د. سعيد بن ناصر الغامدي يقوم الاتجاهات الحداثية العربية الجديدة في الساحة النقدية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تجاوزت الحداثة التي يتبختر بها بعض المنتسبين إلى الأدب والثقافة من بني جلدتنا التجديد في الأشكال والقوالب الأدبية، لتقدم فكراً وثقافة ورؤية اجتماعية وأخلاقية. وراح كثير من دعاتها يتيهون في مستنقعات الفكر الغربي، ويتقلبون بين مدارسه المختلفة بعقلية هزيلة لا تملك سوى التبعية والإمَّعية الساذجة، وربما تصدّر بعض هؤلاء الحداثيين العرب منابر الأدب والثقافة والإعلام، وتحذلقوا بمصطلحات فلسفية مستوردة، وعبارات رمزية مقَّنعة، تحت شعار الإبداع والتجديد الأدبي والثقافي..!!

 

وفضيلة الدكتور سعيد بن ناصر أستاذ العقيدة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة له عناية مبكرة في دراسة الفكر الحداثي العربي، وكانت أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها.. دراسة نقدية شرعية) في كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والرسالة مطبوعة في ثلاثة مجلدات كبيرة.

 

البيان: يتهرب الحداثيون كثيراً من تعريف الحداثة، ويخلطون ما بينها وبين التحديث، وقد نجد لهم العذر لسببين: الأول تعدد مدارس الحداثة ما بين المدرسة الأوروبية، والمدرسة الأمريكية والروسية، وغيرها من المدارس الفكرية المتنوعة. والسبب الثاني: هو أن الذين ينقلون هذه النظريات الفكرية التي تعالج نظرة الغربي للإنسان والكون والحياة عندما يطبقونها على الواقع يدعون أنها نقد أدبي لا يجدون مسوغاً أمام المتلقي ـ وهو يرى دعوة تغييرية لا تتوافق مع عقيدته ونظرته ـ إلا أن يسعوا للهروب من التعريف أو يقوموا بالخلط بين التحديث والحداثةº فما رأي فضيلتكم في تعريف الحداثة؟

 

* الحداثة عند أصحابها في الغرب ثم عند المستعيرين لها في الشرق مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود، محمل بمعاني مشكلة، ومضامين ملتبسة متداخلة مع عبارات أخرى مثل (المعاصرة) و (التجــديد) و (التحديث) و (التطوير)، وهذا الاضطراب في تعريف الحداثة أورث أفكاراً مضطربة وغير منضبطة في فهم مضمون الحداثة، وأنتج خلطاً بين الحداثة الفكرية الفلسفية، والتحديث العصري التقنيº ففي الوقت الذي يحاول فيه كاتب مثــل د. الغذامي أن يعرف الحداثة (بأنها التجديد الواعي.. أي وعي في التاريخ وفي الواقع) نجده يشير إلى أن هناك تعريفات أخرى عند أدونيس تقول أو توحي بموقف مختلف في مسائل التراث (حكاية الحداثة ص 36)، وهذا نمط من الالتباس والتلبيسº فقضية التجديد الواعي لا يردها أحد، ولكن أي تجديد؟ وما هو الوعي المقصود؟ وهل علماء الإسلام ودعاته ومثقفوه إلا أصحاب تجديد واع وإن كانوا بدرجات مختلفة؟ بل إن هذا التجديد الواعي ـ بحسب منهجيتهم القرآنية والنبوية ـ هو الذي يُلمزون به ويُشتمون ـ من قبل الطرف العلماني ـ بألفاظ من قبيل: (الإسلام الشمولي، والإسلام السياسي، التيار التقليدي، النسق المحافظ) وغير ذلك.

ثم إشارته إلى أدونيس وتعريفاته التي يقول عنها بأنها توحي بموقف مختلف في مسائل التراث تلبيس آخرº فهو لم يقل: تنص على موقف مناقض للدين ومناهض لقضاياه، كما هو واضح جلي في كتب أدونيس، ثم لم يقل: نصوص الوحي، بل قال: التراث!! والمراد من إيراد هذا المثال إظهار التلبيس والالتباس حتى عند من يرى نفسه أحد كبار الفاهمين للحداثة والواعين لها، وعلى الرغم من هذا الاختلاف في المفاهيم والاختلاف في العبارات وفي المعاني نجد أن الحداثة الفكرية تتفق على عدة قضايا منها: القضاء على فكرة الثابت والمؤسسي والاستعاضة عنها بفكرة الصيرورة الدائمة، ومنها التشبث بأغصان المادية المتشعبة ابتداءً من الدوران في إطار (الفكر الإنساني/الهيوماني) (الاستناري) الذي يجعل الإنسان هو المركز وعقلانيته هي المصدر والمنطلق، وانتهاءً بالجسد واللذة والمنفعة، وحاجة سوق العمل والاستهلاك، والقوة ومعدلات الإنتاج.

 

إن التأمل في المنظومات التعريفية الحداثية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يجد أنها تنطوي على كامن فكري جوهري بدايته إعلان استقلال الإنسان واكتفائه بذاته، ونهايته الوصول إلى تأليهه، لتكون الخاتمة بالقضاء عليه (فكرة موت المؤلف) (موت المبدع) (تفكيك الإنسان) ونحو ذلك.

 

إن البداية الحداثية الفكرية الفلسفية تدور حول (مركزية الإنسان) واستقلال وجوده، وهو ما يعرف بـ (الفكر الهيوماني) ولهذه الفكرة تعبيرات مختلفة منها (العقلانية، الاستنارة، البنيوية، التفكيكية.. إلخ) وهذه البداية اقتضت وتقتضي تجاوزاً لكل ما يعتقدون أنه (نسقي) أو (محافظ) أو (ثابت) أو (مؤسسي) إلى أن تصل في أقصى درجات غلوها إلى تجاوز (الغيبي) و(القيمي).

 

كـل ذلـك فـي إطـار تـصفية الثنائيات ـ حسب تعبيرهم ـ فالنص دال ومدلول معاً، والإبداع كاتب وقارئº لأن (المؤلف مات بمجرد إنتاجه)، والثقافة فعل ومفعول في الوقت ذاته، إلى آخر ما هنالك من حذف للفواصل والحدود والأقواس في تراكميات لفظية تعود جميعها ـ جوهرياً ـ إلى إلغاء ثنائية الخلق والخالق، وهي الثنائية التي تعني عند المؤمن الانفصال التام بين الاثنين، وتعني افتقار المخلوق إلى خالقه، وإلغاء هذه الثنائية هو ما عبر عنه نيتشه بـ (موت الإله)، وعبر عنه بعض الحداثيين العرب بـ (انتهاء المتعــاليات) و (عودة الوجـود الإنسانـي) و (أنـسـنة المقـدس) و (أنسنة الوحي) وغير ذلك من التعبيرات.

 

ربما لا يوافق بعض الناس على ظهور الحداثة بهذه الصورة الصلعاء، وإن كانوا يتداولون مدلولات تنتهي في سياقها الفكري والفلسفي إلى ما أشير إليه آنفاً، ولهؤلاء يتوجه سؤال عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تفاعل إشكالية انفصال الدال عن المدلول بدءاً بالدراسات الأكاديمية النقدية والثقافية، وانتهاءً إلى الإطار الفلسفي والحضاري، بل لماذا نرى التحولات الغربية تتولى في موجات منداحة من الهيومانية إلى التنوير إلى البنيوية إلى ما بعد البنيوية؟ ثم نجد محترفي (الاستغراب) يتشربون ذلك، وينقلونه بحماسة شديدة، مدعين انفصاله عن جوهره، وانقطاعه عن جذوره الفكرية التي نما وترعرع عليها؟

 

أليست هذه الإشكاليات تجعلنا ندرك المضمون الفلسفي والإطار الأصولي الذي يجمع كل هذا الشتات؟ وهل استطاع المستعيرون إدراك هذا البعد الكلي، أم أنهم كانوا أوفياء في النقل بلا فهم؟ أم أنهم أدركوا ذلك، ولكن مقتضيات الأسواق المحلية لا تسمح لهم بكشف كل شيء والدعوة إليه؟ هل يمكن لنا ونحن نقرأ أقوالاً ضد (الأنا المتعالية) أن ندرك السلسلة (النسقية الفلسفية) التي أنتجت هذا المصطلح؟ وهل يليق أن نبتر هذا المفهوم عن سياقه الذي أنجبه وأخرجه؟ إذا كان الجواب بنعم، فلا بد من البرهنة على ذلك، وإلا كان هذا الفعل الثقافي ضرباً من التستر وهو فعل خطير.

 

البيان: فضيلة الشيخ سعيد، يتردد على أسماعنا اليوم، ونقرأ في مقالات هؤلاء الحداثيين ما أطلقوا عليه النقد الثقافي، وأصبحوا يسوقون له في كتاباتهم ومنتدياتهمº ما علاقة هذا بالأدب؟ ثم ما الخلفية الفكرية التي ينطلق منها هذا المصطلح أو بالأصح النظرية؟ نريد وضوحاً في تعريف هذه النظريةº لأن الذي يرجع إلى كتبهم وتأصيلاتهم ك

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply