في التاريخ .. فكرة ومنهاج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

صحوَة ليسَ بَعدَهَا سُبَات:

 لو كان مقدرًا للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال القرون الطويلة التي مرت به، وهو مكبل بالقيود وهو في حالة إعياء عن الحركة، بعد أن حمل عبء الحضارة الإنسانية طويلاً، وبعد أن تعب فاسترخى ونام، والاستعمار الغربي إذ ذاك فتى، فتهيأت له الفرصة، ودانت له معظم أطراف الأرض. وكان ثقله كله على صدر العالم الإسلامي النائم!

 

لو كان مقدراً للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء. وفي إبان فتوة الاستعمار وقوته... ولكنه لم يمت... بل انتفض حياً كالمارد الجبار، يحطم أغلاله وينقض أثقاله، ويتحدى الاستعمار الذي شاخ.

 

وحيثما مد الإنسان بصرهº شعر بهذه الانتفاضة الحية، وشعر بالحركة والتوفر للنضال، حتى الشعوب التي ما تزال في أعقاب دور الاسترخاء.. حتى هذه الشعوب يدرك المتأمل في أحوالها أن الحياة تدب في أوصالها ويرى خلال الرماد وميض نار، توشك أن يكون لها ضرام.

 

ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويتها الكامنة بعد قرون طويلة من النوم والاسترخاء ومن الضعف والخمود، ومن الضغط والقسر، ومن الاحتلال البغيض الذي بذل جهده لتقطيع أوصالها وإخماد أنفاسها.

 

إنه عقيدتها القوية العميقة، هذه العقيدة التي لم يستطع الاستعمار قتلها على الرغم من جهود الاستعمار الفكري والروحي، والاجتماعي والسياسي... هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى الاستعلاءº لأن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين. كما تدعوهم إلى المقاومة والكفاح لتحقيق هذا الاستعلاء، وعدم الخضوع للقاهرين، أياً كانت قوتهم الماديةº لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله، جبار السماوات والأرض، القاهر فوق عباده أجمعين.

 

هذه العقيدة الحية هي التي حفظت لهذه الشعوب قوتها الكامنة، وبعثتها بعثاً جديداً. والذي يراجع جميع النهضات والانبعاثات التي قامت في هذه الرقعة لمقاومة الاستعمار يجدها تستند أصلاً إلى هذه العقيدة.

 

هذه حقيقة كبيرة تستحق الالتفات لكي ندرك قيمة هذه العقيدة في كفاحنا، ولكي ندرك أن الاستعمار لم يكن عابثاً، وهو يحاول تحطيم هذه العقيدة، وتحطيم دعاتها في كل أنحاء العالم الإسلامي. فالاستعمار كان يدرك خطر هذه العقيدة على وجوده، وما قدره الاستعمار كان حقاً، وقد وجده حقاً، والصيحات تأخذه من كل جانب، وأصحاب العقيدة في الله القهار يقودون الصفوف المكافحة ضد الاستعمار.

 

وإن يوم الخلاص لقريب. وإن الفجر ليبعث خيوطه. وإن النور سيتشقق به الأفق. ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته، ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه. ولو كان مقدراً له الموت لمات. ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحهº لأنها من روح الله، والله حي لا يموت.

 

التجديد مهمة الإسلام:

 مهمة الإسلام دائماً أن يدفع بالحياة إلى التجدد، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الانطلاق والارتفاع.

إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفاً. ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها. لا تبرير ضعفها أو تزيينه.

 

الإسلاَم حركة إبدَاعِيَّة شامِلَة:

يصعب أن نفهم أي جانب منفرد من جوانب الإسلام المتعددة، ما لم نفهم طبيعة الإسلام، كوحدة متكاملة.. ليس الإسلام شعائر تؤدى فحسب، وليس الإسلام دعوة أخلاقية فحسب، كذلك ليس الإسلام مجرد نظام للحكم، أو نظام للاقتصاد، أو نظام للعلاقات الدولية.. إن هذه كلها جوانب منفردة من جوانب الإسلام المتعددة، ولكنها ليست هي كل الإسلام.

 

إن الإسلام حركة إبداعية خالقة، تستهدف إنشاء حياة إنسانية غير معهودة قبل الإسلام، وغير معهودة في سائر النظم الأخرى التي سبقت الإسلام، أو لحقته.. تلك الحركة الإبداعية تنشأ عن تصور معين للحياة بكل قيمها وكل ارتباطاتها، تصور جاء به الإسلام ابتداء، وهي حركة تبدأ في أعماق الضمير ثم تحقق نفسها في عالم الواقع، ولا يتم تمامها إلا حين تتحقق في عالم الواقع. وفي طبيعة النفس البشرية استعداد لتحقيقه، حين تستجيب لدعوته، وحين تتأثر به تأثراً إيجابياً لا يكتفي بالمشاعر، أو الشعائر.

 

وحين تستقر العقيدة الإسلامية في الضمير البشري استقراراً حقيقياً، فإنه يستحيل أن تظل مجرد شعور وجداني في أعماق الضمير. إنها لا بد أن تندفع لتحقيق ذاتها في عالم الواقع، ولتتمثل حركة إيجابية تبدع الحياة كلها، وما ينشأ عنها من ألوان وأطياف وتعمير.

 

ورجال الصدر الأول رضوان الله عليهم عندما تلقوا القرآن تلقياً حقيقياًº شعروا أن كيانهم النفسي كله يتزلزل ليعاد تركيبه من جديد، وفق ذلك التصور الجديد الذي جاءهم به الإسلام، وأن الكيان القديم الذي بني في الجاهلية، وفق تصورات معينة للحياة، ووفق واقع معين للحياة، لا يمكن أن يرقع ترقيعاً بالتصور الإسلامي الجديد، بل لا بد من زلزلةٍ, وتصدعٍ, كاملين في الكيان القديم، ليعاد إنشاؤه وفق هندسة جديدة، ووفق تصميم جديد.. {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ, لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ اللَّهِ... [21]}[سورة الحشر].

 

ولقد تصدع ما هو أقوى من الجبل، تصدع كيان النفس البشرية التي مسها هذا القرآن مساً حقيقياً، ليعاد تركيبها على نسق غير مسبوق.

 

محال إذن حين تتم العقيدة الإسلامية في قلب أن تظل قابعة سلبية في هذا القلب، أو أن تتحول إلى عبادات وشعائر، ثم تنتهي هناك، إنها لا بد أن تنطلق محاولة إبداع الحياة كلها وفق التصور الإسلامي للحياة، وفي الطريق تأخذ العبادات والشعائرº لأنها القاعدة التي تقوم عليها الصلة بين القلب البشري وخالقه، هذه الصلة التي يستمد منها العون والتصميم والاندفاع.

 

وقد يكون طريق الإبداع للحياة الجديدة هو تطويرها ولكنه لن يكون ترقيعها، وفرق بين أن يكون لديك تصميم معين للبناء تنفذه شيئاً فشيئاً، وأن ترقع بناء قائماً على تصميم آخر، إن هذا الترقيع لن يحقق لك في النهاية بناء جديداً!.

 

إن الإسلام يرسم صورة معينة للحياة البشرية، صورة متكاملة، يحدد فيها النموذج البشري الذي يريد تكوينه، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تربط هذا المجتمع، ونظام الحكم والعلاقات الدولية التي تنظم الحياة العامة.

 

هذه الصورة المعينة التي يرسمها الإسلام للحياة لا يمكن تحقيقها بمجرد قراءة القرآن تجويداً وترتيلاً، ولا بمجرد تسبيح الله بكرة وأصيلا، إنما هي تتحقق بترجمة المدلولات القرآنية إلى واقع عملي في حياة البشر، وبترجمة التسبيح إلى حركة وجدانية تتحول إلى حركة منظورة في عالم الواقع، وبترجمة المشاعر إلى صور تعبيرية ليس الهدف فيها هو مجرد التعبير، ولكن ما وراءه من حركة وتطوير.

 

وهذا المعنى كان مستقراً استقراراً تلقائياً في نفوس رجال الصدر الأول رضوان الله عليهم ومن ثم أمكنهم أن يغيروا واقع الحياة في فترة تشبه الأحلام.. روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: \' كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن\'.

 

والرجل يقول: \'حتى يعرف معانيهن\' والمعرفة شيء غير مجرد الفهم.. المعرفة إدراك كامل، وانفعال بهذا الإدراك يتم في أعماق النفس، ثم: \'العمل بهن\'.

 

بهذا الإدراك الكامل لوظيفة القرآن أمكن إنشاء حياة جديدة كاملة لم يعرفها العرب قبل الإسلام، وبمثل هذا الإدراك الكامل يمكن أن يحقق الإسلام ذاته في عالم النفس، وفي عالم الواقع في كل زمان ومكان.

 

ولا يمكن تقسيم الإسلام إلى أجزاء، وفصل جزء منه عن الآخر، لا في طبيعة الإسلام، ولا في آثاره في النفس البشرية، أو في واقع الحياة. فليس الإسلام تفسير آية أو حديث في جانب، ثم دعوة إلى الجهاد في جانب، ثم عرض طرف من السيرة في جانب، ثم أدب مستقل في جانب، ثم نظام حكم محلي ودولي في جانب.. كلا.. إن الإسلام تصور كامل للحياة، ومنهاج كامل للحياة.

 

هذا التصور الكامل لطبيعة الإسلام هو الذي نحب أن يستقر في أخلاد المسلمين، وفي المقدمة دعاة الإسلام في هذا العصرº لأنه التصور الذي استقر في أخلاد الصدر الأول، فأبدع الحياة الإسلامية الجديدة، فكانت بدعاً في عالم الحياة كلها وما تزال.

 

في التاريخ.. فكرة ومنهَاج:

التاريخ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة واحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان.

 

ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية، ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية. وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة، ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد.

 

 

 

ومتى استقام البحث على ذلك المنهج الذي أسلفنا، وبرزت تلك المقومات الأساسية لطبيعة الدعوة، وطبيعة الرسول، وطبيعة البيئة التي استقبلت الدعوة واستقبلت الرسول، وطبيعة المجتمع الإنساني الذي كان يعاصر مولد الإسلام، وطبيعة العقائد والأفكار التي كانت تسوده يوم ذاك.

 

متى برزت تلك المقومات الأساسيةº سهل تتبع نشاطها وتفاعلها وصيرورتها، وأمكن تصوير وتصور خطوات الدعوة على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هذه الخطوات التي تسير متأثرة في هذا الجيل: أن نعرف كيف اختار الرسول رجاله، ومن أية طينة كان هؤلاء الرجال؟ وكيف صاغ الرسول رجاله؟ وكيف أعدهم للمهمة العظمى؟ وكيف بنى الرسول نظامه، وعلى أي الأسس قام هذا النظام الجديد؟ وماذا كان في طبيعتها، وفي ظروفها، وفي رجالها، وبيوتها وعشائرها، وفي علاقاتها الاجتماعية، وملابساتها الاقتصادية، والجغرافية والحيوية.. من استعداد لتلبية هذا الحدث، أو معارضته؟

 

إلى آخر هذه المباحث التي تصور المرحلة الأولى من مراحل حياة الإسلام، أو من تاريخ الإسلام والتي تصح تسميتها باسم: \'الإسلام على عهد الرسول\'.

 

ثم تجيء المرحلة الثانية، مرحلة: \'المد الإسلامي\' وذلك عندما انساح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. عندما فاض ذلك الفيض الانفجاري العجيب الذي لم يعرف له العالم نظيراً في سرعته وفي قوته. لا من ناحية الفتح العسكري وحده، ولكن من ناحية التأثير الروحي، والفكري، والاجتماعي أيضاً: أي من الناحية الإنسانية الشاملة التي شهدت تحولاً كاملاً في خط سير التاريخ على مولد هذا الدين الجديد، وانتشاره ذلك الانتشار العجيب!.

 

ويمكن تتبع أعمال الهدم والبناء التي قام بها الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة التي امتد إليها، وتفاعله مع الأفكار والعقائد التي كانت سائرة فيها، ومع النظم الاجتماعية التي كانت تظللها، ومع الظروف الاقتصادية، والمخلفات التاريخية، والملابسات الإنسانية، في أخصب بقاع الأرض وأكثرها حضارة في ذلك الزمان.

 

ثم يجيء دور \'انحسار المد الإسلامي\'، وعلى ضوء دراسة المراحل التاريخية السالفة يمكن أن نتبين أسباب هذا الانحسار، وعوامله الداخلية والخارجية جميعاً. كم من هذه العوامل من طبيعة العقيدة الإسلامية، والنظام الإسلامي؟ ثم هل كان هذا الانحسار شاملاً أم جزئياً؟ وسطحياً أم عميقاً؟ وما أثر هذا الانحسار في خط سير التاريخ، وفي تكييفه أحوال البشر، وفي قواعد التفكير والسلوك، وفي العلاقات الدولية والإنسانية؟ وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانية بالقياس إلى نظائرها في الإسلام؟ وماذا كسبت البشرية، وماذا خسرت من وراء انحسار المد الإسلامي وظهور هذا المد الأوربي الذي ما تزال تظلنا بقاياه.

 

ومن ثم يصبح الحديث \' عن العالم الإسلامي اليوم \' طبيعياً وفي أوانه، وقائماً على أسسه الواضحة الصريحة وليس حديثاً تمليه العاطفة أو التعصب من هذا الجانب أو ذاك ويصبح التاريخ الإنساني في ضوء منهجنا الخاص مسلسل الحلقات متشابك الأواصر، ويتحدد دور الإسلام في هذا التاريخ في الماضي وفي الحاضر وتتبين خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر.

 

ومن ثم فالحقيقة تحتم علينا أن نعيد كتابة التاريخ الإسلامي من زاوية رؤية أكمل، وأدق، وأعمق، فنحن الأمة الإسلامية إنما ننظر الآن إلى أنفسنا وإلى سوانا بعدسة صنعتها أيد أجنبية عنا، أجنبية عن عقيدتنا وتاريخنا، أجنبية عن مشاعرنا وإدراكنا، أجنبية عن فهمنا للأمور وإحساسنا بالحياة وتقديرنا للأشياء..

 

ثم هي بعد ذلك كله مغرضة في الغالب تبغي لنا الشر لا الخير. لأن مطامحها ومطامعها ومصالحها الخاصة وأهدافها القومية.. كلها تدفع بها دفعاً لأن تبغي لنا الشر، لأن خيرنا لا يتفق مع أطماعها، ولأن مصالحنا تعطل مصالحها.

 

وحتى على فرض تجرد هذه الأيدي التي تكتب لنا تاريخنا من الغرض والهوى، فإن أخطاء المنهج الذي تتبعه كفيلة بأن تشوه الحقائق التاريخية في غير صالحنا.. وصالحنا في أن نرى حقيقة دورنا في تاريخ البشرية، وأن نعرف مكاننا في خط سير التاريخ، وأن نتبين قيمتنا في العالم الإنساني.

 

وليست فائدة هذا فائدة نظرية فكرية مجردة، بل إنها أكبر من ذلك وأشمل، فعلى ضوئها يمكن أن نحدد موقفنا الحاضر، ودورنا المقبل، وأن نسير في أداء هذا الدور على هدى ومعرفة بالظروف والعوامل العالمية المحيطة بنا، وبمقدار الطاقة التي نواجه بها هذه الظروف والعوامل.

 

ونحن ندرس في مدارسنا ومعاهدنا على وجه الخصوص تاريخاً إسلامياً مشوهاً، وتاريخاً أوربياً مضخماً، لا عن مجرد خطأ غير مقصود، ولكن عن نية مبيتة من الاستعمار الغربي الذي يهمه أن لا نجد في تاريخنا ما نعتز به، وأن نرى أوروبا على العكس هي صاحبة الدور الأول في التاريخ الإنساني، فإذا يئسنا من ماضينا، واستعرضنا دورنا في حياة البشرية، وامتلأت نفوسنا مع ذلك إعجاباً بالدور الذي قامت به أوروبا، وإكباراً للرجل الأبيº سهل قيادنا على الاستعمار، وتطامنت كبرياؤنا القومية، وذلت رقابنا للمستعمرين.. وتحت تأثير هذه العوامل كتب التاريخ الذي ندرسه في مدارسنا ومعاهدنا بوجه خاص.

 

وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي على النهج والنسق الذي وصفناه هو وحده الكفيل بأن يكشف هذه الأباطيل وأن يثبت حقيقة الدور الذي أداه الإسلام، والدور الذي أدته الحضارة الأوروبية بعدما يصور طبيعة هذا الدين، وطبيعة النظام الذي ينبثق منه، ومدى ما منح البشرية من الخير والتقدم، وضخامة الدور الذي أداه لبني الإنسان.

 

وبعد فإنه ينبغي أن يقال: إن دراسة من هذا الطراز لن يكون من برنامجها تناول الحوادث التاريخية بالتسلسل الحرفي والتفصيل الوافي، فوظيفتها الأساسية أشبه شيء بوظيفة الخط البياني يشير ولا يحصي، ويرشد ولا يستقصي. وبعبارة أخرى: إن وظيفة دراسة من هذا النوع هي محاولة إيجاد عقلية تاريخية معينة، وصورة تاريخية خاصة، تفيد الذين يتناولون الحوادث التاريخية بالتفصيل، والشخصيات التاريخية بالتحليل.

 

وما من شك أن استقرار هذا النهج في حقل الدراسات التاريخية سيعين على وضوح خصائص الشخصية الإسلامية، والدور الإسلامي في حياة البشرية، الأمر الذي من شأنه أن تحلل الشخصيات الإسلامية بل الشخصيات الإنسانية في سياق صحيح.

 

إن قيمة هذا النوع من الدراسة أن يقيم النهج، ويشرع السنن، ويرسم الطريق، فإذا نجح في أداء مهمته كان ذلك توفيقاً أي توفيق.

 

طَريق وحيد:

 يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، إلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد.. طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه.. طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه.

 

إن أحداث العالم وملابسات الظروف وموقف الشعوب الإسلامية.. كلها تشير إلى هذه الطريق الوحيد الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية.. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة.

 

لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمناقشات لحسابه لا لحسابنا، وجعل في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم، وأقام أوضاعاً معينة، في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان. فإلي أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه.

 

إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب، أو كتلة الشرق.. كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية.. هذه وتلك بلاء ونقمة على الشعوب الإسلامية، الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه. والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه. والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين.

 

إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك، فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه.

 

إن طريقنا واضح، طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار، وأذنابه، وأوضاعه.

 

وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط إلى عجلة الاستعمار تحت أي اسم وأي عنوان-.. إنه طريق وحيد، طريق الكرامة، وطريق المصلحة.. وطريق الدنيا، وطريق الآخرة.. إنه الطريق إلى الله في السماء، وإلى الخير في الأرض.. وإلى النصر والعزة والاستعلاء.. إنه هو الطريق.

 

من رسالة: \'في التاريخ..فكرة ومنهاج\' للأستاذ/ سيد قطب رحمه ا

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply