آراء معاصرة عن تغير الأحكام بتغير الزمان ( 3 – 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اجتهادات عمر بن الخطاب

يقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلتزم بحرفيه النصوص في عدد من اجتهاداته وفيما يلي اثنان من أشهرها:

1- (اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم، كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعا لتغير المصلحة بتغير الأزمان، رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتا)[1].

ويقول النويهي عن ذلك:

(فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا علي مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟ )[2].

ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غير حكما ثابتا بالقرآن؟ إن سؤالا واحدا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو هل وجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟

فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم، فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف الرقيق (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أن يقال أن مصرفا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد من يستحقه. فكل ما فعله عمر رضي الله عنه هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني، وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذا وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا وإذا لم يوجدوا لم يعطوا [3].

 

2- (..اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة علي السارقين وهو قطع اليد... وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة)[4].

ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة، ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع وروي عن غير واحد من الصحابة [5]. ويقول ابن القيم عن ذلك: (فإن السَنة إذا كانت سَنة مجاعة وشدة، غلب علي الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلي ما يسد به رمقه – وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوي من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء)[6].

فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف.

 

فقه الشافعي القديم والجديد:

ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلي فقهه الجديد حين انتقل إلي مصر[7]. وتغير فقه الشافعي من القديم إلي الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلي نظر. فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولي التي حوت اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيه[8]، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: لا أجعل في حل من روي عني كتابي البغدادي) وكتابه البغدادي هو المشتمل علي مذهبه القديم [9]، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟.

لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق، لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله، دليل علي أنه أعاد النظر في آرائه الماضية، فاستبان له وجه جديد أصح وأقوى، أو ربما اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف. ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد): \".. عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلي مصر فأحكم تلك)[10]

ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كانت للظروف أثر في ذلك، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها.

 

رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام:

عقد الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) فصلا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد). وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء [11]، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة إلا إذا دل النص نفسه علي تغيرها.

 

وقد أورد ابن القيم عددا من الأمثلة لتغير الحكم وكل أمثلته تدور علي الحالات الآتية[12]:

1- الحالة التي يثبت تغير النص فيها نص آخر، مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر. ويشبه ذلك أيضا سقوط حد السرقة أيام المجاعة كما هو منقول عن عمر بن الخطاب عملا بنص درء الحد بالشبهة.

 

2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، ومثالها ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه. يقول: \" فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده، الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. \"[13]

 

3 - حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فيقاس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قوتا، في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص. ويضيف ابن القيم قائلا: \" وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان، التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها، كنصه على الأحجار في الاستجمار، ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز، وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والأشنان أولى منه، هذا فيما علم مقصود الشارع منه وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه. \"[14]

 

4 - حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف وقال: \" اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت\"، وهو نص واضح في عدم صحة ذلك في الأحوال العادية. يقول ابن القيم: \" وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له، بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى. \"[15]

 

5 - الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنذور تبعا لتغير العرف والعادة في ذلك.

وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة علي النص.

 

الخاتمة: أحكام النصوص ثابتة:

ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلا واحدا، يؤيد رأي العصرانين فيما يحاولونه من فتح الباب لتغيير النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة لا تقبل التحريف والتبديل.

 

------------------------------------------------

[1] مقال الدوليبي المصدر السابق ص 555

[2] مقال النويهي – مجلة الآداب (بيروت) ص 100 عدد مايو 1970

[3] راجع منهج عمر بن الخطاب في التشريع – محمد بلتاجي ص 175 191 والكتاب كله مناقشة قيمة لاجتهادات عمر.

[4] مقال الدواليبي ص 555

[5] راجع نيل الأوطار الشوكاني ج/7 ص 118

[6] أعلام الموقعين ج/3 ص14

[7] مقدمة في إحياء الشريعة – المحمصاني ص 67

[8] مناقب الشافعي – البيهقي ج/1 ص 256

[9] الشافعي – أبو زهرة ص 192 395

[10] مناقب الشافعي – البيهقي: 1/263 ومناقب الشافعي – ابن أبي حاتم ص 60

[11] أنظر المصلحة في التشريع الإسلامي – مصطفي زيد ص 161

[12] أعلام الموقعين – ابن القيم – ج 3، ص 3 50

[13] نفس المصدر ج 3، ص 4.

[14] نفس المصدر ج 3، ص 14.

[15] نفس المصدر ج 3، ص 15.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply