فسوف يأتي الله بقوم .. (1 / 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله معز أوليائه ومذل أعدائه، حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 

فإن الله قد أنعم علينا بأن جعلنا خيرَ أمةٍ, أُخرجت للناس قال تعالى: \"كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ\" (آل عمران: من الآية110)، وبما تفضل به علينا أن أرسلَ إلينا خاتمَ الأنبياءِ - صلى الله عليه وسلم - مُنزِلاً معه خير الكتب، متعهداً بحفظه قـال تعـالى: \"لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِن حَكِيمٍ, حَمِيدٍ,\" (فصلت: 42)، وقال - سبحانه -: \"إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ\"(الحجر: 9).

فجعل الله القرآن هدىً ونوراً، من آمن به هداه، ومن زاغ عنه ضل وتاه، قال ابن عباس: \"تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة\". وإن منه المحكم ومنه المتشابه. والواجب اتباع المحكم والعمل به، والإيمان بالمتشابه.

 

ومن آياته المحكمات التي يجب اتباعها والسعي في تحصيلها قوله تعالى: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ, ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ\" (المائدة: 54).

إن هذه الآية من الأهمية بمكان، فهي نور وبصيرة لمن أراد نُصرَةَ الدِّينِ، وأراد عُلوَّ شَأنِ المؤمنين، لاسيما في مثل هذا العصر الذي ضَعُفَ فيه المسلمون إلا من رحم الله - فأصبحوا شذر مذر، كالغنم الشاتية في ليلة مطيرة، تتناولهم السباع من كل حدب وصوب، ولا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه، ولذا سوف نقف مع الآية السابقة المحكمة، فهي وأيم الله هدى من كل ضلال، ونور من كل ظلام.

فإن اللهَ جعلَ فيها صفات القوم الذين سيكون النصر على أيديهم والظفر لهم وهذه الصفات هي:

1- محبة الله لعباده.

2- محبة العباد لربهم.

3- الذلة على المؤمنين.

4- العزة على الكافرين.

5- الجهاد في سبيل الله.

6- عدم مخافة الملامة من الخلق في شرع الله.

 

فإن هؤلاء القوم الذين قد اتصفوا بهذه الصفات سيكونون بدلاً من القوم الذين تخلوا عن نصرة الدين ونشر التوحيد والعمل بهº لأنهم أصبحوا غيرَ أهلٍ, لأن يقومَ الدِّينُ على أكتافهم فهانوا على الله فاستبدلهم، وهذه سنةُ اللهِ الكونية الشرعية التي لا تبديل لها، قال تعالى: \"وَرَبٌّكَ الغَنِيٌّ ذُو الرَّحمَةِ إِن يَشَأ يُذهِبكُم وَيَستَخلِف مِن بَعدِكُم مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِن ذُرِّيَّةِ قَومٍ, آخَرِينَ\" (الأنعام: 133)، وقال تعالى: \"وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم\" (محمد: من الآية38)، ولأن هذا الدينَ منصورٌ وباقٍ, إلى قيام الساعة ولذا لا بد مِن وجود مَن يقوم به وهذا متمثلٌ في الطائفةِ المنصورةِ والتي سَتَظَلُ قائمةً إلى يوم القيامة بوعد الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.

 

وسنتطرق في هذه العجالة لهذه الآية من سورة المائدة، إشارة لمعناها، ووقوفاً مع هذه الصفات الجليلة.

فقد اختلف المفسرون في تحديد الردة المقصودة، ومَن يكون هؤلاء القوم؟ وقد أطال فيها المفسرون الكلام، وسنُشِير إلى طَرَفٍ, منه مع الوقوف على القول الصحيح. فقد قال البغوي: \"قال الحسن: عَلِمَ اللهُ- تبارك وتعالى -أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه، واختلفوا في أولئك القوم مَن هم؟ فقيل أبو بكر وأصحابه، وقيل: هم الأشعريون، وقيل: هم أحياء من اليمن\". وذكر ابن الجوزي في (زاد المسير) ستة أقوال في المراد بالقوم في الآية.

واختلفوا في تحديد الردة المقصودة على أقوال كثيرة. حتى إنهم أحصوا الردة التي حصلت في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر.

 

والصحيح أن الآيةَ شاملةٌ لجميع ما ذكروه، حيث إنها مِن ذِكرِ المغيبات وكل ردة حصلت وقُمعت وانتصر المسلمون بعدها فهي داخلةٌ ضمن هذه الآية، ولا وجه لتقييد قوم دون آخرين، أو تخصيص ردة دون غيرها، وهذه الآية باقية إلى قيام الساعة، جارٍ, العمل بها، وهي منبع الطائفة المنصورة، منها يشربون نهلاً بعد عللٍ,.

 

قال ابن عطية: \"قال الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة: نَزلتِ الآيةُ خِطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة\". وقال الطاهر بن عاشور: \" فكل أمة أو فريق أو قوم تَحَقَقَ فيهم الوصفُ فهم مِنِ القوم المنوه بهم\". وقال شيخ الإسلام: \"وهذه حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة\".

 

والقاعدة المشهورة في أصول التفسير أن \"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب\". وهذا إذا وردتِ الآيةُ لسبب خاص، فتكون أحكامها عامة، ولا يظل حكمها حبيس من نزلت في شأنه، بل يدخل فيها من نزلت فيه وتبقى للأمة عامة، وهذه الآية لم يذكرِ المفسرون سبب نزول لها صحيحاً صريحاً، فمن باب أولى إبقائها عامة كما أُنزلت.

فلقد تَحقق وَعدُ اللهِ مرةً ومرات، وسيظل متحققاً وواقعاً ما قام المسلمون بهذه الأوصاف، وَوَعدُ اللهِ مَذخُور لكل مَن يتحلى بهذه الأوصاف الجليلة.

 

وإن هذه الآية جاءت في سياق التحذير من موالاة اليهود والنصارى، وإن ذلك سبب في الردة، وإذا ارتدوا فإنهم ليسوا بأهلٍ, لنصرة الدين، قال القاسمي: \" لمّا نهى - تعالى - فيما سلف- عن موالاة اليهود والنصارى، وبَيّنَ أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين بقوله: \"فَإِنَّهُ مِنهُم\" (المائدة: من الآية51)، وقوله: \"حَبِطَت أَعمَالُهُم\" (المائدة: من الآية53) شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق ونوه بقدرته العظيمة، فَأَعلَمَ أنه مَن تولى عن نُصرَةِ دينه وإقامة شريعته، فإن الله سيستبدل به من هو خيرٌ لها منهم، وأشد منعة، وأقوم سبيلاً\". وقال البقاعي: \" \"مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ\" (المائدة: من الآية54) معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم \"فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ\" بوعد صادق لا خلف فيه \"بِقَومٍ,\" يكون حالهم ضد حالهم يثبتون على دينهم\" ا. هـ.

 

فبَيّنَ المولى - عز وجل - أن فئاماً من الناس سيرتدون عن دينهم ويُعرِضون عنه، ولكن لن يتركَ اللهُ هذا الدينَ يضيع بل سيأتي الحكيم الخبير بفئام آخرين ينصرون الدين ويُعِزٌّونَه ويعزرون أصحابه، متصفين بصفات جليلة كريمة، وهذا بفضل الله وكرمه وحكمته، وهو صاحب الفضل والكرم. وقال السعدي: \"يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتد عن دينه، فلن يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه، وأن لله عباداً مخلصين ورجالاً صادقين قد تكفَّلَ الرحمنُ الرحيمُ بهدايتهم وَوَعَدَ بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافاً وأقواهم نفوساً وأحسنهم أخلاقاً\".

 

وبعد أن أوضحنا معنى الآية إجمالاً، نقف مع صفات نَصَرَةِ الدِّينِ وحُمَاةِ الشريعة:

بَيَّنَ اللهُ أنه بعد ضعف الإيمان وتلاشيه من قلوب عباده بسبب غيهم وضلالهم وتقصيرهم في حقوق ربهم، فإنه يستبعدهم عن استخدامهم في نصرة دينهº لأنهم قد أصبحوا غير مؤهلين لهذه المنزلة الشريفة، والمكانة الرفيعةº لأنهم عن نصرة الدين قد ضلوا، وحينئذ فقد خابوا وخسروا. وبين أن مَن يأتي بهم تتوفر فيهم ستُ صفاتٍ, هي أهم المقومات التي يتصف بها المصلحون الجُدُدُ والذين سيَقُومُ الدينُ على كواهلِهم وسيتحملون أعباءَه، قال الشوكاني: \"وصف - سبحانه - هؤلاء بهذه الأوصاف العظيمة، المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء\".

 

ولولا أهمية هذه الصفات عن غيرها لما اكتفى بذكرها هنا دون سواها والمقام يقتضي التوضيح والتبيين لصفات من سَيَنصُرُ الدِّينَ حين يقع الضعف والخمول. والقاعدة الشرعية تقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. فذِكرُه هنا لهذه الصفاتِ، صفاتُ نَصَرَةِ الدِّينِ وحُمَاةِ العقيدةِ، والاقتصار عليها، لدليلٌ على عِظَمِها وأهميتِها، بالإضافة لقيامهم بالواجبات وهذا لا نزاع فيه بل هو من البدهيات. وقد جاء وَعدُ اللهِ باستخلاف عبادِه الصالحين مُجمِلاً لصفاتهم في قوله تعالى: \"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يَعبُدُونَنِي لا يُشرِكُونَ بِي شَيئاً\" (النور: من الآية55). فهذا وَعدٌ مِنَ الله بأن يستخلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتكون لهم السيطرة في الأرض، ونفوذ الكلمة، والسبب في هذه القوة والتمكين هو الإيمان والعمل الصالح، ثم بَيّنَ هذا الإِجمَالَ في الآية التي معن، فكانت الأعمال الصالحة هناك هي الصفات الست هنا.

 

ولا يَظنُ ظانٌ أني أحصرُ الشخصيةَ الإسلامية بعموم في جميع الأزمنة والأمكنة في هذه الصفات الست، وإنما وَكدِي أن نُصرَةَ الدينِ تَشتَرِطُ توفرَ هذه الصفات وبدونها لا يتم التمكين لعباد الله. فصفات المُستَخلَفِين محصورة للقيام بواجب الاستخلاف في هذه الصفات. وإن هذه الصفاتِ لجليلةٌ عظيمةٌ يَنبَغِي إِفرَادُ كلِ صفةٍ, بحديثٍ, مُستَقِلٍ, عنها، ولكن نكتفي بِذِكرِ طَرَفٍ, مِنَ الحديث. وما لا يُدرَكُ كُلٌّه لا يُترَكُ جُلٌّه. والآن وقت الشروع في الحديث عن هذه الصفات الجليلة القدر، العظيمة النفع.

 

الصفة الأولى والثانية: المحبة: \"يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ\":

وهي محبة الله لأوليائه، ومحبتهم له. وهي متبادلة بين الطرفين، والأولى نتيجة للثانية، فإن العبد إذا سار في طاعة الله ومرضاته واتبع هداه، وبَعُدَ عن معاصيه وسخطه، واجتنب الضلال، بَلَغَ مرتبةَ المحبةِ فأصبح مُحِبّاً لمولاه، ساعياً في رضاه، باذلاً كل ما يستطيع في سبيل تحقق مناه. وإن منزلةَ المحبةِ لمنزلةٌ عظيمةٌ قال ابن القيم واصفاً هذه المنزلة: \"وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبِرَوحِ نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرمها فهو مِن جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام\".

وقال السعدي عنها: \" أجل صفاتهم أن الله \"يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ\" فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبداً، يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.

 

ومن لوازم محبة العبد لربه أنه لابد أن يتصف بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى: \"قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ\" (آل عمران: من الآية31)، كما أن من لوازم محبة الله للعبد أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح - فيما يرويه عن ربه-: \"وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه \"، ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى والإكثار من ذكره، فإن المحبة بدون معرفة الله ناقصة جداً، بل غير موجودة، وإن وُجِدت دعواها، ومن أحب الله أكثر من ذكره، وإذا أحب الله عبداً، قَبِلَ منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل\" ا. هـ.

 

ولِمَا للمحبة من منزلة جليلة جعل الله لإثباتها اختبارًا وامتحاناً بقوله تعالى: \"قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ\" (آل عمران: من الآية31)، فجعل اتباعَ الرسولِ دليلاً على صدق دعوى المحبة. ولا يتم تحصيل هذه المحبة إلا بهذه المتابعة في فعل الأوامر واجتناب النواهي، وبذل الوسع في تحقيقها، وكلما ارتقى العبد في المتابعة ارتقى في سُلَّمِ المحبة حتى يصبح من أحباب الله وأوليائه، فبه يسمع ويبصر، وبه يمشي ويبطش. يَسِيرُ في حِفظِ اللهِ وتَدبِيرِه فَنِعمَ السير ذالكم المسير.

 

وإن المحبة شطر العبودية، فقد عرف شيخُ الإسلامِ العبوديةَ بأنها غاية الذل وغاية الحب، فهي شطر العبودية، قال ابن القيم: \"ومعقد نسبة العبودية هو المحبة، فالعبودية معقودة بها، بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية\".

 

وقَدَّمَ اللهُ في الآية صفةَ المحبةِ على غيرها من الصفاتº لأنها أصل كل سعادة، وقدم محبته تعالى على محبتهم لشرفها وسَبقها. ووقع الوصف في جانب المحبة بالجملة الفعليةº لأن الفعل يدل على التـجدد والحـدوث وهو مناسب.

 

الصفة الثالثة: الذلة على المؤمنين: \"أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ\":

لقد وَصَفَ اللهُ الودودُ الرحيمُ عبادَه المؤمنين في محكم التنزيل بالشفقة والرحمة في تعاملهم فيما بينهم، كحال قدوتهم وإمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى في وصف رسول الله: \"بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ\" (التوبة: من الآية128)، وقال في نعته ونعت متبعيه: \"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم\" (الفتح: من الآية29).

قال ابن جرير عن معنى \"أذلة عليهم\" أرقاء عليهم، رحماء بينهم، من قول القائل: ذل لفلان إذا خضع له واستكان. ثم ساق بسنده عن علي رضي الله عنه: أهل رقة على أهل دينهم \". وقال ابن عطية: \"معناه متذللين من قِبَلِ أنفسهم غير متكبرين كقوله - عليه الصلاة والسلام -: \"المؤمن هَيِّنٌ لَيِّنٌ\".

وليس المعنى هنا من الذل والهوانº لأن ذلك ليس من صفة أولياء الله، ألا تقرأ الحديث الوارد في دعاء الوتر: \"ولا يذل من واليت\"، وحديث: \"ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه\"، قال السمعاني: \"ليس من الذل، وإنما هو من الذلة وهي اللين\". وقال البغوي: \"يعني أرقاء رحماء كقوله تعالى: \"وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذٌّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ\" (الإسراء: من الآية24)، ولم يرد به الهوان، بل أراد به أن جانِبَهم لَيِّنٌ على المؤمنين\".

 

وقال السمين الحلبي: \" أذلة جمع ذليل بمعنى متعطف، ولا يُراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مهان، ولا يجوز أن يكون جمع (ذَلُول) لأن ذلولاً يجمع على (ذُلُل) لا على (أذلة) وبه قال الزمخشري، والمعنى عاطفين على المؤمنين على وجه التذلُل لهم والتواضع، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ووقع الوصف في جانب التواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين بالاسم الدال على المبالغة دلالةً على ثبوت ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسم يدل على الثبوت والاستقرار، وقدم وصفهم المتعلق بالمؤمنين على وصفهم المتعلق بالكافرين لأنه آكد وألزم منه، ولشرف المؤمن أيضاً \". أهـ.

 

والمعنيان الذات ذكرها الحلبي واقعان في صفة المؤمنين لاختلاف طبقات معيشتهم، ولذا استعمله بحرف الاستعلاء (على) بدلاً من اللام، إشارة لحقيقة وضعهم العزيز، ولتضمنه معنى العطف والحنو، أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم.

 

إن لهذه الصفةِ مظاهرَ عديدةً منها محبة المؤمن وموالاته، والشفقة عليه، والألفة والإخاء والتواضع فيما بينهم، والإيثار، وسلامة الصدور، والذب عنهم، والعطف على الصغير، واحترام وتقدير الكبير وذي الشيبة، وإنزال الناس منازلهم، والصدق في التعامل، ومنها حقوق المسلم على أخيه، وغيرها كثير.

 

قال ابن كثير عن هذه الصفة: \"هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -\" الضحوك القتال \"فهو ضـحوك لأوليائه قَتّال لأعدائه\".

 

ولم يقتصر المولى عز في علاه على صفة الذلة على المؤمنينº لأنه ربما توهم البعض أن ذلك لضعفهم وهذا خلاف المقصود فأتى على سبيل التكميل بصفة العزة على الكافرين وهي شقيقتها وهي التالية.

 

الصفة الرابعة: العزة: \"أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ\":

وفي مقابل الصفة السابقة، يقابلون أعداءهم الكفار بالعزة والغلظة، معتزين بدينهم، مترفعين بإيمانهم، لا خضوع ولا خنوع لأعداء الدين، أنوفهم في السماء مستشعرين قول العزيز الكبير: \"وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ\" (المنافقون: من الآية8)، وقول عمر بن الخطاب: \"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله\"، محتسبين أجرهم عند الله، باحثين عن رضا ربهم قال السعدي: فالغلظة والشدة على أعداء الله تقرِّب العبد إلى الله ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم. إذن نِعمَ العبادة تلك التي يوافق فيها العبدُ ربَه ومولاه.

 

قال ابن جرير: أشداء على الكافرين، غُلَظَاء بهم، من قول القائل: إذا أظهر العزة من نفسه، وأبدى له الجفوة والغلظة، - ثم ساق بسنده عن علي رضي الله عنه قال: أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال البغوي: \"أشداء على الكفار يُعادونهم ويغالبونهم، من قولهم: عَزَّه أي غلبه، قال عطاء: أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته\" ا. هـ.

 

ولا بد من إظهار هذه العزة والغلظة، ولا يُكتَفَي بما داخل القلب، ولا يعني هذا الظلم والتعدي على من لا يستحق ذلك منهم، كالمستأمنين والمعاهدين وأهل الذمة، أو في حال السِلمِ، ولكن بالقيام بالواجب المطلوب من عدم الخضوع لهم وعدم الإعجاب بما عندهم والانبهار بما وصلوا إليه من رقي وتقدم في الصناعات، والعمل بما جاء في الشريعة من اضطرارهم لأضيق الطريق، وعدم بدئهم بالتحية، وتطبيق الشُروطِ العُمَرِيّةِ عليهم، مع ما يَظهَرُ على المؤمنِ مِن العِزَّةِ عليهم، ولا يتعارض هذا مع دعوتهم والإحسان إليهم بما يتماشى مع ديننا الحنيف، وبدون تمييع لقضايا الأمة بِحُجِّةِ كَسبِهم وتَأَلُفِ قُلوبِهم.

 

ولكل موضع ما يلائمه، فللحرب ما يناسبها من إظهار القوة والخيلاء في مواطن القتال، ومن بذل الجهد في تقتيلهم بضرب الأعناق وفوق كل بنان، وأخذ أموالهم غنائم، ونسائهم سبايا، ومعاملتهم بما شرع الله في حال الحرب كما قرره الفقهاء في كتبهم في كتب الجهاد، ولحال السِلمِ ما يلائمها، والمهم هو إظهار العزة، وعدم الاكتفاء بما في القلب، كما سبق في كلام ابن جرير، و قال البقاعي: \"أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم، لعلمهم أن الله خاذلهم ومهلكهم، وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم\". وقال الشوكاني: \"يظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين\".

 

قال سيد قطب: \"فهؤلاء فيهم على الكافرين شِماس وإباء واستعلاء، ولهذه الخصائص هنا موضع، إنها ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس، إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين، إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم، ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى، وبغلبة قوة الله على تلك القوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية.. فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك، في أثناء الطريق الطويل\"ا. هـ.

 

وإن هذه الصفة أَضحَتِ اليوم في عداد المفقودات في هذا الزمن الغابر، حتى إنك ترى المسلمين خاضعين ذليلين لأعداء الدين يسترحمونهم ويستعطفونهم بشهوة أو بشبهة وكلاهما في حاصل الأمر سيان، ويقلدونهم في الملبس والمأكل، حتى أمسوا قدوة لهم، فتقمص المسلمون رداء الذلة، وارتدوا إزار الصغار بسبب هوانهم على الله، إلا مَن رحم ربي، والبعضُ ضَّلَ طَرِيقَ العِزَّةِ فظنوها في مجرد جَمعِ الأموال أو الجلوس عند الملوك وذوي الجاه، قال ابن تيمية: قال بعض الشيوخ: \" الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله \"ا. هـ.

 

بينما العزة الحقيقية قاصرة على الالتزام بطاعة الله واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

فسبحان ربي جعل هؤلاء المتخاذلين الذلة لأعداء الدين، والعزة على المؤمنين، فعجباً لحالهم ولصنيعهم، وبعد ذلك أمسوا يلومون ويخطئون من كان ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً على الكافرين.

 

ومن المهم في الصفتين السابقتين النظر في ملاءمتها للحالة الواقعة، فيُرَاعِي الشخصُ الموقفَ الذي هو فيه وما يناسبه، قال الأمين الشنقيطي: ويُفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدةº لأن اللين في محل الشدة ضعفٌ وخورٌ، والشدة في محل اللين حمقٌ وخرقٌ، وقد قال أبو الطيب المتنبي:

 

إذا قيل حلم قل فللحلم موضع *** وحلم الفتى في غير موضعه جهل

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply