الهدي النبوي ونهوضنا الحضاري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من طبائع الأمم أنها إذا ما دخلت عصر القوة والرخاء، نسيت الخصوم، وصرفتها عظمتها عن الاكتراث بأحوالهم ورصد تآمرهم. وفي هذه الحقبة من عمر الأمم تولد أجيال الأفول، التي تختلف عن الأسلاف الذين بذلوا وعانوا في مراحل تأسيس الدولة، وعاينوا العدو والصديق والمتربص، وكان لهم ذلك عامل يقظة دائمة.

 

والملوك الذين توسّد لهم الأمور في العصور المدبرة من أعمار الدول، وتطوى في عهودهم صفحتها الأخيرة، هم غالباً من هذا الصنف، الذين يحدثنا رواة التاريخ عن غفلتهم وجهلهم بواقع عصرهم، واستئمانهم لألد خصومهم على أخطر قضاياهم. ولو استقبل هؤلاء من أمرهم ما استدبروا، لتغير وجه التاريخ.

 

إن ما يقال عن الماضي، يقال نفسه عن أمم عصرنا. والأوربيون اليوم على سبيل المثال يجهلون كثيراً عن مصالح بلدانهم وأعدائهم وأصدقائهم، مما كان يعرفه جيل الحربين العالميتين. بل إن هذه القضايا لم تعد على قائمة اهتماماتهم، ولم يبق لها متسع في الصحافة الشعبية التي يقرأها الملايين. لكن الفارق هو أن مهمة التصدي لهذه الثغرة العريضة في هذه المجتمعات تؤول إلى النخبة القليلة الواعية، التي تسد مسد أجيال اليقظة، وتقوم بالمسؤولية كفاية عن الأغلبية الغافية. وتلتحم النخبة ومؤسساتها المستقلة أو شبه المستقلة ومعاهدها وخبراؤها بشؤون الدول وأحوال الشعوب وتركيبتها الدينية والعرقية والقبلية، تلتحم هذه بمؤسسات الدولة، في عملية استقراء المستقبل والبحث عن الحليف والاستشعار المبكر بالخطر المحتمل، التي تحرص عليها الدولة أشد الحرص في رسم سياستها الخارجية وتحديد مصالحها. وهذه المؤسسات هي المسؤولة عن إطالة أمد احتضار الدول الهرمة، ومنعها من السقوط المفاجئ، ودولة عظمى سابقاً كبريطانيا لا تتحرج اليوم، بل لا تتأخر بعد مسلسل التراجعات التي سجلتها على الساحة الدولية، من الدعوة إلى مؤتمر عالمي، ينتقى لحضوره كبار الساسة والخبراء العالميين، للإصغاء إلى وجهات النظر، والبحث عن أفضل سياسة خارجية يتعين على بريطانيا انتهاجها في القرن القادم، لتحفظ لها مكانتها الدولية المتداعية.

 

إلا أنه مهما قيل عن هذه المؤسسات وقدراتها فهي تبقى دون مستوى حاجة الدول إلى إنذار مبكر يحد من عنصر المفاجأة في استقبال التطورات، لاسيما الأمنية منها، وهي أعجز عن التنبؤ بأحداث عقد من الزمان، بل بضعة أعوام، وأحياناً بضعة أشهر، وكثيراً ما تخطئ، وتلجأ حينئذ إلى القوة العسكرية إن استطاعت لتصحيح الخطأ. وحتى لو أصابت، فإن هذه المدد الزمنية هي بالنسبة للشعوب، كالحيز الذي تعمل فيه حواس الاستشعار عند الذبابة، التي لا تكتشف الخطر إلا في مراحله النهائية. فهؤلاء الإنكليز الذين تدير شؤون بلادهم أيادٍ, أمينة، وتقوم مخططاتهم على دراسات مستقبلية متأنية وبحوث معمقة، مجمعون كلهم، من ولي العهد إلى رجل الشارع، على أن البلاد تواجه تحديات خطيرة لم تكن مرئية قبل وقت قريب. وهذه المؤتمرات والمناظرات التلفزيونية والتحقيقات الصحفية عن دور بريطانيا المستقبلي العالمي، وهل تراجعها الحالي كبوة عابرة، أم بداية عصر جديد، هذه كلها وليدة الساعة، وقبل عقد من الزمان فقط كان الحديث عنها بهذه الجدية يعد ضرباً من العبث.

 

لقد أوجد التنافس العالمي الشديد بين الدول الكبرى حساً لدى النخبة بالحاجة إلى فتح ملف عوامل قيام وسقوط الدول وتصادم الحضارات، وقد ظهرت في هذا المجال كتابات متعددة، ولم تمض أشهر قلائل حتى وجدنا أنفسنا نحن المسلمين قد عدنا إلى هذا الموضوع بعد هجران طويلº مع أننا نعيش عصر انحطاط منذ أمد بعيد، لكن عودتنا المتأخرة جداً، كانت موسماً ثقافياً، وعلاوة على ذلك فهي لم تكن أكثر من جولة فيما كتب، ولم تعرض لأسباب سقوطنا نحن، التي تختلف عن أسباب غيرنا من الأمم، من حيث أنها ليست خاضعة لعوامل ومؤشرات مادية محضة، من قلة وكثرة وعدة ومال، فقد يجتمع ضعفنا وطمع الآخرين بنا مع كثرتنا وحرصنا على حطام الدنيا، اللذين هما قوام حضارات غيرنا. ولقد كان تطفلنا على نتاج غيرنا في هذا الجانب، وإعجابنا به ونقله إلى لغتنا، واعتباره مرجعاً في هذا البابº مؤشراً على خلو جعبتنا من الإثراءات الذاتية، ومقارنة حية بين أمم تستميت من أجل البقاء في القمة، وأخرى ارتضت لنفسها القعود، علماً بأن تلك الكتابات كانت نظرة إلى الوراء لحقبة زمنية ضيقة نسبياً.

 

إن ما نريده هو أن يتداعى العلماء وأصحاب الفكر في جميع البلاد العربية لدراسة أسباب الخلل الحضاري الذي أدى بنا إلى ما نحن فيه من فشل وتراجع وانحطاط، ومقارنة واقعنا الحالي بأوقات عصيبة مشابهة مرت بها أمتنا، وواجهت التهديد بالسقوط والاجتثاث، ولكنها صمدت وتماسكت في وجه الأخطار التي أحاطت بها، واستخلاص الدروس والعبر من ذلك لينظر هل الأخطار الراهنة الآن تجدي معها أساليب المواجهة السابقة، وما هي العوائق الحالية التي تقف في وجه استنفار القوى الذاتية، ووضعها موضع العمل والحركة.

 

إن التفكير بذلك أمر طبيعي عند بني البشر جميعاً وعند الشعوب الحية بوجه خاص ونحن نعتقد بلا فخر أننا نملك عناصر الحياة، ونتربع على إرث حضاري من ميراث النبوة يدعونا إلى المعرفة الصحيحة للعوامل الكامنة وراء الهزائم والنكسات، فهذا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - قد دعا صحابته إلى مؤتمر في العصر الذهبي للدولة الإسلامية، وصفه لنا العرباض بن سارية - رضي الله عنه - فقال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا يا رسول الله: إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد[1].

 

هذا إنذار مبكر مجمل، من أن الأمور ستتغير، ومن أن الانحراف والفتن ستقع، وأنه - صلى الله عليه و سلم - قد ترك لأمته محجة بيضاء، يتحاجون إليها زمن الفتن، وهي السنة، من تمسك بها، ميز الحق عن الباطل ونجا، ومن تركها زاغ وهلك.

 

ثم عرض - صلى الله عليه و سلم - للأمة مسحاً شاملاً للحقب السياسية التي ستتعاقب عليها، ابتداءً من عصره - صلى الله عليه و سلم - وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقال: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت\".[2]

 

وأخبر - صلى الله عليه و سلم - عن افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ودلّ على الفرقة الناجية وقال: إنها السواد الأعظم.

 

ثم فصّل في أحوال الشر الذي سيعم الأمة، وسمات أساطينه وألسنتهم وشبهاتهم، وما ينبغي أن يفعله المسلم في كل حقبة من الحقب حفاظاً على دينه ونفسه. فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه و سلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك\"[3].

 

واضح أن هذه الأحاديث لم تكن تتناول واقعاً معاشاً بعد، أو تعالج مشكلة قائمة، بل إن اندحار الإمبراطوريات وفتوح البلدان ودخول الناس في دين الله أفواجاً كانت مؤشرات في الاتجاه المعاكس المشرق. لكن الصحابة أخذوا الأمر مأخذ الجد، وكأنه وشيك الوقوع. فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ما لبث أن انتهى من سماع خبر افتراق الأمة المؤلم، وهلاك الفرق إلا واحدة، حتى بادر بالسؤال عن الفرقة الناجية، فقال: يا رسول الله، أخبرنا من هم؟ وذلك للتشبث بها ومباعدة ما عداها. فأجابه الرسول - صلى الله عليه و سلم -: \"بأنها السواد الأعظم، الذي فسره في حديث آخر بأنهمº ما أنا عليه وأصحابي، وسؤال حذيفة - رضي الله عنه - عن جولات الشر مع الخير، هو الذي قعد للأمة قاعدة ذهبية في فقه الحركة، والعمل في ظل أنظمة الجور، ومتى يواجه المسلم ومتى يهادن.

 

سأل الصحابة - رضي الله عنهم - أو استنطقوا رحمة بالأمة وسمعوا الإجابة، وبقيت الإجابات مدخرة، وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه و سلم -، وبداية ظهور البدع، وكان أولها بدعة الخوارج، أحس الصحابة بإرهاصات الاختلاف الكبير، فهرعوا إلى أحاديث الافتراق والفتن، بحثاً عن سمات وأحكام الفرقة التي تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وراحوا يسقطونها على الواقع الجديد، ويحددون موقفهم الفاصل منها، غير آبهين بصدقهم وبمحافظتهم على الصلاة وتلاوتهم للقرآن وقولهم لا إله إلا الله، فقد فهموا من حديث الافتراق أن الفرق التي حذرهم الرسول - صلى الله عليه و سلم - منها تقول لا إله إلا الله، وأنها لا تخرج عن الملة على العموم. وهذه الفرقة قد مضى فيها قول الرسول - صلى الله عليه و سلم -: \"لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد \".[4]

 

وبعد نمو البدع وتحولها إلى مدارس فكرية، ازدادت الحاجة إلى التمايز، وتصدر مصطلح أهل السنة والجماعة مشتقاً من معاني الأحاديث النبوية فتاوى وأقوال الصحابة مقابل أهل الأهواء والفرقة، وعندما سئل ابن عباس - رضي الله عنه - عن تفسير قوله - تعالى - ((يوم تبيض وجوه وتسود وجوه))، قال \"تبيض وجوه أهل السنة والجماعة\". فلم تعد كلمة \"المسلمون\" كافية في نظر ابن عباس لتبيان من الذين تبيض وجوههم. ومع ظهور بدع الجهمية والقدرية والرفض، أصبح السؤال عن السنة ظاهرة عامة، فكان الرجل يأتي إلى الإمام مالك فيقول: \"يا أبا عبد الله: أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله - عز وجل -. قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله سل، قال: ما أهل السنة؟ قال: السنة الذين ليس لهم نعت يعرفون به: لا جهمي ولا قدري ولا رافضي\".[5]

 

ويؤثر عن التابعي الجليل ابن سيرين القول: ما كانوا يسألون عن الإسناد، ولما ظهرت الفتنة، قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.

 

إنه يصعب تصور كيف كان يمكن للدولة الإسلامية أن تقوم وتقوى وسط ذلك البحر المتلاطم من تآمرات الحاقدين من روم وفرس ويهود ومنافقين، لولا هذا المعيار الدقيق، والاستطلاع المبكر للأحداث الذي زود به الرسول - صلى الله عليه و سلم - أصحابه فعصمهم من كيد الكائدين.

 

ولا يختلف اثنان أن دعاة السنة يقفون اليوم حيارى أمام مشكلات وفتن عصرهم التي هي امتداد لفتن الماضي، كما يقول عبد الله بن المباركº أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. وتضاف إليها اليوم العلمانية. ولا عجب من حيرة الدعاة وتناقضهم، فموازين السلف وأدوات التمييز هي ما تفتقر إليها مناهجهم اليوم، ولا تعترضنا ونحن نقرأ ونسمع عن التيارات الهدامة المعاصرة وغيرها، أية عبارات توحي بعرض أحوال على ذلك الهدي النبوي، فضلاً عن أن نجد لها أحكاماً شرعية كأحكام عصاة المؤمنين، أهل القبلة، أهل الذمة، أهل البدعة، أهل الردة، ناكثي العهود، التي ألفت فيها المجلدات الكبار تبين قربهم أو بعدهم من أهل السنة وضوابط التعامل معهم، وفي المقابل يعتمد السكوت على ضلالاتهم وأحياناً إقرارها أسلوباً في التعامل معهم، بحجة أن الجميع يقولون لا إله إلا الله، ويعتذر عن ذلك بمشاكل العصر الكبرى ضياع فلسطين، القوانين الوضعية، غزو قوات الكفر لأراضي المسلمين، وجود الدولة الرافضية وهذا دليل آخر على انقطاع المنهج بيننا وبين سلفنا، وتفسير منطقي لحيرتنا، فهذه ليست المرة الأولى التي تجتمع فيها هذه المعطيات، وأوجه التشابه كثيرة بين عصرنا وعصور الانحطاط التي سادت في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ومع ذلك فقد تعامل معها سلفنا الصالح بنفس الضوابط، وكان لديهم حس راسخ بأن المشكلة مشكلتهم هم وحدهم، بل إن فرق الضلال كانت مدداً لأعدائهم. وصلاح الدين الأيوبي لم يتمكن من التفرغ لمحاربة الصليبيين في فلسطين إلا بعد أن اجتث من مصر جذور العبيديين الروافض الذين تآمروا مع الصليبيين على قتله مرتين، وأمّن جبهتها. علاوة على ذلك، يذكر المؤرخون أن تأثر بعض الخلفاء العباسيين بحركة إظهار السنة التي قادها علماء الشافعية في بغداد في أوائل القرن الرابع الهجري، وتأليف رسائل في ذلك وقراءتها على الناس، واستتابة فقهاء المعتزلة والروافض والفلاسفة، كانت إرهاصات مجيء جيل صلاح الدين المجاهد. ويقول المؤرخون، أن العلماء هم الذين صاغوا فكر صلاح الدين وحذروه من الدولة العبيدية وحرضوه على إزالتها.

 

وكذلك فعل ابن تيمية في دمشق، عندما اقتربت منها جيوش المغول، فقرئت شروط الذمة على أهل الذمة ونودي بها في البلاد، وأُلبس \"المواطنون\" اليهود عمائم صفر، والنصارى عمائم زرق، والسامرة عمائم حمر، لتتمايز الصفوف.[6]

 

إننا أحوج من الإنكليز إلى مؤتمر طارئ تحضره النخبة، تكون له أهداف واضحة، ويُحتكم فيه إلى البيضاء التي تركنا عليها الرسول - صلى الله عليه و سلم -، تبحث فيه أحوال الأمة والمخاطر التي تلم بها، وتدرس فيه أحوال الفرق المعاصرة، وصلاتها بفرق الماضي وتاريخها الأسود، ومدى مصداقية الشعارات المعتدلة التي تطلقها، وحقيقة تمسحها بالسنة. ولابد من موقف فاصل من فتنة العصرº العلمانية، والتحالف مع المرتدين والكفار. كما أنه لابد من رسم سياسة للمستقبل القريب، وتحديد هدف مرحلي لتدارك حالة الانهزام الفكري وأزمة الهوية التي انفرد بها أهل السنة في هذا العصر دون العصور السابقة على الإطلاق. ويتحقق ذلك من خلال إعادة تحديد الأولويات في المناهج التربوية داخل أروقة العمل الإسلامي بما يتفق وطبيعة الأزمة الراهنة، ومن ذلك التركيز على عقائد الولاء والبراء، ومفهوم أهل السنة والجماعة، وصفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وأحاديث افتراق الأمة وضوابط التعامل مع فرق الضلال، وصور من مواقف علماء السلف مع السلاطين واعتزالهم لهم، ودحض فكرة التقارب بين أهل السنة والشيعة على حساب عقيدة السنة. هذا الجانب من الدين هو الذي يميز أهل السنة ويبرز هويتهم، وهو الذي يفر منه أئمة الجور وأذنابهم فرار الشيطان من الاستعاذة، وفي المقابل نراهم يتاجرون يغرقون في التبجح في جوانب معينة من الشرع مما لا تكشف لها عواراً.

 

ربما يكون أسلوب التجميع غير المستند إلى ضوابط، الذي اصطبغ به العمل الإسلامي المعاصر لأهل السنة في سنيه المبكرة ولا زالت آثاره قائمة مرده واقع المعارضة الجديد الذي واجهه أهل السنة بعد أربعة عشر قرناً من قيادة الأمة، في أعقاب انهيار آخر رموز الخلافة الإسلامية، أو يكون مرده طوية المسلم السني الطيبة ونيته الحسنة. ومهما يكن من أمر، فهذا طرح طارئ على العمل قد أثبتت تجارب سبعين عاماً عقمه وفشله في جمع الكلمة، فضلاً عن مجانبته الصريحة لنصوص الشرع، ولا يجوز في حال إلزام الأمة به، لما فيه من كتمان للحق وسكوت على الباطل، ولكم خسرت الأمة أجيالاً بكاملها انزلقت في الضلال بدافع الجهل، وهذا خداع سيحمله التاريخ إلى الأجيال القادمة. وكما يقول الإمام أحمد: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟.[7]...

 

_______________________

[1] مسند الإمام أحمد 4/126

[2] الألباني: السلسلة الصحيحة، الحديث رقم 5

[3] البخاري و مسلم.

[4] صحيح البخاري

[5] الانتقاء لابن عبد البر: 35

[6] البداية والنهاية 18/14.

[7] مجموعة الرسائل لابن تيمية 5/110.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply