الإسلام دعوة للتفكير


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كان أثر الإسلام على حياة البشر عظيما و شاملاً، فهو لا يقتصر على ما استحدث من أفكار وعقائد كان لها دورها العظيم في تاريخ الفكر البشري، بل امتد إلى تحرير العقل و إطلاقه للتمعن في آفاق الكون الرحيب. وعلينا أن نذكر دائمًا أن الإسلام حثَّ وشجع وطالب الناس بإعمال الفكر، وإيقاظ الشعور، وتربية الحس (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) (النمل/ 46)، (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (آل عمران/190)(1).

وجد الإسلام الناس يدينون بعقائد متباينة، ويسلكون سبلاً مختلفة فدعاهم دعوة ملحَّة لإمعان النظر، والتجرد عن الهوى والغرض، وحمل حملة عنيفة على تقليد الآباء والأجداد من غير بصر ولا تدبر (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون) (البقرة/170). والإمام الغزالي هاجم التقليد والمقلدين هجومًا عنيفًا وحق له أن يفعل فالتقليد دليل على البلادة، وضيق الفطن، وطمس البصيرة وفي ذلك يقول الإمام الحُجة: (فإن زعم أنَّ حدَّ الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي، أو مذهب الحنبلي، أو غيرهم، فاعلم أنه غرُّ بليد، قد قيّده التقليد فهو أعمى من العميان(2)). وفي موضع آخر نجده يستمر في هجومه على المقلِّد محتدًا محتدمًا قائلاً: (وشرط المقلِّد أن يسكت و يُسكت عنه لأنَّه قاصر عن سلوك طريق الحجاج، ولو كان أهلاً له كان مُستَتبَعًا لا تابعًا، وإمامًا لا مأمومًا. فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ (3)).

فالتفكير في الإسلام واجب شخصي، ومسئولية فردية، والجماعة لن تغني عن الفرد شيئًا في هذا المجال. وما من أحد يطيع أحدًا طاعة عمياء فيضله إلا ناله غضب الله، وندم حيث لا ينفع الندم، وتحسَّر حيث لا تجدي الحسرة. (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتي اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) (الفرقان/ 27-28). والرسول يرشد الإنسان قائلاً: (لا تكن إمعة تقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم) وكل هذا يناقض مناقضة صريحة مذاهب الجاهلية في التفكير والعمل، خذ على ذلك مثالاً قول(4) دريد بن الصمَّة:

وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

 

والإسلام يوسع دائرة النظر المستقل، والتأمل المفرد، فالكون كله مادة للفكر، ومجال للنظر، ومسرح للتدبر قال - تعالى -: (وسخر لكم ما في السماوات والأرض جميعًا منه) (الجاثية/13) وقال: (وكأيِّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم معرضون) (يوسف/105).

 

أما حديث \"تفكَّروا في مخلوقاته ولا تفكروا في ذاته\" فليس حَجرًا على الفكر، ولا منعًا للنظر ولكنه حفظ له من الضياع وضن به من التبدد، ولقد أثبت تاريخ الفكر الفلسفي صحة هذه النظرة فالفلاسفة الذين شغلوا أنفسهم بميدان ما وراء الطبيعة- وهو ما يسمي بـ(Metaphysics)- فراحوا يتصورون حقيقة الذات الإلهية المقدسة- كما تتخيلها أوهامهم- لم يأتوا بطائل أبدًا وإن هي إلا تهويمات لا يسندها دليل، وتخييلات لا يعضِّدها برهان، ولم تتقدم الفلسفة الإنسانية شبرًا واحدًا في هذا الميدان، ولقد أدرك الفلاسفة الغربيون- بتأثير من النظرة الإسلامية- أن طريق \"ما وراء الطبيعة\" طريق مسدود لم يخلق له العقل الإنساني، فأضربوا عنه إضرابًا، وهكذا وجدنا من يسمي بالفلاسفة التجريبيين (The Empiricists) الذين خطا العلم الحديث بفضل جهودهم خطوات واسعات موفقات. وهذا هو الخط الذي سلكه العلماء المسلمون في العصور الوسطى فاستطاعوا أن يجنوا نتائج إيجابية باهرة اعتمدوا فيها على الملاحظة الدقيقة، والمشاهدة المتكررة، والتجارب المعادة والاستقراء العلمي الممتاز.

وعندما اتصل العرب المسلمون بغيرهم من الأمم، واحتكوا بثقافات أجنبية، وفلسفات غربية لم يكونوا ضعافًا باهتي الشخصية، وإنما كانوا أقوياء استمدوا قوتهم من اعتزازهم بما يحملون من مبادئ وأفكار وتعاليم وقيم مما جعلهم العنصر المسيطر على الأوضاع، المهيمن على الحياة، المسيِّر للأمور والأحداث، فإن افتخر غيرهم بما كانوا يملكونه من زخرف وزينة ومتاع فهم لا يعتزٌّون إلاّ بما عندهم من نور وهدىً ومعرفة بالله رب العالمين، (إذا سلم ديني فأهون بالمصاب)(5).

 

ولست أبالي حين أقتل مسلمًـا *** على أي جنب كان في الله مصرعي

 

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

دعي القوم ينصر مدعيـــــه *** ليلحقه بذي الحسب الصميم

ولا كـرم وإن كـرمـت جـدود *** ولكـن التـقي هو الكــريم(6)

 

ولو كان انتصار العرب انتصارًا عسكريًا ليس إلاَّ، لذابوا في المجتمعات الجديدة التي احتلوها، ولما تسنى لهم أن يكونوا قادة الفكر، وحداة النظر، وبناة الحضارة. ولو كان انتصارًا عسكريًا مجردًا لخضعوا في مسائل الفكر والأدب والفن للبلاد المفتوحة خضوع الرومان لليونان، لأن اليونان اليونان أرسخ قدمًا، وأطول باعًا، وأقطع ضرسًا في مجال الأفكار والآداب من الرومان المتفوقين عسكريًا، الذين لم يجدوا بدًا من النقل والتقليد والمحاكاة (وما التكحل في العينين كالكحل. (7))، أما المسلمون فقد كانوا يملكون مقياسًا لا يخطئ يفصلون به بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ذلكم هو القرآن الكريم الذي أنزله الله - سبحانه - نورًا وبرهانًا ومرشدًا ودليلاً(8).

 

وتعاليم الإسلام بما فيها من سحر أخَّاذ، ونور ثاقب، وحق متبلج، استطاعت أن تفعل فعلها بفضل جهود بعض الأفراد الأفذاذ، حتى عندما أخلد جمهور المسلمين إلى الارض، واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها، فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون فَبُدِّلوا بؤسًا بعد نعمة، وذلة بعد عز، وضعفًا بعد قوة وسلط الله عليهم قومًا غلاظًا شدادًا قاسية قلوبهم لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة، أولئك هم التتار الذين عاثوا في الأرض الفساد، وخرَّبوا الديار، وحرَّقوا الكتب، وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال(9)..أقول إنه بفضل جهود بعض المسلمين البررة الذين تجلت فيهم عظمة الإسلام وسماحته، هيَّأ الله لبعض أولئك الهمج الرعاع من أمرهم رشدًا، فدانوا دين الحق، وبهرهم نور الإسلام فاقتبسوا منه ما جعلهم هداة مهديين.فالتتار بالرغم من تفوقهم المادي، وقوتهم العسكرية الضاربة إلا أنهم لم يكونوا الرأس المقدَّم في مسائل الفكر والعلم والمعرفة.وحملت الفئة الصالحة التي آمنت منهم راية الإسلام فخلقوا خلقًا جديدًا، وصاروا نشأً آخر فتبارك أحسن(10) الخالقين.

 

-----

(1) جمع الأستاذ العقاد جملة صالحة من الآيات التي تنحو هذا المنحى في كتابه \"التفكير فريضة إسلامية\" فليراجع.

(2) البراوي: قادة الفكر، 310.

(3) نفسه / 311.

(4) من دَاليَّة مشهورة يرثي فيها أخاه عبد الله، مطلعها: (أرثَّ جديد الحبل من أم معبد)

(5) هذا مثل يضرب.

(6) الأبيات لنهار بن توسعة من شعراء الدولة الأموية. الشعر والشعراء: ج1/ ص537. وأنظر الكامل للمبرد أيضًا.

(7) شطر مشهور لأبي الطيب المتنبئ.

(8) يقول \"\" [هناك حقيقة هامة تغافل عنها أو لم يفطن لها الكتَّاب المسيحيون الذين كتبوا عن تاريخ الحضارة الإسلامية، وهذه الحقيقة هي أن القوة الدافعة التي جعلت المسلمين يهتمون بالعلم مصدرها القرآن الكريم وأحاديث الرسول. الفكر الإسلامي/25] وهو قول صحيح له من الشواهد ما يؤيده.

(9) انظر نقولا زيادة: دراسات إسلامية 23 24.

(10) انظر أبا الحسن الندوي: ربانية لا رهبانية، 24 وما بعدها.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply