الحوار من الضرورة إلى الثقافة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هناك أنواع من الناس لا يستطيعون العيش ولا التكاثر ولا البروز إلا في أجواء ملبدة بالأنواء، وفي أرضية موبوءة بالشتات والنزاع والشقاق والنكد، هؤلاء كالبكتيريا التي لا تدب فيها الحياة إلا بعناصر التعفن وموت الكيان، من أجل ذلك تراهم أكثر الناس هروباً من الحوار 

وأشد الخلق معاناة من الوئام والتصالح، والتقاء بخصوم المدارس الإسلامية..إبان ازدهار الحضارة الإسلامية تبنت هذه الحضارة ثقافة الحوار وأشاعته بين الناس إلى حد كبير، ولولا الحوار لما عاش غير المسلمين بين أظهرنا معززين مكرمين، والحقيقة أن الحوار كظاهرة مرتبطة بشكل طردي مع الخط البياني للحضارة الإسلامية، وحالنا اليوم كحالنا في أيام التردي والنكوص إذ أن أغلبنا اليوم -وأنا آسف  لهذا التعميم- لم يكن يرى الحوار حلاً للخلاف، ولم يدر بخلده أو ينشأ في ثقافته الحوار بشكله الطبيعي.كلُّ سعى دهراً في اقتلاع مخالفه، واستخدم في ذلك شتى فنون الحرب الثقافية والإعلامية وطريقة الوشاية والتأليب.

 

من العيب جداً أن يبقى الحوار ضرورة ظرفية بل نريد أن يصبح سجية وطبيعة وثقافة تقف حاجزاً أمام الفتنة والإخلال، وأمام أعداء الأمة لئلا يفكروا يوماً أن يبادئونا من داخل أنفسنا، وأن يصبح الحوار قبل كل شيء ديناً وقربة إلى الله مع كل أهل الأرض.

 

ونحن المسلمين أولى الخلق بهذا الخلق لأن الله أمر به من جهة وصبغ به الأنبياء من جهة أخرى، وأخبرنا - سبحانه - كيف رضي أن يحاور إبليس أكفر خلقه وأعصاهم وسمح له بأن يعبر عن وجهته، وأن ينافح عنها حتى يحق عليه العذاب بإقرار منه، ولتتضح خبيئة نفسه بلسانه وإن كانت لا تخفى على الله، ويوم قرر الله العقاب عليه وعلى أتباعه قرره لأنه إله عصاه عبده، أما نحن البشر فليس لنا أن نقرر أمام المخالفين إلا الحوار بالتي هي أحسنº لأننا لسنا أرباباً {قَالَ يَا إبلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَم أَكُن لأَسجُدَ لِبَشَرٍ, خَلَقتَهُ مِن صَلصَالٍ, مِّن حَمَأٍ, مَّسنُونٍ, * قَالَ فَاخرُج مِنهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وإنَّ عَلَيكَ اللَّعنَةَ إلَى يَومِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرنِي إلَى يَومِ يُبعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغوَيتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرضِ ولأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيمٌ * إنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} [سورة الحجر].

وإن كنت ترى أن هذا الحوار مليء بالتهديد فلأن إبليس جعل نفسه نداً لأوامر الله، وخرج عن أمره وكفر به وأعلن التحدي لربه.

ولكن عندما تتأمل في الحوار الذي كان بين الله جل في علاه وملائكته - عليهم السلام - في مسألة خلق آدم {وَإذ قَالَ رَبٌّكَ لِلمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعلَمُ مَا لا تَعلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُم صَادِقِينَ * قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمتَنَا إنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ.... } إلى قوله - سبحانه -: {فَسَجَدُوا إلاَّ إبلِيسَ}، عندما تتأمل تجد أن الحوار معبأ بالعبودية والخشية والاعتراف بالجهل والنقص أمام علم الله وكماله، وكان خطاب الله لملائكته خطاب تعليم لما أشكل عليهم ودعوة للتسليم دون أن يهددهم أو ينهاهم عن ذلك تبارك وتقدس.

يوم القيامة سيقف العبد بين يدي ربه مسؤولاً عن أعماله منافحاً عن نفسه مجادلاً عنها « عبدي أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا »،

« عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف تمرض وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان أما لو عدته لوجدتني عنده.... الجديث ». إلى غير ذلك.

 

وبهذا أمر الله أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أن يتحاوروا مع أقوامهم بكل طبقاتهم ورأينا في كتاب الله كيف تحاور نوح مع قومه، وكيف حاور إبراهيم قومه وحاور النمرود الذي قال أنا أحيي وأميت، وحاور موسى قومه وحاور فرعون وقارون وكذاك سائر الأنبياء مع أقوامهم في مواضع كثيرة من القرآن.

ولقد علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الحوار النبوي ثقافة وليس ضرورة وقتية وليس أمراً عارضاً، لأن هذه سنة الله في خلقه، ولو شاء - سبحانه - لأمر بأمر فمن حاد عنه عذبه وأهلكه دون مهلة، والسيرة النبوية عامرة بالحوار والجدال بالتي هي أحسن كما أمر الله، منذ أن كان في مكة إلى أن قامت بينه وبين اليهود مناظرات مشهودة، ومع نصارى نجران حين انتقل إلى المدينة حتى مع أصحابه - رضي الله عنهم - ، أرأيت كيف كان يتحاور مع الأعراب الذين يسألونه عن الإسلام والصدقات؟ أرأيت كيف تحاور مع أصحابه إذا ما اختلفوا؟

وكيف كان حواره مع الذي جاء يستأذنه في الزنا؟

وأعظم من ذلك كله ما حدث في الحديبية مع مشركي مكة من حوار وقبول لما فيه خير الفريقين، إن حياته - صلى الله عليه وسلم - قائمة على أسس عالية متينة، والحوار واحد من هذه الأسس التي قامت عليها حياته الشريفة - صلى الله عليه وسلم -. إن الحوار صفة لا يحبها إلا الأقوياء، ولا ينفر عنها إلا المرتابون في أمرهم، والدليل على قوة منهجنا ومتانة مذهبنا الإسلامي أن الله حاور عباده وأمر رسله بالحوار ووجه إلى المؤمنين الأمر بالحوار، واقتحام ساحات الخصوم بالدليل والعقل والحجة دون أدنى وجل.

وإذا رأيت من يتحاور مع الآخرين بصدر رحب ونفس مطمئنة وهدوء وسكينة فاعلم أنه في ثقة من أمره وثبات ورسوخ، فإذا ما وجدته مستمتعاً بالحوار كالذي يمارس هواية أو رغبة فاعلم أنه حاز أعلى مقامات الثقة بالنفس.

هل وصلنا إلى القناعة التي تقول بأن إقصاء الآخر أصبح مستحيلاً؟ هل آن الأوانº لأن نفتح الباب للحوار وإبداء الرأي؟ يجب أن تقام المؤتمرات المشتركة الثنائية والثلاثية والرباعية والمئوية لعرض الآراء وبيان الحق ووضع النقاط المشتركة. إن التعالي باسم الدين أو باسم الفكر أو الحضارة مهزلة يجب أن تتوقف ولينزل الجميع إلى الميدان ومن كان واثقا من نفسه ورأيه وفكره وثقافته فليترك الاختباء وراء الستور، ولتمتد الأيادي للمصافحة والتعاهد على اتباع الحق. لم تعد لغة التلاحي والتقاذف وأسلوب الإعدام الفكري والإلغاء والإقصاء تجدي في هذه الأيام، ولم تكن أساساً منهجاً للإسلام، ولا يزعم أحد أنه يرضاها وإن كانت تمارس خطأ من جميع الأطراف مع الأسف.

 

الحوار في الإسلام وفي جميع الرسالات قام أساساً بين فريقين أحدهما ينكر وجود الله فما بالك بما هو أدنى من ذلك؟

والحوار كلمة مأخوذة من التحاور التي مصدرها (حور) ومعنى التحاور أي التجاوب و(المحاورة) المجاوبة، أي تعطي جواباً وتأخذ جواباً فلا مكان للتلاحي والعنف، وعندما تخرج المجاوبة عن مدارها ونطاقها فإنها تعود إلى جلبة ومجالبة، وصخب ومصاخبة، وجنبة ومجانبة، ولا خير في الحوار بعد ذلك. وفي كتاب الله - عز وجل -: {ولا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم} قال الأصفهاني في المفردات: \" الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله، ومنه: الجديل \" إلى أن قال: \" ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه، وقيل الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة\"، والظاهر أن الجدال لا يخرج عن الخصام والمنازعة ولهذا نهى الله عن الجدال في الحج: {لا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ}.

 

وهنا لفته لطيفة فيها خفاء وهي أن الله أمر المؤمنين في قوله: {ولا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم} بالصبر على أذى أهل الكتاب غير المحاربينº لأن المقصود بالذين ظلموا في الآية عند بعض المفسرين أي الذين حملوا السيف وآذوا المؤمنين أذى جسدياً، فإذا كانت المجادلة بين طرفين فإن المأمور بالحسنى يجب أن يحتمل من لم يجادل بالحسنى أي الطرف المقابلº لأن الجدال بالحسنى يدعو الطرف الآخر إلى الحسنى كذلك ويقربه إلى سماع الحق، ولو استعرضت أذى اليهود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في قولهم {راعنا} وفي تهديدهم له بعد معركة بدر، وفي محاولة تعجيزه بالسؤال، وفي قولهم له: (السام عليك يا محمد) وفي قول اليهود له: (أنتم قوم مطل يا بني عبد المطلب) وغيرها كثير، إذا علمت ذلك فسيتضح لك مدى الإحسان منه في جدال أهل الكتاب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. قال الإمام النسفي - رحمه الله -: \" {إلا بالتي هي أحسن} بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال: {ادفع بالتي هي أحسن} \". إن صاحب المبدأ العالي والمقامات الرفيعة لا يحاور الخلق ويناظرهم ابتغاء الغلبة عليهم وإذلالهم، وإنما رحمة بهم ودلالة لهم على الحق والخير ، ولا يمنع ذلك من الإستظهار بكل ما يؤيد رأيه من أدلة الوحي المنزل والعقل المنوّر بنور الفيوضات الربانية، لكنه لا يبحث عن النصر شهوة وتعاظماً وإنما موافقة لمراد الله ودعوة للآخرين، على مذهب أنبياء الله أهل المقامات العليا {ويَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مَالاً إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ... } {يَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعقِلُونَ}. وكما قال مؤمن آل فرعون: {ويَا قَومِ مَا لِي أَدعُوكُم إلَى النَّجَاةِ وتَدعُونَنِي إلَى النَّارِ}. وكما قال هود - عليه السلام -: {إنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ, عَظِيمٍ,} ولقد كاد يموت نبينا - صلى الله عليه وسلم - من شدة الحزن على قومه، وخوفاً عليهم من العذاب فقال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤمِنِين}، وقال - سبحانه -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ عَلَى آثَارِهِم إن لَّم يُؤمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً}..

هذه أعلى المقامات في مقاصد الحوار ونيات المتحاورين، أما أعلى المقامات في طرائق الحوار فهي أن تتحاشى كل ما يعكر نفس خصمك، ويصيبه بحرج الصدر، ويشعره بالهزيمة والضعف أمامكº لأن ذلك أعظم دافع لردّ الحق.

قال الله - سبحانه وتعالى -: {قل مَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ قُلِ الله وَإنَّا أَو إيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَو فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,. قُل لاَّ تُسأَلُونَ عَمَّا أَجرَمنَا وَلا نُسأَلُ عَمَّا تَعمَلُونَ}.

إن هاتين الآيتين مفتاحان لأعظم الأقفال التي تحجب القلوب، ولأشد المغاليق التي تعمي الأفئدة والعقول. عندما تقول لخصمك: واحد منا على هدى والآخر في ضلال، فإنك تفتح له باباً إلى الثقة بنفسه والتواضع لك في نفس الوقت فما يفيق إلا وأنوار الإيمان تدب في أوصال قلبه، وحين تقول له لن يسألك الله عن جريمتي ولن يسألني عن عملك فستقذفه بكتلة من الحياء منك، وستعطل بهذه الكلمة كل محركات الكبر والغطرسة والعناد في نفسه وتصنع له جواً من السكينة، ويهبط هو إليك من عليائه وشموخه.

والوحي لم يغفل أنواع المجادلين وطرائق الجدال حسب الموقف والمصلحة وإعطاء الحكمة مسارها في التعامل مع النفسيات كل بحسب حاله ومآله، ولكن الأصل هو ما ذكرنا وأما ما سواه فضرورة يلجأ إليها عند الحاجة، فالله ينادي اليهود والنصارى: {يَا أَهلَ الكِتَابِ } وينادي المشركين والكفار: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ}، ويقول عن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَولاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى} ويتغير الخطاب أحياناً حسب الحال ولكن الأصل هو الإحسان.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply