التنازع والاختلاف .. هل هو قدرنا ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التنازع والاختلاف قد يكون ناتجاً عن اختلاف المشارب وتعدد الأفكار، وتنوع الاتجاهات، وقصر النظر أو بعده، فيؤدي إلى اجتهاد محمود، وتعدد مطلوب، وقد يكون رحمة تتكشف في أنوارها الحقيقة، وتتسع في أرجائها الآفاق والأعمال، وتزيل عن الناس الحرج ويتآخى في رحابها المجتمع، وينتفع الناس بالعطاءات المختلفة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم. ولهذا فقد صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الاختلاف بين الفقهاء، فقال له الإمام أحمد: \"سمه كتاب السعة، وإن الحق في نفس الأمر واحد\"، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه، لما في ظهوره من الشدة عليهم، وقد وقع الخلاف بين السابقين من أفضل قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ولم يؤد إلى افتراق أو خصومة، ولذلك لم يكن مذموماً، وقد نقل عن الصحابة كثير مما اختلفوا فيه وكذلك التابعين والفقهاء الكبار، وكانوا مع ذلك أهل مودة وتناصح، وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة، وفهمهم للأدلة ومواقعها في اللغة ظاهرة، فلما حدثت الأهواء دخلت الفتن وصار الناس شيعاً وأحزاباً، دل ذلك على ما ألقته الشياطين على أفواه أوليائهم وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم (الأنعام: 119).

والاختلاف إذا لازمته النية الحسنة وحب الخير، وحب الوصول إلى مصلحة الأمة، وكان في الأمور التي يسوغ فيها الاجتهاد وإبداء الآراء، فهو لا يعارَض أبداً إذا بعد عن التشهي والهوى، الكتاب والسنة وإجماع الأمة والعقلاء فيها، وسيكون بلا شك إثراءً للمصالح والمنافع.

وفي هذا يقول ابن القيم: وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم هو: بغي بعضهم على بعض، وعدوانه، وإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين، قصده طاعة الله ورسوله ومصالح الناس، فإنه أمر لا يضر ولا بد منه في النشأة الإنسانية.

أما إذا دخلت الأهواء والشهوات وظهرت الأحقاد والأضغان وتدخلت المصالح الشخصية، فإن هذا يكون نذير شؤم وفشل وعداوات لا تنقطع ولا تراعي أي خلق أو قانون، وتؤدي حتماً بأي أمة إلى فرقة ونزاع، وضياع، ولهذا حذرنا الله - سبحانه - من هذا التنازع فقال: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (الأنفال: 46).

ويذكرنا بدرس التنازع والاختلاف في أُحد فيقول: حتى\" إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم (آل عمران: 152).

وكان هذا تحذيراً للمؤمنين من تنازع الأهواء وتفرق القلوب والاتجاهات.

يقول الإمام ابن تيمية - يرحمه الله -: \"وهذا التفرق الذي حصل في الأمة من علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها.. وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا أصلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب\". والذي أصاب المسلمين اليوم جاءهم من تفرقهم المشين، ومن اختلاف وجهاتهم وتشتت انتمائهم وطاعتهم لأعدائهم.

من يصدق أن المسلمين اليوم يؤمنون بالإسلام ويسعون إلى الوحدة الجامعة، وفيهم من غُزي بالأفكار المنحرفة والمذاهب الشاردة التي يزعم أهلها أنهم أعلم من الله بأحوال خلقه وأعدل منه في تقسيم رزقه؟! ثم يقولون بما يقول به أعداؤهم، وبما توحيه إليهم شياطينهم، أن كل شيء مباح، وكل ضلال مشاع، وكل إرادة طليقة إلى الفساد، ويُنشر ذلك في الكتب ويتردد في المجالس ويذاع في التلفاز، فيرهفون لها سمع الغبي، وتدفعهم شهوة الإباحية إلى شراء الضلالة بالهدى، والخبيث بالطيب، ويؤثرون أن يكونوا كالذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم 12 (محمد).

وهل صحيح أن المسلمين اليوم يقرؤون قول الحق - سبحانه -: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (آل عمران: 103)؟

وهل صحيح أنهم يتطاوع بعضهم لبعض، ويسمع بعضهم لنصح بعض، ولا يصغون لأقوال أعدائهم، كما أمر ربهم: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 100 (آل عمران)؟ إن الفتن والاختلافات التي تعصف بالمسلمين اليوم هي من شيئين:

الأول: اختلاف الأهواء وعدم الالتزام بضوابط وثوابت الأمة. وصدق الله إذ يقول - سبحانه -: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول (النساء: 59)، فإذا ضاعت الضوابط الحاكمة في الأمة انحل عقدها، وأمتنا اليوم قد انحل ضابطها الشرعي والإيماني، وانحل حتى ضابطها القانوني المدني، فلا حكم في كثير من دولها إلا لمتسلط أو دكتاتور بالهوى والتشهي، فكيف يكون هناك اتفاق أو اجتماع واتحاد على الخير؟

الثاني: سماع أقوال الأعداء والثقة بهم والطاعة: فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا 52 (الفرقان)، يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين 149 (آل عمران).

وأمتنا اليوم لم تتعلم من الدروس، دروس الخداع الذي استعمله المستعمرون في هدم الخلافة، ودروس الخداع الذي صاحب الاستعمار مئات السنين، ودروس الخداع الصهيوني ودروس خداع الحلفاء، ودروس خداع الأمريكان في العراق، والخداع الذي يحاك اليوم في بيروت.

والحقيقة أن أمتنا اليوم كأنها تهوى الخلاف وتعشق العداء وتبادر إليه، وتتمادى كل يوم في قطع الأواصر، وسحق سبل المودة، وتتقدم نحو احتراب نفسها، ومصادقة عدوها، وإهلاك جسدها، والغريب أن ذلك أصبح ثقافة يتغذى بها الكثيرون، ولا تجد من كثير من سلطاتها وأجهزتها إلا الانحدار إلى هذا الدرك الأسفل بغباء منقطع النظير، ودون أن تلتفت إلى عدوها الذي يسفك دماءها ويأخذ خيرها، فهل تستطيع السلطات أن تتحالف مع شعوبها، ثم مع إخوانها ودولهم أم أن الخلاف والضياع أصبح قدرنا الذي لا فكاك منه؟ نسأل الله السلامة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply