منهجية التفكير كما يبرزها القرآن الكريم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى- بالتدبّر في كتابه وأمرنا من خلال كتابه بالتدبّر في كونه وخلقه وشؤونه، أمراً يأتي في مساق الاستفهام والنفي الإنكاري)أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها(. والآية تورّي بطريقة غير مباشرة و تكنّي بأن حاصل من لا يتدبر هو الختم على قلبه و العياذ بالله. وهكذا، تصبح الحالة الفكرية السلبية مؤشراً على الحالة الإيمانية السلبية فيما نفهمه من هذه الآية من الكتاب الكريم.

 

فماذا عن المنهج النبوي؟ إننا نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سلوكه وحاله ومقاله وسيرته قبل البعثة وبعدها يدعو إلى التدبر ويمارسه ويفجّره ويفتّقه ويستثمره وينجزه في أرض الواقع منهج دعوة وواقع دولة. وهو الذي قرأ قوله - تعالى –(إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)، ليقول معقباً في خشوع وتهيب من هذه الآيات الكريمات \"ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن\".

 

وما لاحظناه في آية)أفلا يتدبرون القرآن(من ربط الحالة الإيمانية بالحالة الفكرية يتأكد أيضا في الآية الثانية وفي تعليق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، فالذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض هم الذين يبيتون لربهم قياما ويذكرونه ويخشونه ويخافونه. وليس المقصود في هذين السياقين والتعليق النبوي عليهما مجرد التدبر الإيماني المحض، فهذا من ضرورات تصحيح العقيدة ومن مستلزمات قيامها أصلاً، وإنما يُراد بذلك أيضا التفكر العقلي الخالص والتأمل الذهني العميق الذي يفضي إلى الكسب المعرفي الصحيح.

 

نقول هذا انطلاقاً من الحالة التّعسة التي تعيشها جماهير الأمة الإسلامية، التي ألغت العقل إلغاءً شبه كامل، وحقّرت دورهُ وعطّلت استثماره، بل وإنها فعلت ذلك أحياناً باسم الإيمان توهماً منها أن من مستلزمات الإيمان الصحيح أن يقوم الإنسان بكبح جماح العقل ولجم أسئلته المزعجة القلقة المشاغبة، وظناً منها بأن هذه الأسئلة تؤدي إلى أن يتزعزع إيمانه ويتذبذب يقينه.

 

وهكذا كان الحصاد المر لخمسة قرون أسميها ويسميها غيري عصور الانحطاط والممتدة من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، كان الحصاد المر فيها الخرافة والشعوذة وتعاطي السحر وتصديق التنجيم والاعتماد على العرافة والكهانة على مستوى الاعتقاد، وكان الحصاد المر على مستوى السلوك التواكل، والتواكل يختلف عن التوكل، فالتوكل جزء من مستلزمات الإيمان والعمل أما التواكل فنقيض الإيمان.

 

وقد قرأتُ كتاباً منذ عشرين سنة لأستاذةٍ, أمريكية، تدرّس الأدب العربي والتاريخ العربي والفكر العربي، كتبتهُ لإرشاد بني جلدتها الأمريكيين للتعامل مع العرب إذا ذهبوا إلى بلادهم تعاملَ السائح أو التاجر أو السياسي أو الديبلوماسي وسمّته\"Understanding Arabs\" وتقول فيه: من الأمور التي عليك أن تعرفها أيها الأمريكي للتعامل مع العرب أنهم قوم لا يتحملون المسؤولية ويرفضون الاعتراف بالخطأ ويمسحون ذلك كله في إرادة الله وقدره. ولأنها جاهلة بالدين الإسلامي فإنها أضافت إلى ذلك أن هذا من مقتضيات دينهم الذي يرى بأن الفعل في الدنيا كله لله وأنه ليس للإنسان فيه كسب.

 

وهكذا كما قلنا، كان التواكل وكان الجهل وكان الكسل الذهني وكان العزوف عن العلم، وتُوّجَ ذلك بإغلاق باب الاجتهاد وشيوع التقليد فالتعصب المذهبي فتقديس السابقين فالرضا بالعلم الجاهز، وهو العلم الذي تعب فيه الأوائل ولكنه ليس علماً قابلاً للتطبيق أو صحيحاً لكل زمان ومكان لأنه ليس وحياً ولا شرعاً، وإنما هو اجتهاد عقلٍ, في زمان ومكان لتنزيل الوحي على واقعٍ, محدد. وعندما يزول هذا الواقع المحدد نحتاج إلى إعمالِ الذهن من جديد في كل مقتضيات الفقه. ولهذا يوجد الفرق بين الفقه وبين الشريعة وهذا الفرق لا يجد مسوّغه إلا في هذه الحقيقة. ولهذا كانت الشريعة خالدةً أما الفقه فمتحرك، وتنزيل الشرع إلى الواقع بجهد العقل يتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.

 

وأخيراً، انتهينا في القرن العشرين إلى التخلف التكنولوجي الذي أثمر تحكم الغرب فينا حتى أذلّنا هذا التحكم أيما إذلال، فنحن نشحذ لقمة الخبز كما نشحذ منهم الصاروخ والطائرة. بل إننا نأخذ منهم أبسطَ ما استطاع الإنسان أن ينتجه منذ عهد الفينيقيين والسومريين والفراعنة وهو القمح، ونأخذ منهم آخر تجهيزات التكنولوجيا في مجل الاتصال أو الحرب.

 

وهذا عجزٌ ولكنه عجز لا يتعلق بمقتضيات القوة والتدافع، وإنما يتعلق بهذه الجذور التصورية والمعرفية التي بدأتها متسلسلة من سوء الظن بالعقل والخشية منه على الإيمان، إلى وجود خللٍ, في العقيدة وخلل في السلوك وضياع على مستوى الرؤية والمنهج. ولإنقاذ حالنا التعسة مما نحن فيه فإن علينا أن نعيد الاعتبار إلى العقل بصفته نعمةً من الله، وهذه النعمة سوف نُسأل عنها، وبصفة العقل وسيلة من وسائل التكريم والبقاء والتدافع فإننا سوف نُسأل عن هذه الوسيلة. وبصفة العقل قرين الإيمان فليس العقل متضارباً مع الإيمان ولا مُقللاً من قوته وعمقه، ولا هازاً لأركانه، بل على العكس العقل هو الذي يصون الإيمان تماما كما أن الإيمان هو الذي يصون العقل. ذلك أن الإيمان بدون عقلٍ, يصبح خرافة كما أن العلم بدون إيمان يصبح إلحاداً، فمن أجل دينٍ, بلا خرافة وعلمٍ, بلا إلحاد كما يقول المفكر الإسلامي الفذ \"علي عزت بيكوفيتش\" في كتابه القيم \"البيان الإسلامي\" وهو بضع ورقات سجن عليها خمسة عشر عاما بمعدل سنة سجن لكل ثلاث ورقات، والكتاب أُلّفَ قبل عام سبعة وستين وتسعمائةٍ, وألف، ومع ذلك فلا يزال لم يفقد بعدُ قيمته بل إنه لا يزال متقدماً على كثيرٍ, مما تُدبجهُ يَراعاتُ الحركة الإسلامية في بلاد المشرق الإسلامي.

 

أقول، من أجل ذلك كان لابد أن نعود إلى الأصول، وقد عدت إلى القرآن الكريم وحاولت أن أستقي منه ضوابط وأسس لوضع منهجيةٍ, عامة لهذا الاعتبار وخلصت إلى هذه التأملات الخالصات لم أتكأ فيها على كتاب للتفسير ولا علم أصول التفسير، وإنما هي تأملاتٌ إن وُفقت فيها فمن الله - عز وجل - وإن أخطأت فلا يحسب ذلك إلا عليّ، وهذا لا يُلزم الإسلام ولا عقيدة الإسلام ولا علم التفسير ولا علم القرآن بل لا يُلزم أحداً في الدنيا، ولمن قبلها أن يستثمرها في بناء الذات الإسلامية، ولمن رفضها أن يراسلني ويكاتبني تصويباً وتصحيحاً، فلا خير فيمن لا يقبل النصيحة ولا يستمع إليها.

 

المنطلق: ونبدأ من المنطلقات لأن المنطلقات دائما تكون ذات طابع تأسيسي. وفي المنطلقات نجد كيف أن القرآن الكريم يعيد الاعتبار للعقل ويضعه في مقام خاص في منطلقيه التأسيسين المنطلق النسقي والمنطلق التاريخي. أما المنطلق النسقي فيتمثل في أول حرف نزل في القرآن الكريم ألا وهو \"اقرأ\". وهنا وقفةٌ لابد منها حتى نفقه هذه الأوّلية فليس الأمر متعلقا بأهمية القراءة وقيمتها وأهمية العلم وقيمته فقط، كما توحي كل القراءات المتسرعة والسطحية والساذجة أو المتعمقة لأولوية \"اقرأ\" في القرآن الكريم.

 

وللتوضيح أقول: لنغمض أعيننا قليلا ولنتأمل حالة الجزيرة العربية عند نزول القرآن الكريم، إن الجزيرة العربية كانت تغرق في الشرك فهي أحوج إلى أن يكون أول ما ينزل: وَحِّد، وكانت تغرق في الكفر فهي أحوج إلى أن يكون أول ما ينـزل: آمن. إنها كانت لا تعبد الله بل تعبد الأصنام فكان أحرى أن يكون أول ما ينـزل: اعبد. إنها كانت تعيش ظلماً اجتماعيا قاهرا للمرأة والطفل والعبد والذين لا عصبية لهم يأكلهم ذووا العصبية الغالبة

 

وأحياناً على بكر أخيـنـا إذا لم نجد إلا بكراً أخانا

 

بغاة ظالمين وما ظُلمنا و لـكـنا سنـبـدأ ظالـمينا

 

كما قال زعيم بني تغلب عمرو بن هند الذي قالت عن قبيلته كلمة التاريخ \"لولا الإسلام لأكلت بني تغلب الناس\"، أفما كان أولى أن يكون أول ما نزل هو: اعدل؟ لقد كان في قريش من عتاة وصناديد الملأ المكي - و هم طاغوتٌ يصد الناس عن دين الله ويحاربه - ما يحوج أن يكون أول ما نزل هو: جاهد. ولقد كانت القبيلة العربية مشتتةً ممزقة متصارعة، أفما كان الأولى أن يكون أول ما نزل هو: وحّد؟ ولكنه لم تنزل آمن هي الأولى ولا نزلت وحِّد هي الأولى ولا نزلت جاهد هي الأولى ولا نزلت اعبد هي الأولى ولا نزلت انصر ولا أصلح ولا أي شيء من هذه الأوامر، وإنما نزلت \"اقرأ\"، وليس لذلك في رأيي المتواضع إلا تفسير واحد يتمثل في أنه لابد من تأسيس كل هذه الأفعال على هذا الفعل، لابد أن تتأسس كل هذه الأفعال على فعل المعرفة السليمة ذلك أن الإيمان بلا اقرأ سيصبح خرافةً، وأن الدعوة بلا اقرأ ستصبح تنفيراً، وأن العبادة بلا اقرأ ستصبح بدعةً، وأن الجهاد بلا اقرأ سيصبح إرهاباً.

 

وهكذا كان لابد من إنارة العقل بالعلم باقرأ، وتنزلُ اقرأ هذه على رجلٍ, أمّي في مجتمع أمي يعتز بثقافته الشفوية، حتى إن شاعرهم في المقدمة الطللية إذا أراد أن يصف اندراس أطلال حبيبته شبهها بالكتابة، كما قال طرفة بن العبد \"كما خط على الرسم راقم\"، لأن العربي كان إذا أخذ الرق المسطور فإنه لا يرى فيه إلا خيوطاً متشابكة تذكره بأطلال حبيبته إذا درست بعد مرور العاصفة على المكان الذي رحلت منه هذه القبيلة.

 

وأكثر من ذلك نرى أن التأسيس النسقي لم يكن فَلتَةً في بداية الوحي، وإنما استمر في نَسَغِ ونسيج القرآن من أوله إلى آخره. ويكفي أن نقول أن لفظة العلم ومشتقاتها وردت 750 مرة في القرآن الكريم، وهذا كلام الله المبني على بلاغة الإيجاز وإعجاز الإيجاز، ومن مقتضيات الإيجاز عدم التكرار فلا يكرر في مساق الإيجاز إلا ما كان ضرورياً أن يُكرر لأهميته. ثم إن هذا كلام الله وكلام الله فوق أن يُستخفّ به، والعاقل إن حدّثك فإنه لا يحتاج أن يعيد كلامه نظراً لثقل كلامه في نفسك ولثقل اعتباره في وعيك وقلبك، فكيف إذا كان كلام الله؟؟ إنه ليكفي للأمر الواحد أن يأتي مرةً واحدةً في القرآن الكريم حتى يحتل في نفوسنا ووعينا المكان الذي يليق به لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف إذا تكرر هذا 750 مرة. وكم أتمنى في هذا المقام أن يقرأ كل مسلم كتاب الدكتور \"عماد الدين خليل\" المسمى \"مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم\"، من منشورات دار الرسالة في بيروت، ففيه شفاء القول في هذا الباب.

 

هذا عن التأسيس النّسَقي، وهذه إشارة واحدة من إشارات عديدة، ولنأتِ الآن إلى التأسيس التاريخي. إن التاريخ حدثٌ يقع في زمان ومكان، فما هو المكان الذي نزلت فيه \"اقرأ\"؟ إنه غار حراء، وهذا المكان مخالفٌ بكل المقاييس للمنهج العام لاختيار الوحي، ذلك أن الوحي يتقصّدُ دائماً أن يبتعد عن مواطن الشبهات التي قد تثير في وجه الخطاب الدعوي النبوي زوابع الشك. ولذلك اختير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أربعين عاما حتى لا يُنظر إليه ويُقال غلام، واختير جميلاً كامل الخلق حتى لا يُتَنَقَصَ من جماله أو خلقته فيكون ذلك حاجزا بينه وبين الدعوة بالاستهزاء، واختير أُمّياً فحُرِم نعمة القراءة التي جاء الإسلام يدعو إليها حتى يقطع الطريق على من سيتهمونه بنقل الكتب السابقة.

 

وهكذا اختار الله - عز وجل - اختيارات ليست بالضرورة من أصول الإسلام مسايرةً للوضع حتى لا يجد الخطابُ أمامه أي تشويش. فالإسلام لا يعتمد على جمال الخلقة وكمالها كما لا يعتمد على سن الأربعين دلالة على النضج، وكذلك فإنه لا يحتاج إلى أن يحرم نبيه من القراءة قطعاً لأفواه المتشككين والمدعين، وأضف إلى هذا ما شئت.

 

إذاً نجد كيف تقصّد الإسلام أن يأتي باختيارات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدفها الأساسي الابتعاد عن الشبهات، ونجد الإختلاف فقط في موضوع اختيار مكان الوحي، فعوض أن تُختار لحظةٌ من اللحظات الواضحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحسباً لأن يتهم بما هو شائع في الثقافة السائدة آنذاك، بأنه شاعرٌ أو كاهنٌ أو ساحرٌ أو عَرّافٌ أو يأتيه الرِّئي أو له علاقةٌ بالجن أو الشياطين، وبدل أن تُختار لحظة نزول الوحي عليه وهو جالسٌ وسط القوم في صحن بيت الله الحرام، أو جالسٌ وسط أهله أو ضيوفه يأكل ويشرب، أو يمشي في الشارع أو يعافس الناس في الأسواق، بدل هذا كله اختيرت لحظةٌ قد تلقي بشيء من ظلال الشك على مصدرية الوحي وقد تربطها بشكل آلي مع ما هو سائد في الثقافة التفسيرية آنذاك، لأن السحرة والكهنة والدجالين كانوا يخرجون إلى الخلاء ويناظرون الجن ويدخلون إلى الغيران وإلى الآبار ينزلون إليها يتلقون فيها، وكان هناك وادي عبقر في ظاهر مكة إلى غير ذلك.

 

إن اختيار هذا المكان مع ما يمكن أن يثيره من شك لا بد أن يكون من وراءه غايةٌ أعظم أحوجت الإسلام إلى أن يركب هذا المركب الصعب وأن يتحمل هذا المثير المشكك من أجلها. إن لحظة غا

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply