هل في الإسلام قشور؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، ونصلي ونسلم على صفوة رسله وإمام أنبيائه وأصفيائه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد:

يقول الله - تعالى -: \" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين \" {البقرة:208}، قال ابن كثير في تفسيرها: يقول - تعالى - آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه ويعملوا بجميع أوامره ويتركوا جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. قال العوفي عن ابن عباس في قوله ادخلوا في السلم يعني الإسلام، وروي عن ابن عباس أيضًا يعني الطاعة، وقال مجاهد أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر(1).

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :\"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان\"وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن هذا العُقد النفيس المسمى بالإيمان أفضل ما فيه من الجواهر هو التوحيد المتعين على كل مسلم ومسلمة والذي لا يصح شيء من الشٌّعب إلا بصحته، وأدنى الجواهر هو إماطة الأذى عن الطريق، ولكنها منظومة في صلب العقد وهي من الأعمال الظاهرة، وبقدر ما يتمسك العبد بهذه الشٌّعب بقدر ما تزِيد في إيمانه لأنه أي الإيمان يزداد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هو معتقد أهل السنة، وقد يكون النقض لبعض عرى الإيمان أو أكثرها الظاهر منها والباطن، كما أخبر النبي بذلك فيما رواه أحمد والحاكم من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :\"لَتُنقَضَنَّ عُرَى الإسلام عُروَةً عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناسُ بالتي تليها فأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة\"(2)، فمن الآية السابقة وهذه الأحاديث يتعين على المسلم أن يتمسك بجميع أوامر الدين وعراه وشعبه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يجتنب نواهيه كليةً، وأن لا يفرق بين ظاهر وباطن ولا يقول هذا قشر والمهم اللباب، أو هذه فرعيات والمهم الأصول، لأنه لا ينفك الظاهر عن الباطن، ولا الأصول عن الفروع، فالكل يكمل بعضه بعضًا ويؤثر بعضه في بعض، وقد يكون لهذا الظاهر عظيم للأثر في إيقاع الحكم ونفيه في مثل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:\"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله\"أي إن فعلوا ذلك في الظاهر دون الإقرار به في الباطن كما يقول ابن حجر في الفتح وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر(3). يكف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم حتى يفعلوا ما في الحديث وإن كان فعلهم ظاهرًا.

وقد يتعلل الذين يريدون أن ينقضوا عرى الإسلام عروة عروة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه:\"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم\"(4) وفي الحديث حجة عليهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عطف الأعمال على القلوب، أي أن الأعمال محلُ نظر الله                   - سبحانه - كما أن القلوب هي محل النظر منه – سبحانه -، والأعمال منها ما ظهر وما بطن وقد تؤثر الأعمال الظاهرة في القلوب صلاحًا وفسادًا، ومنها ما رواه مسلم عن أبي مسعود - رضي الله عنه -قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ مناكبنا في الصلاة ويقول:\"استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولوا الأحلام والنٌّهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم\"قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافًا(5) فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاق القلوب واتحادها نتيجة لإقامة الصفوف واستوائها، فهل يقول قائل: تسوية الصف أمر قشري أو شكلي والمهم الصلاة بعدما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال؟

ومنها أيضًا ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام أن يُحول الله صورته صورة حمار\"(6) فقد اهتم النبي                 - صلى الله عليه وسلم - بإصلاح ظاهر المصلين وهيئتهم لما لذلك من تأثير في إصلاح قلوبهم وبواطنهم، بل ورد في السنة ما هو أعجبُ من ذلك حين يلتزم المسلم بالأوامر الشرعية ظاهرًا، إيمانًا منه بأنها سبيلُ النجاة باطنًا، فقد أورد مسلم في فضل أبي هريرة حديثًا نأخذ الشاهد منه، حيث في آخره: ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا:\"أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئًا سمعه\"؟ فبسطت بردةً عليَّ حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيتُ بعد ذلك شيئًا حدثني به. ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه - عز وجل - ما حدّثت شيئًا أبدًا إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى {البقرة:159} إلى آخر الآيتين(7). فلنتأمل علاقة بسط الثوب حتى يفرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حديثه بعدم النسيان وتأثير الأمر الظاهر في القوة الحافظة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم النسيان، إنها بركة تنفيذ أمر النبي ظاهرًا وباطنًا، ومن الأعمال الظاهرة التي تؤثر في الباطن انضمام العسكر في الجهاد والمسلمون في أسفارهم وعدم تفرقهم لقوله - تعالى -: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص {الصف:4}.

ولما رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشِعَاب والأودية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"إن تفرقكم في هذه الشعِاب والأودية، إنما ذلكم من الشيطان\"فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال\"لو بُسِطَ عليهم ثوب لَعَمَّهم\"فهل نقول بعد ذلك التفرق والانضمام أمر شكلي أو قشري والرسول قال من قبل\"هو من عمل الشيطان\"؟

وقد اهتم الإسلام بالمظاهر الشكلية لما لها من تمييز للهوية الإسلامية وصبغة الله لعباده المؤمنين حتى لا يذوبوا في الملل الأخرى، ومن الشواهد على ذلك ما في الصحيحين من حديث حذيفة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:\"لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة\"وفيهما أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"إن اليهود والنصارى لا يَصبُغُونَ فخالفوهم\"وفيهما أيضًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القَزع، وهو أن يحلق رأس الصبي ويترك منه الشعر متفرقًا في مواضع ولما رواه أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:\"لا يزال الدين ظاهرًا ما عَجَّل الناسُ الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون\"(8).

ومن أقوى صور الاهتمام بالمظاهر الشكلية المميزة للهوية الإسلامية اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - راية أو لواء في الحرب وفتح البلاد، أورد البخاري حديثين في كتاب المغازي نأخذ أحدهما عن سلمة - رضي الله عنه - قال: كان علي - رضي الله عنه - تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وكان عليّ - رضي الله عنه - قد أمد (أي أصابه رمد بعينيه) فقال: أنا أتخلف عن النبي ؟ فلحق به فلما بتنا الليلة التي فتحت قال: لأعطين الراية غدا أو ليأخذنَّ الراية غدًا رجل يحبه الله ورسوله يُفتح عليه، فنحن نرجوها. فقيل: هذا علي فأعطاه ففتح عليه\"يقول ابن حجر في الفتح: والراية بمعنى اللواء وهو العَلَم الذي في الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، ونقول: وفي العصر الحديث إذا رفع علم دولة محاربة على عاصمة البلدة الأخرى المحاربة دل هذا على انكسار الدولة التي رفع العلم على أرضها، حتى في حال السلم لو فرض أن مدير مدرسة أو قائد ثكنة عسكرية رفع علمَ الدولة المعادية لدولته لكان جزاء ذلك المدير أو القائد إما أن يسجن أو عذاب أليم، فهل يكون الهدى الظاهر والمظاهر الشكلية التي تميز المسلمين عن غيرهم حتى تبقى هويتهم أمرًا قشريًا ونعيب على المتمسكين بالهدي الظاهر؟ وقد أمر به الإسلام إلى درجة أنه لعن المخالف فيها في مثل ما رواه الشيخان من حديث أسماء قالت: سألت امرأةٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله: إن ابنتي أصابتها الحصبةُ فتمرق شعرها وإني زوجتها أفأصلُ فيه؟ فقال\"لعن الله الواصلة والموصولة\"(9) وحديث عبد الله بن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك إمرأة يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال ومالي لا ألعنُ من لعن رسول الله؟ ومن هو في كتاب الله؟ فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُ فيه ما تقول، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟ قالت: بلى قال: فإنه قد نهى عنه...\"(10) الحديث

وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:\"لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال\"وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:\"لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاءَ\"(11) وحديث أبي هريرة عند مسلم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا\"(12) وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -في الصحيحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"خالفوا المشركينº وفروا اللحى وأحفوا الشوارب\"(13) فهل بعد هذه الأوامر والزواجر والوعيد باللعن والطرد من الرحمة والحرمان من نظر الله - تعالى - يقال إن ترك إعفاء اللحية وترك الحجاب وعدم تستر المرأة، وتقصير الثوب من القشور وليس له وزن والعبرة باللباب؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو الحد الفاصل بين القشور واللباب؟ نقول إن هناك قشورًا فعلا وجعلها بعض الناس من اللباب ونهى عنها الشرع الحنيف. ومن أمثلة ذلك ما جاء في حديث سعيد بن أبي سعيد مرفوعًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:\"إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم\"(13) فالعبرة بعمارة المساجد وعدم هجر المصاحف لقوله - تعالى – \" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين \" {التوبة:18}، وقوله - تعالى -: \" وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا \"{الفرقان:30}، فتزويق المساجد وتحلية المصاحف قشور غطينا بها خراب المساجد وهجران المصاحف.

والحمد لله رب العالمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

(1) تفسير ابن كثير ج1-235 بتصرف.

(2) صحيح الجامع 5-15.

 (3) فتح الباري 1-97.

(4) مختصر مسلم 2564.

(5، 6) مختصر مسلم 267.

(7) مسلم 7-167.

(8) اقتضاء الصراط المستقيم ص55.

(9، 10، 11) اللؤلؤ والمرجان.

 (12) مسلم 6-168.

(13) السلسلة الصحيحة 3-1351.

(14) أحكام الجنائز للألباني ص265.

(15) فتاوى سلطان العلماء ص24، 25 مكتبة القرآن.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply