إنها السنن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أود في هذه الصفحات أن أتناول شيئاً من دراسة الواقع اليهودي في فلسطين، وما يمتد له من حبل الناس على ضوء السنن الإلهية التي بيَّنها الكتاب العزيز والسنة النبوية الثابتة، وأختصر قدر ما يسعني الاختصار.

 

وألخص هذا الموضوع في نقاط تسهيلاً على نفسي وعلى القارئ:

1 - عندما يطرأ حدث كبير أو تقع مشكلة كبيرة لها أثرها وانعكاسها على الواقع سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، فأول ما ينبغي على المسلم أن يفعله لالتماس المخرج هو الحكم الشرعي، أي حكم الله - تعالى - في ذلكº وبناءً عليه يقوم بتحديد موقفه من هذا الحدث أو من هذه المشكلة.

 

إن ما يميز المسلم عن غيره أنه أعلن استسلامه وأعطى قياده وخضوعه لحكم الله وشرعه، فلم يعط القياد والطاعة لا لقبيلة، ولا لمصلحة خاصة، ولا لقـوم، ولا لأكثرية... ولا لغير ذلك. وكل معالجة للمواقف والأحداث لا توزن بهذا الميزان فهي خطأ ولو وافقت الصواب «أجل خطأ ولو وافقت الصواب».

 

2 - الانتفاضة في فلسطين المحتلة حدث كبير له آثاره وانعكاساته على الأمة، فينبغي الرجوع ابتداءً إلى الحكم الشرعي لتكييف وتأصيل هذا الحدث، ومن ثم اتخاذ الموقف الحق منه.

 

وهذا أمر في غاية الخطورة والأهميةº لأن معنى الرجوع إلى الحكم الشرعي ابتداءً المسارعة إلى الامتثال والعمل بعد وضوح الرؤيةº فإن لم نستطع نعذرº لأننا لم نُكَلَّف فوق طاقتنا { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16].

 

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»(1).

 

هذا هو الأصل في تلقي المسلم لأمر ربهº وليس النظر ابتداءً إلى الظروف: هل هي مساعدة على ذلك أو لا؟ أو تمحّل الأعذار لترك العملº وهنا ـ أي في شأن الانتفاضة ـ ليس المطلوب ابتداءً النظر إلى توازن القوى، أو الظروف الدولية والإقليمية حتى نحدد الموقف من الانتفاضة على ضوئه، وإلا لم يكن هناك فرق بين المسلم وبين غيره في هذا.

 

إن هذا النهج قد أصبح مع الأسف شأن كثير أو بعض من المسلمينº وذلك لتأثر المجتمعات بمنهج «فصل الدين عن الحياة» وهو ما أنشأ ما يسمى بالموقف الديني، والموقف السياسي أو ما يسمى برجل الدين، ورجل السياسةº ليس عن تنوع اختصاص بل عن افتراق كامل بين الموقفين، وبين الرجلين، وهذا لا علاقة لدين الإسلام الذي ارتضاه الله - تعالى - لعباده به. أما منهج الإسلام فيتمثل في قول الله - جل وعلا -: {إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [النور: 51].

إن موقف المسلم من أي قضية ينبغي ألاَّ يتكون من تأثير بيئة أو عرف تعارف عليه قومه، أو أكثرية تضغط باتجاهه، أو ظرف دولي مهما بلغº بل ينبغي أن يكون من رؤية واضحة جلية منبثقة من فهم الحكم الشرعي ثم الاستعداد التام للانقياد له، وما يطرأ بعد ذلك أو خلاله من ظروف وضغوط تحلل وتدرس دراسة شرعية على ضوء الأدلة الخاصة والأصول العامة التي تتضمن رفع الحرج، وإزالة الضرر، وتقدير الضرورات بقدرها، والموازنة بين المصالح والمفاسد.. وغير ذلك من القواعد الشرعية.

 

3 - لا ينبغي أن نفهم قضية فلسطين مهما بلغت حماستنا لها، وغيرتنا عليها، وتألمنا على مسارها إلاّ من منظور الحكم الشرعي، وهذا واجب علينا باعتباره جزءاً من مفهوم متكامل ومنهج شامل للحياة، وعلى ذلك لا تكون نصرتنا لإخواننا في فلسطين باعثها الشفقة، ولا العاطفـة الإنسانيـة، ولا الحماسة الوطنية، ولا المروءة والنخوة العربية والقومية، ولا أواصر الدم أو الجوار، بل يكون باعثها الالتزام والتقييد بالحكم الشرعي الذي تعيّن علينا معرفته، وما يترتب عليه من مسؤولية تجاه المسلمين المظلومين في فلسطين، وهذا الفهم هو الذي يظل يضخّ الحياة في قضايانا الإسلامية المتعددة، ويطبع أعمالنا بطابع التعبد لله - سبحانه -.

 

4 - معرفـة الحكـم الشرعي وحدها لا تكفي بل لا بد من حشد القوة الإيمانية وإيجاد الطاقة التربوية التي تدفع إلى امتثال أمر الله واجتناب نهيه برضى وتسليم وصبر وتضحية.

 

وإلا فكم من المسلمين يعرفون أن الربا حرام ويأكلونه، والخمر حرام ويشربونها، والصلاة ركن من أركان الدين ويهدمونه!

 

5 - مما يجمّد الطاقة الإيمانية ويقلص أثرها اليأس الناتج عن النظرة والمقارنة الواقعية بين المسلمين وبين أعدائهمº ولهذا لا بد من اقتلاع جذور اليأس من نفس المسلم، ومما يساعد على ذلك:

أ - إدراك أن اليأس من كبائر الذنوب وموبقاتها، وأنه لا يجتمع مع الإيمان الحق كما قال - تعالى -: {يَا بَنِيَّ اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيأَسُوا مِن رَّوحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيأَسُ مِن رَّوحِ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]

 

ب - شواهد التاريخ تمنع من وقوع اليأسº فإن الأيام دول، والدهر قُلَّب، وإذا كان المؤمن يأوي إلى ركن الله الوثيق ففيم اليأس؟ أليس الله بكافٍ, عبده، وهو على كل شيء قدير؟ وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا يعجـزه شـيء في الأرض ولا في السماء، وكل يوم هو في شأن - سبحانه -º ففيم اليأس؟! لكن على المسلم أن يرى أين موقعه من دين الله: هل في الصفوف الأولى، أو هو خارج الميدان؟

 

ج - لقد كان اليهود أقوى حصوناً وأمنع قلاعاً وأكثر مالاً من المسلمين في المدينة حتى حملهم هذا على ظنّ أنهم مانعتهم حصونهم وقلاعهم، وظن بعض المسلمين أنهم لن يخرجوا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبواº فهم حسبوا حساب جند المسلمين أن يأتوا من الأبواب، أو من فوق الأسوار، فأخذوا حذرهم، وإذا بالرعب الذي لا تمنع منه حصون ولا أسوار يتسلل إلى قلوبهم ويقذف فيها قذفاً فيستسلمون، قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَخرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِم لِأَوَّلِ الحَشرِ مَا ظَنَنتُم أَن يَخرُجُوا وَظَنٌّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرٌّعبَ } [الحشر: 2].

 

د - قد أخبر الله - تعالى - عن اليهود أنه ألقى بينهــم العــداوة والبغضــاء إلى يـوم القيامــة. قال - سبحانه -: {وَأَلقَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاء إِلَى يَومِ القِيَامَةِ} [المائدة: 64]، وكما قال - سبحانه - في شأن النصارى: {فَأَغرَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاء إِلَى يَومِ القِيَامَةِ} [المائدة: 14].

 

وبين (ألقينا) (وأغرينا) فرق يحتاج إلى تأمل.

أما فيما بين اليهــود وبين حلفائهــم فقــد أخبر - سبحانه - وهو الحكيم الخبير ـ أن هذا أمر ظاهري فقط وإلاّ فإن مصالحهم شــتى، وقلوبهم شتى. قال - جل وعلا -: {جُدُرٍ, بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدٌ تَحسَبُهُم جَمِيعًا وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لَّا يَعقِلُونَ } [الحشر: 14]، أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف. قال إبراهيم النخعي - رحمه الله -: «يعني أهل الكتاب والمنافقين»(2).

ولو فرض أن حلفاء اليهود من نصارى ومنافقين وغيرهم أخلصوا لليهود فإن اليهود لا يخلصون لجنسية أخرى ولا لأهل دين آخر مهما بذل لهم، وما زالوا يتآمرون على حلفائهم، ويتجسسون عليهم، ويسرقون أسرارهم العسكرية، وغير ذلك على رغم كل ما بذلوه لهم.

 

 هـ - إن اليهود قد ضرب الله - تعالى - عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا، واستثنى من ذلك حالتين كما قال - سبحانه -: {ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبلٍ, مِّن اللّهِ وَحَبلٍ, مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ, مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ} [آل عمران: 112].

 

وحبل الله - تعالى - هو عقد الذمة لهم، أما حبل الناس فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه الأمان كما في المعاهَد والمهادَن والأسير، وهذا غير صحيحº لأن الأمان هو من حبل الله - تعالى - كعقد الذمة، والأصح أن المقصود بحبل الناس هو الدعم والتأييد الذي يكون من الناس لهم، وهذا يشير إلى أنهم أبداً في حاجة إلى دعم من الناس.

 

وهذا الدعم والتأييد تمثل في عصرنا في القوتين العظميين: روسيا، وأمريكا. أما روسيا فقد آلت إلى ضعف وهوان، وأما أمريكا فإنها في الأثر طال الزمن أو قصر.

وهذه الصفات التي ذكرت في اليهود من الهوان والذلة والمسكنة، والحاجة إلى دعم غيرهم لهم وغير ذلك تجعلهم غير مؤهلين لإمامة العالم، وقد سحبت هذه الإمامة منهم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - º وصلاتُه في بيت المقدس بجميع الأنبياء إشعار بهذا الأمر.

 

6- لا يجوز للمسلم أن ينسى حقائق القرآن أو يهتز إيمانه بها لعوارض الواقعº فمن حقائق القرآن أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ومن عوارض الواقع أنهم يملكون ويبطشون، وأن العالم يستمع لهم وينحني لهم في هذه الأيام.

 

ومن حقائق القرآن أن الله - تعالى - يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وأنهم كلما أوقدوا ناراً للحرب أو فتنة مؤامرات أطفأها الله.

 

ومن عوارض الواقع أن دولاً عظمى تقف إلى جانبهم، وأن كيدهم ومكرهم مستمرº لكن ينبغي النظر إلى أن هذا الذي يبدو مخالفاً في الظاهر هو أمر عارض سريع التحول، وهو قصير إذا ما قورن بواقع الاضطهاد والذلة في التاريخ اليهوديº فقد تعرض اليهود للقهر في العصر الحديث من قِبَل ألمانيا وفرنسا والنمسا والمجر وأوروبا الشرقية. إن الأمور بحقائقها لا بظواهرها، وبما تؤول إليه لا بما تبدو عليه، وهذا من أعظم محكَّات الإيمانº فإن المنافقين ومن في قلوبهم مرض وضعاف الإيمان يتهاوى ما لديهم من إيمان مع أدنى خوف وفزع، وتبرز لديهم الظنون بالله - سبحانه -: هل ينصُر دينــه، هــل ينتصر أوليــاؤه، أو سيُتَأصَل الديـن ولا يقوم للمؤمنين بعد اليوم قائمة؟

 

لما ابتلي المؤمنون في الأحزاب، وزلزلوا زلزالاً شديداً حينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. قال - سبحانه -: {وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [الأحزاب: 12]، وقال بعض هؤلاء: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط»(3). إنه الإغراق في الإيمان بالمحسوس، وعدم اليقين بالغيب، وبوعد الله ورسوله.

 

ولهذا يجب أن يكون فهمنا للمتغيرات الواقعية والتاريخية في الأمم والجماعات والأفراد أكثر عمقاً، وأدق تصوراً، وأن يكون على ضوء قواعد يقينية مقطوع بها وليس مستنداً إلى أمور ظاهرية آنية.

 

ومن هذه القواعد:

- للكون إله خالق مدبر سميع بصير، حكم عدل قاهر قادر، يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

- الكون يخلو من العبثية والفوضى والمصادفة. قال - جل وعلا -: {وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب: 12]، وقال: {وَمَا خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16].

 

- الإنـس والجـن قاطبـة مخلـوقون لتوحيـد الله - تعالى - وطاعته وعبادته، وليس هناك أمة منهم أو فئة لا تجري عليها سنن الله - تعالى - في الخلق عزاً وذلة أو عقوبة ومثوبة.

قال - تعالى -: {فَهَل يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلًا {43} أَوَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَكَانُوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعجِزَهُ مِن شَيءٍ, فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } [فاطر: 43، 44].

 

وهنا يرد سؤال واقعي:

هل الحضارة المعاصرة على اختلاف مواطنها لها استثناء من الإهلاك وحصانة من الزوال والعقاب الإلهي؟ هل هي أكبر من أن تنالها قدرة الله؟ أم أن الحضارة المعاصرة بما يمثلها من دول ومجتمعات ما هي إلا حلقة من حلقات التاريخ البشري يجري عليها كل ما يجري على غيرها من حضارات سابقة اتجهت وجهتها وبغت بغيها؟

 

هذا هو جواب الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد:

قال - جل وعلا - {وَلَقَد أَهلَكنَا أَشيَاعَكُم فَهَل مِن مٌّدَّكِرٍ, } [القمر: 51].

وقال - سبحانه -: {فَأَهلَكنَا أَشَدَّ مِنهُم بَطشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8].

 

وقال: }أَلَم يَأتِكُم نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن: 5].

 

وقال: {أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِم وَلِلكَافِرِينَ أَمثَالُهَا}. [محمد: 10].

 

وقال - سبحانه -: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ, }. [هود: 83].

 

وقال - جل وعلا -: {أَكُفَّارُكُم خَيرٌ مِّن أُولَئِكُم أَم لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزٌّبُرِ } [القمر: 43].

 

إذن الحضارة المعاصرة ليست نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية يستثنى من العقوبة الإلهية، وليست أكبر من أن تعاقَب، وليست أفضل من غيرها مما سبق من الحضارات. هذا ملخص مضمون الآيات القرآنية المتقدمة.

وإن المتتبع لآيات القرآن العظيم المعجز يجد أن أهم الأسباب، وأبرز العوامل المؤدية إلى انهيار الحضارات، ودمارها وكنسها من التاريخ ثلاثة عوامل، وليس كما ذهب إليه بعض المؤرخين كالمؤرخ «بول كندي» الإنجليزي الأصل الأمريكي الموطنº حيث تناول الحقبة الممتدة من (1500-2000م)، وتناول سقوط الإمبراطورية الإسبانية والبريطانية والعثمانية والروسية، وبيَّن أن مواصفات السقوط لهذه الإمبراطوريات تنطبق على الولايات المتحدةº فهو بمعنى آخر يبشر بسقوطها وانهيارها، وعلى رغم ما واجه من نقد لنظريته فهو مُصرّ عليها، ويدافع عنها، لكنه - ولا يستغرب من أمثاله ممن يفسرون التاريخ على ضوء المادية الجدلية - عزا أسباب السقوط إلى الإفراط في القوة والتوسعº بحيث إن الالتزامات الاستراتيجية للإمبراطورية إذا زادت عن القوة الاقتصادية لها أدت إلى عجزها وسقوطها(4).

أما العوامل الثلاثة التي تحمل استحقاق الغضب الإلهي، وعقوبة الدمار والانهيار التي أشار القرآن الكريم إليها فهي:

 

الكفر، الظلم والاستكبار، والفساد الخلقي والاجتماعي.

 

- أما الكفر فقد وردت آيات كثيرة تدل على أن الكفر بالله - تعالى - ونكران توحيده وطاعته من أسباب الدمار، وأكتفي بالاستدلال بنماذج من الآياتº فالحصر متعسر، ولا يتسع له المقام:

 

قال - تعالى -: { كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِم وَاللّهُ شَدِيدُ العِقَابِ } [الأنفال: 52].

 

وقال - جل وعلا -: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلٌّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِم حَتَّى يَأتِيَ وَعدُ اللّهِ} [الرعد: 31].

 

وقال - سبحانه - في شأن دمار سبأ: {ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ ّ} [سبأ: 17].

 

والآيات أكثر من أن تُحصَر في هذا المقامº فقد وردت كلمة الكفر ومشتقاتها في الكتاب العزيز في نحو سبعة وعشرين وخمسمائة موضع.

 

- وأما في سبب الهلاك بالظلم والاستكبار فقال - جل وعلا -: {وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102].

 

وقال: {وَتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَّوعِدًا } [الكهف: 59].

 

وقال - سبحانه -: {فَكَأَيِّن مِّن قَريَةٍ, أَهلَكنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [الحج: 45]، وقال - سبحانه -: {وَكَم قَصَمنَا مِن قَريَةٍ, كَانَت ظَالِمَةً وَأَنشَأنَا بَعدَهَا قَومًا آخَرِينَ } [الأنبياء: 11].

فالقاسم المشترك لإهلاك هؤلاء هو الظلم والبغي كما توضح الآيات الكريمة.

 

وقال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاستَكبَرُوا فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَن أَشَدٌّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُم هُوَ أَشَدٌّ مِنهُم قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ فَأَرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا صَرصَرًا فِي أَيَّامٍ, نَّحِسَات} [فصلت: 15، 16]، وهذا جزاء الاستكبار والتطاول والتعالي.

وقال - سبحانه -: {إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا } [القصص: 4].

- وأما الفساد في الأرض فقد بين القرآن الكريم فساد قوم لوط في آيات متعددة، وكذلك فساد قوم شعيب وما حلّ بهم من عقوبة إلهية، وفساد قوم فرعون ومن سبقه. قال - جل وعلا -: {أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبٌّكَ بِعَادٍ, {6} إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ {7} الَّتِي لَم يُخلَق مِثلُهَا فِي البِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخرَ بِالوَادِ {9} وَفِرعَونَ ذِي الأَوتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوا فِي البِلَادِ {11} فَأَكثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيهِم رَبٌّكَ سَوطَ عَذَابٍ,} [الفجر: 6 - 13].

 

وخلاصة ما تقدم توضح لنا الآتي:

1 - إن اليهود بدؤوا يقتربون من نهايتهم المحتومة منذ بدؤوا هجرتهم إلى فلسطينº وذلك لأنهم انتقلوا من كونهم أهل ذمة ينعمون في ظل دولة الإسلام إلى محاربين مغتصبين ظالمين، وإن انتقالهم وتجمعهم واغتصابهم لفلسطين هو باللغة العسكرية (إعلان حرب على الأمة الإسلامية)، وقد فعل ذلك من قبل إخوانهم بنو قريظة حينما نقضوا ذمتهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا الحرب مع قريش والأحزاب.

 

2 - إن الحائط الذي يستند إليه اليهود، والدعم الذي يعتمدون عليه آيل للسقوط، وقد تهاوى بعضه وبقيته في الأثر، فإن امبراطورية «الجنس والربا» مصيرها هو مصير من سبقها من امبراطوريات الفساد في الأرض.

 

3 - إن من البلادة، وقلة الفهم أن يقرأ المسلم كتاب الله - عز وجل - وما يخبر به خبر اليقين من هلاك الأمم الكافرة المستكبرة الظالمة، ثم يذهب كل فهمه إلى قصر ذلك على أهله، وعلى حقبة تاريخية مضت وحسب.

 

إن سنن الله - تعالى - لا تتغير، ولا تتبدلº فهو الذي {وَأَنَّهُ أَهلَكَ عَادًا الأُولَى {50} وَثَمُودَ فَمَا أَبقَى {51}

 

وَقَومَ نُوحٍ, مِّن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا هُم أَظلَمَ وَأَطغَى} [النجم: 50 - 52]، وكم أهلك من القرون من بعد نوح، ولن تتغير سننه فيمن سلك مسلك هؤلاء من أمم الكفر وطواغيت الأرض في كل عصر.

 

4 - من البلادة أيضاً أن لا يربط المسلم بين ما يحدث في الأرض من كوارث، وزلازل وأعاصير وفيضانات وأوبئة، وغير ذلك، وبين سنن الله - عز وجل - وهو يقرأ كلام الله الفصل: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلٌّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِم} [الرعد: 31]، ويقرأ مثلاً في دمار سدّ مأرب وتمزيق سبأ: {ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا} [سبأ: 17] وغير ذلك من آيات، ولم يدر بخَلَده أن هذه العقوبات تتجاوز قرونها وأزمانها وأممها إلى أمم علت في الأرض ونازعت الله ـ - تعالى - ـ كبرياءه وعظمته في عصر الأقمار الصناعية والصواريخ العابرة للقارات، والتبجح العلمي، والعنجهية المادية المغرقة في الضلال، ألم يقرأ قول الله - تعالى -: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصَادِ ٌ} [الفجر: 14].

 

فهذه حضارات ثلاث كان لها مكان عظيم في التاريخ، وضربت بجذورها في الأرض، من مدنية وعمران، وبناء مدن صخرية، وتوسع في الأموال والأنعام والزراعة، وعظم في الأجسام وغير ذلك مما يعد مقومات للمدنية والتحضر، فإذا هي تمحى من الوجود ولا يبقى لها باقيةº وذلك لأنهم (أكثروا) في الأرض الفساد.

 

ويمكننا القول استنباطاً مما يشــير إليــه قــوله - تعالى -: {فأكثروا} [الفجر: 12]: إن هناك خطوطاً حمراً إذا تجاوزتها أي أمة أو فرد نزل به غضب الله - جل وعلا -، ولن تنفعه قوته ولا جبروته شيئاًَ من عقاب الله - تعالى -º وذلك أن الكبريـــاء والعظمــة لله - تعالى - وحده العظيم المتكبر فمن نازعه فيهما قصمه - سبحانه - ولم يبال به في أي واد هلك.

 

والذي أروم الوصول إليه من خلال هذه المعالم القرآنية أصبح واضحاً، وهو أن الحائط الذي يستند إليه اليهود في عصرنا هذا بات آيلاً للسقوطº وهذا ما يمكن أن نسميه حتمية قرآنية، لا أدعي ذلك تهويلاً ومبالغة ولا تخديراً للعواطف، بل هذه حقائق مسلَّمات تعتمد على نصوص قطعية محكمة، وليس إلى أحد من البشر تقدير ذلك بالأيام والسنينº فالأمر كله لله - جل وعلا -.

 

قال - سبحانه -: {إِنَّا كُلَّ شَيءٍ, خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ, {49} وَمَا أَمرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ, بِالبَصَرِ {50} وَلَقَد أَهلَكنَا أَشيَاعَكُم فَهَل مِن مٌّدَّكِرٍ, ُ} [القمر: 49 - 51].

 

--------------

(1) البخاري مع الفتح (13/264)، ومسلم (2/975).

(2) تفسير الطبري (23/293)، المصباح المنير (1387).

(3) ابن هشام، 1/522.

(4) جريدة الشرق الأوسط، العدد (836).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply