارة في ذلك الواقع، ولا شك أن اجتهاد عمر أتى من خلال معرفته بهدي نبيه ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك الاجتهاد متوافق مع ما تعلمه منه، لأن مثل عمر لا يقدم بين يدي الله ورسوله، ثم فائدة اجتهاد « أبي هريرة » في إذاعة الحديث في زمان لاحق، بدليل أنه وصلنا الآن ودونته كتب السنة.

 وروت لنا كتب السنة واللفظ للبخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين.

فسمعها الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما هذا؟ فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوها فإنها مُنتِنة، قال جابر: وكانت الأنصارُ حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر ثم كان المهاجرون بعدُ، فقال: عبد الله بن أبي: أوقد فعلوا؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي: دعهُ، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتُل أصحابه ».

 فانظر إلى حكمة النبي الكريم وهديه، فالخطاب لم يتعلق برفض ما ذهب إليه عمر - رضي الله عنه - من كونه يستحق القتل على فعلته، وإنما الخطاب تعلق بأثر ذلك الفعل في « الواقع » ومدى تأثيره في حركة الدعوة ومسيرة الجماعة المسلمة وفتنة الناس « لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه »، و « ابن أبي » ليس من أصحابه ولا شك، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحدث عن « واقع موضوعي » ينبغي مراعاته، بغض النظر عن « الحكم المطلق » إذ عامة العرب لا تعرف هذه « التفصيلات » الداخلية في الجماعة المسلمة، وإنما هي تنظر إلى مثل ابن أبي بن سلول على أنه من أصحاب محمد، فهل لنا من السير على مثل هذا الهدي النبوى الكريم؟ !.

 والشواهد على ذلك الهدي تطول، ولعل باحثاً نابهاً يجتهد في جمعها واستقصائها في دراسة شاملة، فهذا مما يحتاج إليه الشباب بخاصة في هذه الأيام، وحاصل الكلام هنا أن معرفة الزمان والبصيرة بالواقع، وفقه أحوال الناس، وهموم الأمة الداخلية والخارجية، هى مطلب شرعي ملح، ولا سيما في هذه الأيام، ولا تستقيم دعوة، ولا يهدى بيان، لا يمتلك هذا الأساس القوي الجليل، وإن من يكابرون في ذلك ويعاندون ولا أقول يخالفون يلحقون أبلغ الضرر بالدعوة السلفية، ويفتحون باباً واسعاً لفتنة الناس والشباب في جدية هذه الدعوة وفاعليتها...

وقيمتها.

 

 الملحوظة الثالثة: وهى متعلقة بفقه الاختلاف، والذى تحول إلى ثغرة خطرة تهدد بنيان الدعوة، وتؤرق أبناءها، حيث أصبح كل خلاف ينشأ بين اثنين أو وجهتين من أبناء الدعوة هو بمثابة « حرب شرسة »، لا توسط فيها ولا رحمة، والخائض فيها إما قاتل وإما مقتول، من سهام التجريح والتقريع والاتهام في النوايا والسرائر وترصد الشوارد وتلمس السقطات وغير ذلك على قاعدة « لا نجوت إن نجا »! مسائل ثلاث:

 والحديث هنا يتعلق بثلاث مسائل:

المسألة الأولى: وتتوجه إلى أدب الاختلاف، حيث يتوجب استحضار روح الأخوة والرحمة واللين وخفض الجناح وإحسان الظن في خلاف أهل الإسلام، ولا سيما أبناء المنهج السلفي الواحد، فهم أهل ذلك وهم الأولى به، وضرورة النأي عن الفظاظة والقسوة والعنف والتجريح والطعن في النوايا، وهذا هو الأصل العام للدعوة الإسلامية:  (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن) [11].

 والخلافات لا تنتهي في الفروع ومواطن الاجتهاد، فليس يعقل أن يصبح كل خلاف « مشروع حرب »، وتوطئة إلى القطيعة وربما السباب، إلى الحد الذي أصبحت فيه الخلافات بين أبناء الدعوة السلفية تتسم في كثير من الأحيان بالشراسة والمرارة والقسوة، فما أبعد الطريق بيننا وبين أخلاق سلفنا الصالح.

 روى الذهبي في « سير أعلام النبلاء » قول يونس الصدفي - رحمه الله تعالى -قال: « ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة » [12] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -في مجموع الفتاوى «..ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة » [13].

 

 المسألة الثانية: تتعلق بتوصيف الاختلاف، فعلى الرغم من أننا نملك نصوصاً واضحة في بيان « السعة » في أمر الاجتهاد، من أجلاها قول الرسول الكريم: « إذا اجتهد الحاكم فاصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » [14] إلا أن كثيراً من المختلفين يضن بعضهم على بعض أن يكون له ولو أجر واحد، أو أن يتركه في حال سبيله لا عليه ولا له! إذ أن الخطأ الاجتهادي أصبح وضعاً غير معترف به الآن في الحوار، وحلت محله أوصاف أخرى، أشهرها « البدعة والكفر »، فمن خالف أخاه في مسألة فهو إما مبتدع، وإما كافر، أما أن يقول: مخطئ في اجتهاده، فهذا وصف أصبح عزيز المنال في واقعنا الحالي ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 المسألة الثالثة: وتتعلق بظاهرة الترصد لأخطاء الآخرين، وتلمس عثراتهم، بل، ونصب الشراك لهم، على طريقة: ماذا تقول في كذا؟ أتقصد أن تقول كذا؟، على أمل أن يظفر منه بهفوة أو سقطة فيطير بها، ويشنع عليه فيها، والحقيقة أن الأمر في ذلك وصل إلى حد مَرَضِي، يصعب تخيله في بعض المنتسبين إلى المنهج السلفي الراشد، وهناك من يحترف التنقيب في كتابات مخالفيه، ثم ينتقي منها فقرات يحملها على أسوأ محتملاتها ومعانيها، ليخلص منها بأن صاحبها قصد كذا وكذا، فهو إذن مبتدع أو ضال أو كافر، حسب التصنيف الذى يمن به عليه، وأحياناً يبدو للمتابع أن بعض « الناقدين » يسعد كثيراً إذا أثبت البدعة أو الكفر على أحد من المجتهدين أو الدعاة، وكأنه يبتهج بأن يتعزز صف المبتدعين والكفار بزيادة رمز جديد إليهم، هذا إذا صح ظنه وسلم طعنه، فكيف وأغلبها الأعم تحكمات في الأفهام، وتهويل في التأويل، واساءة ظن بأهل الإسلام.

 

 لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلمس شبهات البراءة لأهل المعاصي، فيأتيه الرجل يقول له: زنيت فطهرني فيقول إمام الهدى: لعلك فعلت كذا، فيقول لا بل زنيت فطهرنى، فيعاود إمام الرحمة، لعلك فعلت كذا، مرات عديدة عساه يجد له مخرجاً، وتهمته معصية [15]، فما بالنا مع من تهمته الكفر والابتداع في الدين، لا سيما إذا كان من أهل الفضل أوالدعاة أو العلماء أو العاملين للإسلام، إن الأولى بالمسلم الراشد، أن يتلمس للناس المخارج، ولا سيما في التهم الشنيعة، ويقول: لعله قصد كذا، ولعله أراد كذا، وربما لعله سها، لعله فاته الدليل، هذا هو سبيل الراشدين، وهذا هو نهج السلف الصالح رضوان الله - تعالى -عليهم، ليس فقط في ما هو محتمل، بل في ما هو وقوع في بدعة صريحة، وعرف عمن أخطأ فيه السلامة، ولم يعرف عنه الدعوة إلى البدع والخروج على منهاج السنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: « وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها مالم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفى المسألة نصوص لم تبلغهم، وإن اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفى الصحيح قال: قد فعلت [16].

ويقول العلامة شمس الدين الذهبى في « سير أعلام النبلاء » في ترجمته عن « قتادة بن دعامة السدوسي » التابعي الجليل أحد أوعية العلم «...وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحرية للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطّرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك [17].

 

 الله أكبر، أين من هذا البيان الفذ من يتصيدون الكلمات والهفوات للدعاة، فيطيرون بها كل مطار؟ وأين من هذا البيان الراشد، من لا تقر أعينهم إلا بأن يثبتوا بكل سبيل وكل حيلة ضلال داعية أو ابتداع فقيه أو كفر مجاهد من المجاهدين؟ إن هذه الظاهرة الطارئة والشاذة من بعض أبناء الدعوة السلفية، من شأنها أن تسيء إلى الدعوة برمتها، وأن تؤسس للفتنة، وتضع منهجاً جديداً للتدمير، ولو أخذ كل داعية أو عامل بمثل هذا المنهج الاتهامي، فسوف يأتي يوم لا يوجد فيه على وجه الأرض سلفي واحد غير متهم، لأنك لن تعدم في أحد كائناً من كان إذا ترصدت ما كتب وما قال، أن تظفر عنده بكلمة أو عبارة أو سطر، تحتمل احتمالاً، أو حتى تحمل سقطة أو هفوة، ونسأل الله اللطف بعباده.

 هذه هى الملاحظات الثلاث التي أردت الوقوف عندها، وعرضها على القارئ المسلم، ولا سيما الدعاة والعاملين في سلك هذه الدعوة، من باب النصيحة لدين الله، ولدعوة الحق، وهى ملاحظات مراقب مجرد مراقب مسلم للظواهر الطارئة في الدعوة السلفية، أو المخاطر المرتبطة بها، وهى مخاطر تتهدد مستقبل هذه الدعوة، ومن ثم مستقبل الصحوة الإسلامية كلها، لأن الدعوة السلفية هى قطبها ودعامتها، وروحها المحركة، أرجو أن أكون قد وفقت في بيان ما قصدت إليه فيها، فإن أدركت الصواب فمن الله - تعالى -وبرحمته، وإن أدركني الخطأ فمن نفسي وبتقصيري، والحمد لله أولاً وأخيراً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه، ووافقه الألباني في صحيح الترمذي من طرق وبألفاظ قريبة.

(2) سورة المطففين: 1-6.

(3) سورة الماعونº: 1-5.

(4) سورة الفرقان: 67، 68، 72.

(5) سورة الروم: 2-5.

(6) سورة الشعراء: 181.

(7) سورة الشعراء: 128، 131.

(8) سورة الأنعام: 90.

(9) رواه البخاري.

(10) رواه مسلم.

(11) سورة النحل: 125.

(12) سير أعلام النبلاء (10/16، 17).

(13) مجموع الفتاوى (4/172 173).

(14) رواه البخاري (12) سير أعلام النبلاء (10/16، 17).

(13) مجموع الفتاوى (4/172 173).

(14) رواه البخاري.

(15) الإشارة إلى قصة ماعز وهي في الصحيح بتمامها.

(16)، (17) نقلاً عن كتاب أخينا الشيخ أحمد بن عبدالرحمن الصويان.

(الحوار:أصوله المنهجية وآدابه السلوكية) 118، 120، وهو من أجود ما كتبه المعاصرون حول هذه المسألة، جزى الله صاحبه خيراً.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply