الوسطية في الدعوة والتغيير بين الخوارج والمرجئة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.

فإنَّ الوسطية سمة من سمات هذا الدين العظيم، وصفةً بارزةً لأمة محمد e، قال الله - تعالى -: ((وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً)) الآيـة (البقرة: 143).

وعندما انحرف من انحرف من الفرق وأهل البدع، عن هذه الوسطية التي كان عليها الرسول e وأصحابه الكرام، عصم اللهُ عز جل أهلَ الحق الذين هم أتباع السلف، من هذا التطرف، ووفقهم للوسطية في جميع أمور دينهم العلمية والعملية، وكانوا في ذلك كلهِ وسطًا بين طرفين متقابلين، طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والجفاء، وصارت كل فرقة من الفرق الضالة تتبوأ طرفًا من هذين الطرفين، حسب نوع الانحراف الحاصل، وفي أي الأبواب هو.

ومن هذه الأبواب التي انحرف فيها من انحرف من أهل البدع، ولم يوفق للحق والوسطية فيها، هو بـاب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، والدعوة والتغيير، وقد هدى الله - عز وجل - أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، لما اختلف فيه أهل البدع من الحق، ورزقهم الوسطية في هذا الباب العظيم، والأصل الأصيل من أصول الدين، فلم ينحرفوا فيه إلى الغلو والإفراط كما فعلت الخوارج، ولم يذهبوا فيه إلى الجفاء والتفريط كما فعلت المرجئة.

وحتى تتضح هذه المسألة، فلا بُدَّ من عرض رأى الطرفين المنحرفين في هذا الباب، ليتبين الوسط بينهما إن شاء الله - تعالى -.

الطرف الأول: الغُلاة وهم طرف الخوارج، الذين يرون أن قتال أئمة الجور ومن والاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرº لأنهم فعلوا الظلم أو ما ظنوه ظلمًا، وهذا عندهم كفرٌ مُخرج من الملة.

 

الطرف الثاني: أهل التفريط وهم طرف المرجئة، وأهل الفجور الذين يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنًّا منهم أنَّ ذلك من باب ترك الفتنة، ومعلومٌ ما في هذا المذهب من الفتنة والفساد.

 

وعن هذين الطرفين يقول شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى -: (ونهى رسول الله عـن قتالِ أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهلُ البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم، يرون قتالهم والخروج عليهم، إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وآخرون من المرجئة وأهل الفجور، قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك) [1].

وبين هذين الطرفين يقفُ أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين في الوسط بينهما، فلم يتركوا الأمر والنهي ومدافعة الفساد، بحجة الخوف من الفتنة كما هو صنيع المرجئة وأهل الفجور، كما أنَّهم لم يدفعهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومدافعة الفساد، إلى الخروج على جماعة المسلمين وقتالهم، كما هو صنيع أهل الغلو من الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.

 

وعن هذه الوسطية يقولُ شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: ((...ومع ذلك فيجبُ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعةِ والضلالةِ بحسب الإمكان، كما دلَّ على وجودِ ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

 

وكثيرٌ من الناسِ قد يرى تعارض الشريعة في ذلك، فيرى أنَّ الأمر والنهـي لا يقوم إلاَّ بفتنة، فإمَّا أن يؤمر بهـما جـميًعا، أو ينهـى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى، ويصبر عن الفتنة، كما قال - تعالى -: ((وَأمُر بِالمَعرُوفِ وَانهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَك)) (لقمان: 17).

 

وقال عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على السـمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكر هنا وأثرة علينا، وألا نُنازع الأمر أهله، وأن نقومَ أو نقول بالحق حيثُ ما كُنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم) [2]، فأمرهم بالطاعة، ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيامِ بالحق، ولأجل ما يُظن من تعارض هذين، تعرض الحيرة في ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل، إمَّا لخفاءِ الحق عليه، أو لخفاءِ ما يناسب هواه عليه) [3] أهـ.

 

مما سـبق يتضحُ لنا أن من ترك الأمر والنهي، والدعـوة إلى الله - عز وجل -، ومدافعة الفساد بحجة اجتناب الفتنة، فإنَّ له نصـيبًا وشبهًا بالمرجئة وأهل الفجور ومن نحـا نحـوهـم، ويلحق بهؤلاء من يتهم الآمـرين بالمعروف والناهين عن المنكـر، المحـذرين للأمـةِ من الشرك والفساد بالخروج على الأمـة، وابتغـاءَ الفتـنة مع براءتهـم من ذلك، إنَّ هـذا الصنيعُ من هؤلاءِ القاعدين والمثبطين المرجفين، إنما هو عينُ الفتنة والفسـاد.

 

كما أنَّ من خرج على الأمة بالسيف، زاعمًا أنَّ هذا من باب الأمر بالمعـروف والنهـي عن المنكر، فإنَّ له أسوة في سـلفة من الخوارج والمعـتزلة.

أسألُ الله - عز وجل - أن يهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنَّهُ يهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم.

 

------------------------------------

[1]- الآداب الشرعية 1 / 177.

[2]- البخاري 9 / 47، كتاب الفتن، باب قول النبي e (سترون بعدي أموراً تنكرونها)º مسلم (1470 ـ 1471) كتاب الإمارة.

[3]- الاستقامة 1 / 41 ـ 42.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply