الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تقديم:

الحمد لله، الحمد لله الذي قال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ, جَعَلنَا مَنسَكاً هُم نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمرِ وَادعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُستَقِيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).

والحمد لله الذي قال: (أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ,. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام)(الزمر: 36).

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةَ مَن خالطت كلمة التوحيد قلبه وفؤاده، فعلم منها ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، هو البشير النذير، بشَّر وأنذَر، وقال وعلَّم، فَطُوبى لمَن أخذ بسنَّته واقتفى أثره واهتدى بهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد:

فيا أيها الإخوان: تعوَّذوا بالله - جل وعلا - من الفتن، تعوَّذوا بالله - جل وعلا - من الفتن التي تحرق الدين، وتحرق العقل، وتحرق البدن، وتحرق كل خير، تعوَّذوا بالله منهاºفإنه لا خير في فتة أبداًºفإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذ بالله كثيراً من الفتن، وكان - عليه الصلاة والسلام - يحذَّر من الفتن.

ولهذاº لما ذكر البخاري - رحمه الله - في« صحيحه» كتابَ الفتنº ابتدأه بقوله: « باب: قول الله - تعالى -: (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ..)، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذّر من الفتن».

وذلك أن الفتن إذا أتتº فإنها لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ولا تبقى إذا أتت لقائل مقالاً، وإنما يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها، وأن نباعد أنفسنا حقّاً بعداً شديداً عن كل ما يقرب إلى الفتنة أو يدني منهاºفإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتنº كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتقارب الزمان، ويقلٌّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال: تظهر-الفتن».

وذلك لأن الفتن إذا ظهرتº فإنه سيكون معها من الفساد ما يكون مدنياً لقيام الساعة.

ومن رحمة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بنا: أن حذَّرنا من الفتن كلها.

والله - جل وعلا - قد حذَّرنا بقوله: (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةًُ. ).

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «هذه الآيةº وأن كان المخاطب بها هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنها عامة لكل مسلمºلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحذر من الفتن».

وقال الآلوسي أيضا في « تفسيره » عند هذه الآية: « فسرت الفتن في قوله: (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةًُ. )º فسرت بأشياء: منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على البدع إذا ظهرت. ومنها: أشياء غير ذلك».

قال: « ولكلّ معنى بحسب ما يقتضيه الحال».

يعني: أنه إذا كان الزمان زمان تفرٌّق واختلافºفليحذِّر بعضنا بعضاً بقوله: (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةًُ. )º يعني: اتقوا تفرّقاً واختلافاً لا يصيب مآله ولا تصيب نتيجته الذين ظلموا منكم خاصة، وإنما يصيب الجميع، ولا يخص ذلك الأثر-للتفرق والاختلاف مثلاً-الظالم وحده.

ولهذاº فإننا في هذا المقام أحببنا أن نذكّر بهذا الأمرº لأننا نرى صحوةً إسلامية راشدةً بإذن الله في هذه البلاد، التي هي القائمة بشأن التوحيد، والقائمة بدعوة التوحيد في هذا الزمان، الذي لا نرى فيه قائماً بدعوة التوحيد إلا ما شاء الله - جل وعلا -.

فكان لزاماً أن نذكر هؤلاء، وأن نذكر أنفسنا جميعاً، بلزوم الاعتناء بالعلم النافع، بلزوم الاعتناء بعقيدة السلف الصالح، بلزوم الاعتناء بعقيدة أهل السنة والجماعة

فإن هذه الصحوة المباركة، الصحوة التي نرجو منها أن تنشر دين الله، وأن تحبب الشريعة والاستقامة للناس، نرجو منها أن تكون ثابتة على العلم النافع، لأن شبابنا اليوم يحرصون كثيراً على العلم النافع، يحرصون كثيراً على كلام أهل السنة والجماعة.

ولهذاº أجد لزاماً علىّ أن أنقل لهم، وأذكرهم، وأبين لهم ما أعلمه من كلام أئمتنا، ومن كلام أهل السنة والجماعة، الذي بنوه على مقال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، بل وعلى كلام المولى - سبحانه -.

فإن الفتن إذا لم يرعَ حالها، ولم ينظر إلى نتائجهاº فإنه سيكون الحال حال سوء في المستقبل، إن لم يكن عند أهل العلم من البصر النافذ والرؤية الحقا ما يجعلهم يتعاملون مع ما يستجد من الأحوال، أو يظهر من الفتنº على وفق ما أراد الله - جل وعلا - وأراده رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

فالضوابط والقواعد لا بدَّ أن تُرعىº فإن الضوابط بها يعصم المرء نفسه من الوقوع في الغلط، فالضوابط الشرعية والقواعد المرعية إذا أخذنا بها ولازمناها وأقتفونا أثرهاº فإن عند ذلك سيحصل لنا من الخيرات مالن نندم عليه بإذن الله.

فالضابط في كل أمر لابد من معرفته، حتى يتسنى لك أيها المسلم أن تعصم نفسك من أن تنساق أو تسوق نفسك إلى ما لم تعلم عاقبته الحميدة، أومالم تعلم ما يؤول إليه ذلك الأمر من مصلحة أو مفسدة.

فبهذاº نعلم أنه لابدَّ من رعاية الضوابط ورعاية القواعد التي بينها أهل ألسنة والجماعة.

 

فما تعريف الضابط والقاعدة؟

الضابط في المسألة: هو ما به نعرف ما تحكم به مسائل الباب الواحد وترجع إليه مسائل الباب الواحد.

وأما القاعدة: فهي أمر كليّ ترجع إليه المسائل في أبواب مختلفة.

ولهذاº كان لزاماً علينا أن نأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي كان عليها أهل السنة والجماعة.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه من يعش منكمºفسيرى اختلافا كثيراًº فعليكم بستَّني وسنًّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضٌّوا عليها بالنواجذ». نعم.

وقد رأى الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -، رأوا اختلاف، وما نجوا إلا بما تمسكوا به من القواعد الواضحة التي كان عليها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليها الخلفاء الراشدون من بعده - صلى الله عليه وسلم -.

 

الفوائد الناجمة عن الأخذ بهذه الضوابط والقواعد:

* أول تلك الفوائد: أن رعاية الضوابط ورعاية القواعد تعصم تصور المسلم من أن يقع تصوٌّره فيما لا يقره الشرع، تعصم ذلك التصور، وتضبط عقل المسلم في تصوٌّراته.

ومعلوم أن المسلم إذا تصور مسألة ما دون ضابط ودون قاعدة ترجع إليهاº فإنه سيذهب عقله إلى أنحاءِ شتى في تصرفاته في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه أو في أمته.

فعند ذلك نعلم أهمية رعاية تلك الضوابط وتلك القواعد، لأنها تضبط العقل عقل المسلم- في تصوراته التي ينشأ عنها تصرفه في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه.

* ثانياً: ثم أن لرعاية تلك الضوابط وتلك القواعد فائدة أخرى، ألا وهي: أنها تعصم المسلم من الخطاءº لأنه إذا سار وراءِ رأَيه فيما يجد أو في الفتن إذا ظهرت، وحلَّلها بعقله، نظر فيها بنفسهº دون رعاية لضوابط وقواعد أهل السنة والجماعةº فإنه لا يأمن أن يقع في الخطأ، الخطأ إذا وقع فيهº فإن عاقبته ليست حميدةº لأنه يتدرج ويتفرع، وربما زاد وزاد.

فللضابط وللقاعدة إذا التزمنا بها فائدة، وذلك أنها تعصم من الخطأ.

لماذا؟

لأن تلك الضوابط وتلك القواعدº مَن الذي قعَّدها؟ ومن الذي ضبطنا بها؟ هم أهل السنة والجماعةºوَفق ما جاء في الأدلة.

ومَن سار خلف الدليل وسار خلف أهل السنة والجماعةº فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.

* ثالثا: ومن الفوائد للقفو خلف تلك الضوابط والقواعد: أنها تسلم المسلم من الإثمº لأنه إذا سار وفق رأيه، أو سرت وفق رأيك وما تظنه صواباًº دون رعاية لتلك الضوابط والقواعدº فإنك لا تأمن الإثمº لأنك لا تعلم ما سيكون عليه مستقبل الحال في مقالك أو فعلك إذا سرت وراء رأيك أو سرت وفق ما رأيته صواباً.

وأما إذا أخذت بما دل عليه الدليل من الضوابط والأصول العامةºفإنك ستنجو بإذن الله من الإثم، والله - جل وعلا - سيعذركº لأنك سرت وفق الدليل، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.

ولهذاº أيها الإِخوان، يتبَّين لنا بتلك الفوائد الثلاثة ضرورة الأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي سيأتي بيانها.

 

وهذه الضوابط والقواعد التي سنبينها مأخذها ودليلها أحد شيئين:

الأول: التنصيص على تلك القاعدة أو ذلك الضابط في الأدلة الشرعية إما في القرآن أو في السنة -، وأخذ أهل السنة و الجماعة بما دلت عليه تلك الأدلة التي في القرآن أو في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

الشيء الثاني: أن يكون مأخذها من السنة العملية المرعية، التي عمل بها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ºفصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بعدهم والأئمة أئمة أهل السنة والجماعة- كان لهم سيرة عملية في الفتن إذا ظهرت، وفي الأحوال إذا تغيرتº رعوها، وأخذوا فيها بالأدلة، وطبَّقوها، ورعوها عمليّاً.

لهذاº لن يزيغ بصرنا، ولن تزيغ عقولناº إذا أخذنا بما عملوا به، وبما أخذوا به من الأدلة، وبما ساروا فيه بالسيرة العملية.

وهذا من رحمة الله - جل وعلا - بنا: أنه لم يتركنا دون قدوة نقتدي بهاº فالعلماء علماء أهل السنة والجماعة هم الذين يُرجَع إليهم في فهمهم وفي رأيهم وفي كلامهمº لأنهم علموا من الشرع، وعلموا من قواعده الكلية، ومن ضوابطه المرعية: ما يعصمهم من الخطأ، وما يعصم من الانفلات.

فلهذاº يتبَّين لك وجوب الأخذ بهذه الضوابط والقواعد التي سأذكرها لك الآن، ويتبَّين لك أيضاً فائدة الأخذ بها، ولزوم الأخذ بها، والمصلحة المترتبة عليها في نفسك وفي مجتمعك إذا أخذت بها وإذا رعيتها.

ومن سار خلف مهتدٍ,، ووفق ما دلَّت عليه الأدلةº فطوبى له في سيره، وطوبى له في هداهº فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.

 

الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن

* الأول من تلك الضوابط والقواعد:

فأول تلك الضوابط والقواعد: أنه إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوالº فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم، ولا تعجل.

هذه قاعدة مهمة: عليك الرفق، وعليك التأنِّي، وعليك بالحلم.

ثلاثة أمور:

* أما الأمر الأول وهو الرفق -º فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما ثبت عنه في الصحيح: « ما كان الرفق في شئº إلا زانه، ولا نزع من شئ إلا شانه».

قال أهل العلم: قوله: « ما كان في شئ إلا زانه»: هذه الكلمة: « شئ»: نكرة أتت في سياق النفي، والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياءº يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله.

وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: « إن الله يحب الرفق في الأمر كله »º قاله - عليه الصلاة والسلام - لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيحº قالº« باب الرفق في الأمر كله ».

في كل أمر عليك بالرفق، وعليك بالتؤدة، ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفقº فإن الرفق لن تندم بعده أبداً، ولم يكن الرفق في شئ إلا زانهº في الأفكار... وفي المواقف.... فيما يجد... وفيما تريد أن تحكم عليه... وفيما تريد أن تتخذه...

عليك بالرفق، ولا تعجل، ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفقº امتثالا لقول نبيك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه ».

فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله.

* أما الأمر الثانيº فعليك بالتأنيº يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ».

والتأنّي خصلة محمودة، ولهذا قال - جل وعلا -: (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا.. ).

قال أهل العلم: هذا فيه ذمٌّ للإنسان، حيث كان عجولاًº لأن هذه الخصلةº من كانت فيهº كان مذموماً بها، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - غير متعجل.

* وأما الأمر الثالثº فهو الحلم، والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناءº لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه.

ثبت في « صحيح مسلم » من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه: أن المستورد القرشي وكان عنده عمرو بن العاص - رضي الله عنه -º قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « تقوم الساعة والروم أكثر الناس ». قال عمرو بن العاص له للمستورد القرشي -: أبصر ما تقول! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إن كان كذلكº فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة. الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة.

قال أهل العلم: هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرةº لا! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناسº ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونهاº لأجل أن لا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم.

هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على «صحيح مسلم ».

وهذا التنبيه لطيفº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناسº لماذا؟!

قال عمرو بن العاص: « لأن فيهم خصالاً أربعاً: الأولى (وهي التي تهمنا من تلك الخصال): أنهم أحلم الناس عند فتنة »º يعني: إذا ظهرت تغير الحال، وظهرت الفتنº فإنهم يحلمون، ولا يعجلون، ولا يغضبونº ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتنº لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرتº فإنها ستأتي عليهمº فلأ جل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.

ولهذاº فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم، وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا.

الحلم المحمود في الأمر كله..... º فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه، فيدل على تعقله وعلى بصره.

هذا الضابط هو الأول، وهذه القاعدة الأولى التي رعاها أهل السنة والجماعة عند ظهور الفتن، وعند تقلب الأحوال.

وهذه الضوابط والقواعد بعضها ضابط وبعضها قاعدة، دمجتها لأجل اشتراك البعض مع البعض الآخر في المعنى.

 

* الثاني من تلك الضوابط والقواعد:

أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال، فلا تحكم على شيء من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوٌّرهº رعاية للقاعدة: « الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره».

وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام، ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله - جل وعلا -: قال الله - جل وعلا -: (ولا تقف ما ليس لك به علم. )º يعني: أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينه منهº فإياك أن تتكلم فيه، وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً، أو أن تكون فيه متبعاً، أو تكون فيه حكماً.

 

« الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره »

وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية، وفي أحوالكم المختلفة، العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة، ولا يصلح تصرفٌ ماº إلا بأن يرعى تلك القاعدةº لأنه إن لم يرع تلك القاعدةº فإنه سيخطئ ولاشك، والشرع قرَّرها أيما تقرير، وبين تلك القاعدة أيما بيان.

 

أضرب أمثلة لكي تتضح تلك القاعدة:

- فمثلاً: لو سألت واحداً منكم، وقلت له: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟

قد يأتي قائل ويقول: الربح مطلوب، الربح لا شئ فيه في الشرعº فلا بأس في بيع المرابحة.

فيكون حكمه على هذه المسألة غلط صرفº لأنه لم يتصور المراد بقول القائل: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟ وظن أن معنى المرابحة: هو الربح في البيع، ولأجل تصوره الذي غلط فيه أخطأ في الحكم الشرعي.

والحكم في الشرع لا بدَّ أن يُبنى على تصور صحيح، والمرابحة نوع من أنواع البيع الذي لا يجوز، تستعمله بعض البنوك الإسلامية تحايلاً على الربا، وصورته أنه مبنيٌّ على توكيل للغير، وبعد التوكيل يكون هناك إلزام بالوفاء بالوعدº فالوعد الذي وعده الموكل لوكيله هو ملزم بالوفاء فيه، وهذا لا يجوز في الشرع، فكان بيع المرابحة غير جائز.

- مثالاً أخر يبين لك قاعدة « الحكم على الشيء فرع عن تصوره »: لو سألت واحداً منكم: ما حكمناً على جماعة « شهود يهوه »؟ ماذا سيقول أحدكم؟

إن كان مطلعاًº فسيقول: هذه جماعة كيت وكيت، وحكم الإسلام فيها كذا وكذا.

وقد يكون قائل يقول: لا أعلم ما هذه الجماعة جماعة شهود يهوه؟ ولم أسمع بها قبلº فهنا لا تستطيع أن تحكم عليها، ولا تبين حكما شرعياً فيهاº لأنك لم تتصور هذه الجماعةº ماهي؟ وما مبادئها؟ وهل هي إسلامية أو نصرانية أو يهودية؟ فلن تحكم عليها إلا بعد تصورها.

إذا تبين لك ذلكº فإن الحاكم أو المفتي أو المتكلم في المسائل الشرعية لا يجوز له أن يتكلم رعاية لحق نفسه، ورعاية لخلاص نفسه من الإثم، ثم رعاية لحق المسلمين جميعاً، وتبرياً من القول على الله بلا علم -º إلا إذا حصل له أمران:

* الأمر الأول: أن يتصور القضية المطروحة تماماًº بحيث لا تلتبس عليه في قضية أخرى، ولا تشترك في تصوره وفهمه بمسألة أخرى، لأنه أحياناً تشترك بعض المسائل، وتقترب صورة مسألة من صورة مسألة أخرى، فينتقل ذهنك إلى مسألة مشابهةº فعند ذلك تقع في ذلك الخطأ.

* الأمر الثاني: أن تعلم حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة بعينها، لا في المسألة التي تشبهها.

وإذا ثبت ذلكº فها هنا سؤال مهمٌّ: يقول أحدكم: كيف يحدث لي هذا التصور؟! كيف أتصور هذه المسألة؟! وممَّن أتصورها؟! فإن المسائل مشتبه ومتشابهة، وبعضها يشكل وبعضها قد لا أجد مَن يبيِّنه لي ويصوِّره لي التصور الصحيح.

فنقول: التصور الذي ينبني عليه الحكم الشرعي هو ما كان:

أولاً: من المستفتي: فإن المستفتي هو الواقع في المسألةº فإذا سأل وإذا شرح مسألةº حصل التصورº فالمفتي يبيٌّن له ذلك الحكم وفق استفتائه.

ثانياً: يكون التصور بنقل العدول الثقاة المسلمين، الذين لا يشوب نقلهم شائبة تجعلهم يخطئون في النقل ومن ثم نخطئ في الحكم على الشيء، لا بد من نقل عدلٍ, ثقة في المسألة.

فعند ظهور الفتن، واختلاف الأحوالº لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاًº ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما، أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما، أو في تقريرٍ, ما،

هذا لا يجوز شرعاً أن يبني عليه حكماً شرعيّاً، وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة.

فأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقبل ممَّن يأتي بهاº إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه، إذا كان في الإسناد فاسقº فإنه قد انخرمت مروءته، وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط، من يأتي بشيء ويخلطه مع شئ أخرº فإنه لا يقبل، ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي.

ولهذاº فإنه لا بدَّ من رعاية هذه المسألة.

تلخَّص من هذا: أن هذه القاعدة: « الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره »: أساسها التصور، ولا يمكن أن يكون صحيحاً في الشرع إلا إذ كان من مسلم عدلٍ, ثقة، أو كان من المستفتي نفسه، ولو كان فاسقاً.

 

* الثالث من تلك الضوابط والقواعد:

أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمر كله.

يقول الله - جل وعلا -: (وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربَى)(الأنعام: من الآية152).. ).

ويقول - جل وعلا -: ) وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ, عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى) (المائدة: 8)

وقد بُيِّنَت هذه المسألة بياناً شافياً كافياًº من أنه لابدَّ من العدل في الأقوال، ولا بدَّ من العدل في الأحكام، وأن من لم يعدل في قوله، أو يعدل في حكمهº فإنه لم يتبع الشرع اتباعاً يرجو معه النجاة.

ما معنى العدل؟ وما معنى الإنصاف في هذه القاعدة؟

معناه: أنك تأتي بالأمور الحسنة أو بالأمور السيئة، تأتي بهذا الجانب الذي تحبه، وذلك الجانب الذي لا تحبه، ثم توازن وتعرض لهما عرضاً واحداً، وبعد ذلك تحكمº لأنه جزماً يحصل من عرض الجانبين معاً ما يعصم المرء من أن ينسب للشرع أو ينسب إلى الله جلَّ وعلى أو إلى سنة من سننه الكونية ما ليس موافقاً لما أمر الله - جل وعلا - به.

فلا بدَّ من عرض الحسن والقبيحº عرضهما على الذهن، حتى تصل إلى نتيجة شرعية، وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً إن شاء الله - تعالى -.

وهذه مسالة مهمة، وقاعدة لا بدَّ من رعايتهاº لأنه مَن لم يرع هذه القاعدةº دخل الهوى إلى قلبه من مصراعيه، ولم يأمن أن يفتح باب الهوى على غيره، ومن ثم يكون داخلاً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ومَن سنَّ سنَّة سيئةº فعليه وزرها و وزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة »، وتكون المصيبة أعظم إذا كان الفعل ممَّن ينتسب إلى العلم والهدىº لأنه يقتدي بفعله الجاهل، ويقتدي بفعله نصف المتعلم.

فإذاº لابدَّ من أن نرعى هذه القاعدة في أمرنا كله، ومَن سلم من الهوىº فإن الله - جل وعلا - سينجيه في الآخرة والأولى.

 

* الرابع من تلك الضوابط والقواعد:

ما دلَّ عليه قول الله - جل وعلا -: (وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103).

وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية، فقال: « عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة».

وثبت أيضا في الحديث الذي رواه عبدالله بن أحمد في « زوائد مسند أبيه »: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « الجماعة رحمة، والفرقة عذاب ».

الفرقة بجميع أنواعها في الأفكار، أو في الأقوال، أو في الأعمال عذاب يعذِّب الله - جل وعلا - به مَن خالف أمره وذهب إلى غير هداه.

لهذاº مَن لزم الجماعة جماعة أهل السنة والجماعة واقتدى بأئمتهم وعلمائهمº فإنه قد لزم الجماعة، ومَن تفرَّق عنهمº فإنه لا يأمن على نفسه أن يكون ممَّن ذهب إلى الفرقة وعذب بعذاب من عذاب الله في الحياة الدنيا.

نسأل الله - جل وعلا - أن يسلمنا وإخواننا جميعاً من ذلك كله.

ولهذاº قال - عليه الصلاة والسلام -: « الجماعة رحمة، والفرقة عذاب ».

الجماعة بجميع أنواعها، وبجميع صفاتها، إذا كانت على الهدى والحق، فهي رحمة، يرحم الله - جل وعلا - بها عباده.

والفرقة عذابº لا خير في التفرق، لا خير فيه أبداً.

لهذاº بعد أن قال الله - جل وعلا -: (وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).. )º قال في الآية بعدها: (وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ) (آل عمران: 104)

ثم قال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105)

نعمº الذين تفرَّقوا في أقوالهم وأعمالهم من بعد ما جاءتهم البينات، وجاءهم البينات والهدىº أولئك لا يؤمن عليهم الزيغ، وأولئك لا يؤمن عليهم الاختلاف، ولا يؤمن عليهم سلوك غير سبيل الهدى.

لهذاº كان لزاماً أن نلتزم بجماعة أهل السنة والجماعة، أن نلتزم بأقوالهم، وأن لا نخرج عن قواعدهم، ولا عن ضوابطهم، ولا عمَّا قرَّره علمائهمº لأنهم يعلمون من أصول أهل السنة والجماعة، ومن الأدلة الشرعية، ما لا يعلمه كثير من الناس، وما لا يعلمه كثير من الذين ينتسبون إلى العلمº لأنهم لهم علماً راسخاً، ونظراً صائباً، وقدماً راسخةً في العلم.

أنظر إلى ما فعل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -! أتدري ماذا فعل حين كان في الحج مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؟

كان عثمان يتمًّ الصلاةº يصلي في منىً أربع ركعات، والسنة أن يصلي المصلي في منى ركعتينº قصراً لكل رباعية.

عثمان رأى أن يصلي أربع ركعات لتأويل شرعي تأوَّله، مع ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يقول: سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ركعتين لا غير لكل صلاة رباعية. قيل له: يا عبد الله بن مسعود! تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان بن عفان أربع ركعات! لماذا؟! قال: يا هذا! الخلاف شر! الخلاف شر! الخلاف شر...... رواه أبو داود بإسناد قوي.

وهذا لأجل فهمهم للقاعدة الصحيحة، للقاعدة التي مَن أخذ بخلافهاº فإنه لا يأمن على نفسه الفتنة، ولا على غيره.

قال بن مسعود: « الخلاف شر ».

 

* الخامس من تلك الضوابط والقواعد:

أن الرايات التي ترفع في الفتنة سواء رايات الدول أو رايات الدعاة لا بدَّ للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح، ميزان أهل السنة والجماعة، الذي مَن وزن بهº فإن وزنه سيكون قسطاً غير مجحف في ميزانهº كما قال - جل وعلا - في ميزانه: )وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئا)(الأنبياء: من الآية47).

فلذلك أهل السنة والجماعة لهم موازين قسط يزنون بها الأمور، ويزنون بها الأفكار، ويزنون بها الأحوال، ويزنون بها الرايات المختلفة عند اختلاف الأحوال، وتلك الموازين تنقسم عندهم كما بيَّن ذلك أئمة دعوتنا، وكما بيَّن ذلك أئمة أهل السنة والجماعة تنقسم تلك الموازين إلى قسمين: فسمعهما:

* القسم الأول: موازين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply