المناعة الفكرية ( 2 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن كثيراً من القضايا التي تشغل المفكرين المسلمين اليوم تتصل على نحوٍ, ما بالواقع الذي تعيشه أمّة الإسلام. وهم يعملون على نحو أساسيّ في إيجاد حلول للمشكلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة من أفق ثوابت الإسلام ومبادئه الكبرى، وإنّ أولئك المفكرين لن ينجحوا في مساعيهم النجاح المنشود إلا إذا استطاعوا إيجاد تيار شعبيّ يتجاوب مع طروحاتهم، ويشارك في علميات التغيير والإصلاح التي يقومون ببلورتها ورسم حدودها. وهذا في الحقيقة يتطلب فيما يتطلب- أمرين أساسين:

الأول: أن يتمكن المفكّرون المسلمون من إبراز أفضل وأوضح صورة ممكنة للواقع الذي يريدون معالجته، تماماً كما يفعل الطّبيب قبل أن يصف أيّ دواء. وإنّ بعض الأمراض يستغرق شهوراً من هيئة طبية متخصصة حتى يتمّ تشخيصه وتحديده على نحو جيّد. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تشخيص الدّاء الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ... هو أصعب -بما لا يقارن- من تشخيص الدّاء الجسديّ. وذلك يعود إلى أنّ أيّ توصيف لوضعيّة اجتماعيّة أو أخلاقيّة... يعتمد أساساً على التعريف لتلك الوضعيّة. والتعريفات في الشأن الإنسانّ تعاني دائماً من القصور الذاتّي، وتعاني من الانتقائيّة والنسبيّة والغموض. ومع هذا فإنّنا حين نتعامل مع مشكلاتنا بعقل مفتوح وبمرونة ذهنيّة جيدةº فإنه يمكن الاستدراك والتلافي لكثير من النقص في عمليات التّشخيص والتقويم.

الأمر الثاني: يتجسّد في بلورة خطاب يمكن وصفه بأنه من قبيل السّهل الممتنع. خطاب يصور الواقع بعمق الفكرة وبساطة الأسلوب. وعمق الفكرة يأتي من الفهم العميق والشّامل لذلك الواقع. وتأتي بساطة الأسلوب من فهم مستويات المخاطبين، وخلفياتهم الثّقافية، ومن المهارة في تطويع الكلمات والدلالات، وسوقها على نحو يلامس المفاهيم السائدة في أذهان المُخَاطبين.

إن من الصّعب في أجواء شديدة العمليّة وشديدة المصلحيّة المحافظة على مناعة تفكيرنا إذا لم نُثبِت أنّنا نملك الأفكار والطّروحات والبدائل التي تخفف من وطأة المشكلات التي يعاني منها الناس، وإذا لم نُثبت أنّ الأفكار التي نقدّمها لا تجافي روح العصر إلى حدّ بعيد، أو قل لا تتجاهل تشوّقات الناس وطموحاتهم على نحو كامل. وإنما أقول هذا الكلام لأنّ الناس ولو كانوا ملتزمين- إذا لم يجدوا لدينا ما يحسَّن مستوى عيشهم وأوضاعهم الأدبيّة والماديّةº فإنهم سوف يلتمسون ذلك لدى الآخرين، وسوف يدفعنا ذلك بالتالي- إلى تقديم تنازلات غير مؤصلة وغير منضبطة بضوابط الشريعة. وإني ألمح شيئاً من هذا يجري اليوم في عدد من المجالات!

الإبداع في الحلول، وعدم ترك المشكلات تتراكم، والشّجاعة في تقديم البدائل.. شروط أساسيّة لإبقاء أنظار الجماهير متعلقة بالرٌّؤية الإسلاميّة للإصلاح، ومتعلقة بمن يقدمون تلك الرؤية من مفكرين وعلماء ومصلحين.

هذا يتطلب أول ما يتطلب فهم الواقع الذي نريد علاجهº فأحكام الإسلام وآدابه ومراميه الحضاريّة ورُؤاه الإصلاحية موجودة في عقولنا ومكتباتنا، تماماً مثل الألوف من أنواع الأدوية الموجودة في (الصيدليات) ومخازن الأدوية. والطّبيب الماهر هو الذي يأمر بإخراج دواء من تلك المخازن دون دواء بحسب رؤيته لداء مريضه.

إنّ كثيرين منا ولا سيّما الشباب- يسارعون إلى الإدّعاء بفهم الواقع والإحاطة به، مع أنهم لم يبذلوا أيّ جهد متميز في فهمه ومقاربته، ولا يُعرف لهم أيّ اختصاص دقيق في معالجة شؤونه!

إن الواقع أشبه بمادة هُلاميّة فهو شديد الطّواعية والقابليّة للتّشكيلº لكن تلك الطواعية خادعةº فهو يطاوعنا حتى نظنّ أنّنا قد سيطرنا عليه سيطرة تامةº وهو في حقيقة الأمر محتفظ بطبيعته الخاصة، تماماً كما تفعل ذلك المواد الهلاميّة. إنّ الواقع العام يحتفظ بقدرته على البقاء في حيّز الغموض والتعقيد والتشابك والتّداخل، إنه أشبه بأخطبوط له ألف رأس وألف رجل وألف يد. وتكون ثمرة كل ذلك القابليّة للقراءات والتأويلات والتفسيرات المختلفة. ومن هنا تأتي صعوبة التعامل معه. وتستطيع أن تدرك ذلك بسهولة إذا سألت خمسة من الدّعاة أو العلماء أو المصلحين أو المفكرين توصيف وضعيّة معينة في أحد المجتمعات أو إحدى البيئات الإسلاميّة، كالالتزام أو العدل أو العفة أو الحرية....

وأنا لا أريد من وراء هذا الكلام سوى شيء واحد هو إدراك حجم المهمات التي نُقدم عليهاº فلا نتهاون ولا نتعسف ولا نتعجَّل.

إذا صحَّ هذا التحليل وهذا التنظيرº فإن السؤال الذي يقفز أمامنا هو: ما الأدوات وما المناهج التي يجب أن نستخدمها حتى نحصل على صور مقاربة لحقيقة الأوضاع التي نريد معالجتها؟

في تصوٌّري أنّ أيّ جواب سأقدّمه عن هذا التساؤل سيكون قاصراًº لأنّ النّظام اللغويّ الذي نستخدمه في تصوير ما نريد تصويره يظلّ دائماً في حالة من القصور الذاتّيº إنه ناقل غير جيّد وغير كُفء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوري عن المناهج والأدوات التي يجب استخدامها في اجتراح ذلك الواقع هو الآخر غير تام وغير واضح وغير دقيق فإنك ستدرك كم يحتاج جوابي إلى تكميل وإلى نقد وتمحيص. لكن لا بد أن نقول ما توصّلنا إليه، وسنعتبر ذلك أفضل ما هو ممكن إلى أن يتوفر لدينا ما هو أفضل منه.

1- نحن نحتاج في بداية الأمر إلى تعريف ما نريد معرفته، فإذا كنا نريد أن نُعَرَّف سوية الالتزام في مجتمع من المجتمعات مثلاً-º فإن علينا أن نُعرَّف الالتزام وأن نذكر مقصودنا من هذه الكلمة. إنّ الذي ضاع منه ولده في إحدى الأسواق الكبرى، ويطلب مساعدة الناس على العثور عليه في حاجة -كي يستطيعوا مساعدته- إلى أن يذكر لهم اسمه وحِليته من لون وطول وشكل، وأن يذكر لهم لون ونوع الثّياب...º وإلا فإنهم قد لا يستطيعون تقديم أي خدمة له.

ونحن بسبب الطريقة التي تعلمنا بها في المدارس والجامعات قد أدمنَّا الحلول السَّهلَةº ولذا فإننا لا نملك رصيداً ذا قيمة على صعيد التّعريفات والمصطلحاتº لأنّ الوصول إلى تعريف أو توصيف جيد ليس بالأمر اليسير، ويمكن القول: إنّ التّوصيف الجيّد لأيّ مشكلة يشكّل نصف الحلّ المطلوب. ويتمثل النّصف الثّاني في العثور على العلاج الملائم.

سيكون من المفيد جداً أن نبدأ في كل جلسة حوار أو جلسة تفكير وعصف أو إمطار ذهنّي وفي كل معالجة لقضية شائكة- بذكر التّعريف لما نريد بحثه وتحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث. وعندما نتخذ من هذا تقليداً ثقافيًّا فسيتَّضح لنا شيئان مهمان:

الأول: صعوبة وضع التّعريفات وصعوبة الحصول على توصيفات جيّدة.

أما الثّاني فهو: عظم الفائدة التي سنحصل عليها من وراء ذلك.

ومن الله - تعالى - الحول والطَّول..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply