الاختلاف في الدين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الاختلاف في مجالات نشاط الإنساني يؤدي إلى إقامة الحياة السعيدة، لكن الخلاف في مجالات الدين المختلفة سبب لتعاسة الإنسان، وفساد أمره وتشتت شأنه، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن الاختلاف في إطار الديانة مذموم من حيث الجملة قال - تعالى -: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء {الأنعام: 159}.

 

أ- الاختلاف في القرآن الكريم:

 

الاختلاف المذكور في القرآن الكريم على ضربين:

الضرب الأول: اختلاف تُذم فيه كلا الطائفتين المختلفتين كما قال - سبحانه -: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد {البقرة: 176}، وقال - تعالى -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}، وقال - تعالى -: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات {آل عمران: 105}.

 

وترجع أسباب الاختلاف المذموم بين طائفتين إلى فساد النية، لأن الدافع إليه هو البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ويرجع أيضًا إلى جهل كل من المختلفين بالأمر المتنازع فيه، أو الجهل بالدليل القاطع للنزاع، أو جهل كل من المختلفين بما عند صاحبه من الحق سواء كان ذلك في الحكم أو الدليل، هذا إذا كان عالمًا بما عنده من الحق حكمًا ودليلا، وقد بين الله - تعالى - أن أصل الشر كله الجهل والظلم، قال - تعالى -: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا {الأحزاب: 72}.

 

الضرب الثاني: هو ما حمد الله فيه إحدى الطائفتينº وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما قال - سبحانه وتعالى-: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا {البقرة: 253} فحمد إحدى الطائفتين ووصفهم بالإيمان، وذم الأخرى ووصفها بالكفر، هذا وأكثر الخلاف المؤدي إلى الأهواء والبدع في الأمة المحمدية هو من النوع الأول، سبب ذلك أن كلا من الطائفتين المتنازعتين لا تعترف بما عند الأخرى من الحق ولا تعدل في حكمها لها وعليها.

 

ب: الاختلاف في السنة النبوية:

 

ويتبين ذلك من عدة أمور:

أولا: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن افتراق هذه الأمة كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة\" {رواه أبو داود كتاب السنَّة (38) والترمذي كتاب الفتن (34)}

 

ثانيا: إخباره بانتشار الأهواء وتبني بعض الأمة نشرها والدفاع عنها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -º لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به\" {رواه أحمد في المسند (4-105) وأبو داود في كتاب السنّة (38}

 

ثالثا: إخباره باتباع هذه الأمة أهل الكتاب في أهوائهم كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة\"، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: \"ما أنا عليه اليوم وأصحابي\" {رواه الترمذي كتاب الإيمان (8)}

 

رابعا: نصه على من معه الحق من طوائف الافتراق كما في الحديث الآنف الذكر.

 

خامسا: أنه نهى عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما عند الآخر، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: \"كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا\" {رواه البخاري كتاب الخصومات(1)، فضائل (27)، أنبياء (54)}

فدل الحديث على تحريم مثل هذا الاختلاف وأن يكون لنا عبرة فيمن قبلنا حيث اختلفوا بمثل ذلك.

 

سادسًا: الاختلاف في السنة النبوية على نوعين:

النوع الأول: اختلاف تنوع: كالاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد ونحو ذلك وهذا النوع من الاختلاف يأتي على وجوه منها:

أن يكون القولان أو الفعلان مشروعين كالقراءات ومن ذلك ما تقدم من اختلاف الأنواع، ومنها ما يكون الاختلاف القولي في اللفظ دون المعنى، ومنها ما يكون كل واحد من الأقوال غير الآخر لكن لا تنافي بينهما وهما قولان صحيحان، ومنها ما يكون في طريقتين مشروعتين لكن كل واحد قد سلك واحدة منهما. وهذا النوع من الاختلاف ليس مذموما لكن إن اقترن به البغي والظلم مع الجهل صار مذموما.

النوع الثاني: اختلاف تضاد: وهو أن يتنافى القولان من كل وجه وهو يكون في الأصول والفروع، وهذا لا يكون إلا على قول جمهور العلماء من أن المصيب في الكل واحد وهو الراجح، وأما على قول من يقول كل مجتهد مصيب فهو عنده من قبيل اختلاف التنوع، أما هذا النوع من الاختلاف أي التضاد فهو أكثر أنواع الاختلاف وأعظمها خطرًاº وذلك كالاختلاف في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك في باب الأصول والاختلاف بالتبديع وعدمه في باب الفروع، هذا وقد جاءت السنة بإقرار اختلاف التنوع كما في إقراره - صلى الله عليه وسلم - للصحابة على اجتهادهم في فهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة\" {متفق عليه، رواه البخاري كتاب (64) باب (49)، مسلم كتاب (5) ح (209)}

فمنهم من أخرها أخذًا بهذا الحديث ومنهم من أخذ بأحاديث الوقت مخصصًا لهذا الحديث.

وجاءت السنة بذم اختلاف التضاد كما في حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب\" {رواه مسلم كتاب العلم ح(2)}

 

أسباب الاختلاف في الدين

ويمكن أن نتلمس أسباب الخلاف من خلال نصوص الكتاب والسنة وهي كما يلي:

أولا: بغي الخلق بعضهم على بعض وظلم بعضهم لبعض كما قال - سبحانه -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}.

واستحلال الدماء من أخطر النتائج التي تترتب على الظلم والبغي، ولذا فقد شرع الله ما يمنع البغي والظلم من الإصلاح فقال - سبحانه -: فأصلحوا بين أخويكم {الحجرات: 10} وأوجب على الأمة المحمدية رد الظلم فقال - سبحانه -: فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين {الحجرات: 9} فأمر بالعدل الذي هو ضد الظلم والبغي.

 

ثانيا: اتباع الهوى الذي يتضمن اتباع ما تهواه النفوس والطبائع وترك ما يأمر به الشرع من العدل والإحسان كما قال - تعالى -: ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله {الأنعام: 153} فجمع السبل لكثرتها ووحد سبيله لأنه واحد كما قال - تعالى -: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه واتباع الهوى من أكبر الأسباب في رد الحق والتكبر عليه والإقامة على الباطل والتشبث به كما قال - سبحانه -: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم {الجاثية: 23}.

وقال أبو العالية: (وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء)، ومن هنا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أتباع الهوى فقال: \"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به\". {أخرجه بن أبي عاصم في السنة (1-12) والبغوي في شرح السنة (1-212) من طريق نعيم بن حماد وأشار ابن رجب الحنبلي لانقطاع سنده في كتاب (جامع العلوم والحكيم) ح (41) فهو ضعيف}

 

ثالثا: اتباع وساوس الشيطان، والشيطان عدو لبني آدم كما أخبر الله بذلك بقوله: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر: 6} وهو لا يألوا جهدًا في إضلالهم كما قال - سبحانه -: إنه عدو مضل مبين {القصص: 15}، وحذرنا الله من اتباع طرقه ووساوسه فقال: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين {البقرة: 208} وأوضح لنا أن التفرق والاختلاف ما هو إلا حبيلة من حبائله قال - تعالى -: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون {المائدة: 91}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم\" {رواه أحمد في مسنده}.

 

رابعا: اتباع المتشابه: وهو ما لا يعلم معناه إلا الله، وترك المحكم الواضح البين، فقد روى الآجري بسنده عن سعيد بن جبير في قوله - عز وجل -: وأخر متشابهات {آل عمران: 7}، قال: أما المتشابهات فهي: آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن، كل فرقة يقرأون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى.

وقد حذر الله هذه الأمة من اتباع المتشابهات، فقال - تعالى -: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {آل عمران: 7}.

وسبيل أهل الحق: الإيمان بالمتشابه ورده إلى المحكم، فقد روى الآجري بسنده عن ابن عباس قال عن الخوارج: (يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به).

 

خامسا: الجهل بالدين، فإن في العلم نجاة وفي الجهل هلكة قال - تعالى -: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون {الزمر: 9}.

والعلم لن يضل السبيل أبدا لأن العلم النافع هو الطريق الصحيح لحفظ الإسلام، قال - تعالى -: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم {النساء: 83}.

 

سادسا: إطلاق الألفاظ المشتركة والمجملة المحتملة للحق والباطل وأكثر ما جرى بين الأمة من الاختلاف والفرقة هو بسببها بدءًا بانشقاق الخوارج والشيعة بقولهم: (لا حكم إلا لله) وانتهاء بذلك الكم الهائل من الفرق بسبب تلك المصطلحات التي عجت بها كتب العقائد كالافتقار والتركيب والبعض والجزء والجهة والحيز والحد ونحوها مما لا يمكن حصره.

 

سابعا: الابتداع في الدين بأن يشرع ما لم يشرعه الله لعباده أصلا وهيئة، كما قال - سبحانه -: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله {الشورى: 21}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار\" {سنن أبي داود كتاب السنة باب (5)}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد\" {متفق عليه رواه البخاري كتاب الصلح باب (5)، مسلم الأقضية ح(17)}.

والناظر في أكثر ما جرى من الانقسام في جسم الأمة المحمدية يجده من هذا القبيل.

 

ثامنا: الغلو في الدين كما قال - سبحانه -: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق {النساء: 171}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين\" {رواه أحمد في مسند (1-215) وابن ماجه كتاب المناسك (25) ح(29-30)}.

 

تاسعا: متابعة الأمم السابقة من اليهود والنصارى وسواهم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه\". {سنن الترمذي كتاب الفتن باب (18)، وابن ماجه كتاب الفتن باب (17)}

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مِثلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة\"، قيل من هي يا رسول الله؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: \"ما أنا عليه اليوم وأصحابي\" {سنن الترمذي كتاب الإيمان (38) باب (18)}.

 

عاشرا: الثقافات الوافدة نتيجة لترجمة علوم الأمم الأخرى كاليونانية والهندية وهي ثقافات وثنية، وقد بدأت ترجمتها في أواخر عهد بني أمية في المائة الثانية من الهجرة حيث كان خالد بن يزيد بن معاوية شغوفا بعلوم الأوائل وفلسفتهم ثم زادت حركة الترجمة بعد توقف في خلافة المأمون حيث أرسل لملوك البلدان من يجلب ما عندهم من مخطوطات العلوم والفنون ليجلبوا له كتب الفلسفة التي اتفقوا على جلبها إلى العالم الإسلامي حتى يفسدوا عليه عقائده ويولدوا الفرقة فيه من داخله وهو نتيجة طبيعية لتلك المناظرات الفلسفية والمعارضات العقدية.

 

حادي عشر: كيد أعداء الإسلام والذين أظهروا الإسلام قصدًا لِفَتِّ قوته وتقويض دولته وزرع الخلافات بين أهله واتخذوا من الحركات الباطنية والسرية طريقا لنشر أباطيلهم ولقد كان لبعضهم من المكانة والمنزلة ما يسر له ذلك مثل ابن المقفع المجوسي والبرامكة عُباد النار ممن كانت لهم صولة وجولة في أيام غيبة الوعي الإسلامي ومن أعظمهم أثرًا وأكثرهم خطرًا الوزير ابن العلقمي الرافضي والباطني والنصير الطوسي اللذان عن طريقهما قضي على حضارة الإسلام في المشرق عندما هيأوا للتتار طريق الدخول على المسلمين وتحطيم دولتهم والقضاء على معارفهم، مما كان سببًا في نشر الفرقة بين المسلمين.

 

ثاني عشر: التأويل الذي به استحلت الأموال والأنفس والفروج وغُيِّر وجه الدين عن طريق التأويل الباطني والصوفي والكلامي.

 

ثالث عشر: الجدل والخصومة في الدين.

 

رباع عشر: العصبية للآراء والمذاهب.

 

والله من وراء القصد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply