هوس البدعة


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما أكثر البدع حسب اعتقاد المغرمين بتبديع الناس، وفي نظرهم معظم قطاعات الصحوة لا تخلو من بدعة ضلالة.

 

فالسبحة بدعة، والأهازيج الإسلامية بدعة، وفقه الواقع بدعة، والدعاء غير المنصوص عليه بدعة، وقفاز المرأة بدعة، ورفع اليدين بعد الصلاة بالدعاء بدعة، وهناك ما لا نهاية له من هذا الهوس، إن هذه الظاهرة ولا شك تنطلق من مرض نفسي أو سقم عقلي.

 

ويزداد شعورنا هذا حين نجد مثل هذه المبتدعات منصوصاً عليها في أحاديث بعضها في الصحيحين، وبعضها في السنن وأقلها درجة لا ينزل عن رتبة الحسن أو يكون غير مجمع على ضعفه.

 

ومما يدعو إلى الاستغراب أن هؤلاء متيّمون بالدليل العدمي، فدليلهم على التبديع في أحيان أخرى هو عدم الدليل، فإذا قال لك عن فعل من الأفعال بدعة فقل له: ما الدليل؟ فسيقول لك: لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوه، فإذا حاججتهم بجمع القرآن ومضاعفة بعض الحدود وفتح الدواوين وصلاة التراويح، قالوا إنها سنة الخلفاء الراشدين وأمرنا باتباعها، فإذا قلت فما قولك في إنكار الصحابة لجمع القرآن في بداية الأمر؟ وإنكارهم على عمر في مسألة إبقاء أراضي الخراج عند أصحابها بدلاً عن توزيعها على الفاتحين والاستفادة من فيئها؟ وما قولك في إنكار الصحابة على عثمان إتمام الصلاة بمنى في الحج؟ هل كان الصحابة يجهلون قوله - عليه الصلاة والسلام -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)؟ ولماذا وقف جمع من الصحابة ضد علي مع معاوية وهو الخليفة المبايع؟ فإن قال هذه اجتهادات لم يبدّعوا بعضهم بعضاً من أجلها، قلنا هذا ما نريد منك الآن، فإما أن تحكم بالبدعة على الصحابة والتابعين وإما أن تقرّ بجواز الاجتهاد في فهم مقاصد الدين، وما لم يرد فيه نص، وبجواز الاجتهاد في فهم مقاصد النصوص وأسرارها فيما فيه نص.

 

وما ذكرته الآن من حوار مفترض يجوز على المعتدلين منهم، أما الغلاة فإنهم يرون الأذان الأول يوم الجمعة بدعة لم ترد ولا يعترفون بأن الخلفاء الراشدين هم الأربعة بل يقولون لا يوجد دليل ينص على أسمائهم، ويرون المذاهب الأربعة مبتدعة،كما قال أحدهم: «إن كل هذه المذاهب ضلالات والحق فيما قال الله وقال الرسول». ومع الأسف فهم من المعروفين بالعلم والتدريس والتأليف، وكلمات أخرى يقولونها في أئمة الدين والمذاهب، تقشعرّ منها الجلود.

 

ويذكر الجميع كيف ظهر منذ مدة من يقول بأن وسائل الدعوة توقيفية، وأي وسيلة ليس عليها دليل فهي بدعة، ثم لما علموا تورّطهم في هذه المقولة، ورأوا استهزاء الناس بعقولهم خجلوا من أنفسهم.

 

والذين حرموا اتباع المذاهب الأربعة خاضوا في الأدلة بأنفسهم فغرقوا في بحار العلم ولما يخوضوا غمراته بعد.

 

ولقد كان أكثر الصحابة يتورّعون عن هذه الكلمة، ولا يطلقونها بالمعنى الدارج بيننا إلا في مواضع مخصوصة، والروايات التي تروى عنهم في هذا يجب أن تؤخذ بحذر من ناحية سندها أو من ناحية إقرار الصحابة الآخرين لها، لأن عدداً من الصحابة رأوا بدعة ما ليس ببدعة لعدم بلوغ الدليل إليهم فلما عرّفهم الصحابة بذلك رجعوا، أو من ناحية مخالفة النصوص فقد يقول الصحابي بقول يصل إلينا خلافه عن طريق صحابي آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا إذا صدر عن الصحابة، فما بالك فيما يصدر عن الأئمة والعلماء الذين جاءوا من بعدهم - رضي الله عنهم -.

 

فعندما يحكم أحد الأئمة ببدعة قول أو فعل فليس من الضروري أن يكون كلامه حقاً وصواباً فهناك عدد من الأئمة والرؤى والأقوال تتعدد في الأمر الواحد، أذكر أن بعض الأئمة والعلماء رحمهم الله في مواضع كثيرة من الفتاوى وغيرها يحكمون على أمر ببدعيته فيقولون لم يرد ذلك في السنة ولا ورد عن الصحابة وقد ورد في السنة وورد عن الصحابة في أكثر من دليل ومرة يقول أحدهم اتفق أهل العلم ولم يتفقوا، ومرة ينفي صحة شيء ويقرّه في مكان آخر ويقول به، ويحكم بالتحريم في شيء يحكم بحلّه في موضع آخر، وغيره مما يحدث من العلماء ممن يفوتهم دليل أو تخفى عليهم سنة، وهذا يدعونا إلى الحذر من الاندفاع في تبديع الخلق أو نفي الحق عنهم بأقوال لم تمرّ على التحقيق والتمحيص أو رجع عنها أصحابها.

 

وقد يذكّرنا ذلك بقصة الإمام البخاري حين قال: «لفظي بالقرآن مخلوق\"فطرد وأوذي وقد كان الحق معه والناس يرونه على بدعة مغلّظة إن القدح في عقائد الناس وقذفهم بالبدعية أشد عند الله من رميهم بالزنى والفواحش كلها، لأن البدعة عند الله أغلظ من كبائر الذنوب.

 

سوف أضع ضوابط لما ليس ببدعة لنخرج بتعريف عام لكل ما هو بدعة

 

1- ما ورد فيه نص صحيح أو ضعيف

ولا غرابة أن يتعجب القارئ من هذا الضابط ويتساءل: وهل السنة إلا ما ورد فيه نص؟ وهذا صحيح ولكن حين نتأمل في المهووسين بتبديع الناس وننظر في أقوالهم نجد أنهم لا يخشون من إطلاق البدعة على من يملكون مرجعية ونصوصاً فيما ذهبوا إليه، والأدلة على ذلك كثيرة وعندي مجموعة فتاوى من هنا وهناك تحكم ببدعة عدد من الأفعال بعضها في الصحيحين وبعضها في غير الصحيحين بأسانيد صحيحة وبعد أن تأملت في الأمر وجدت أن الدافع إلى ذلك في غالبه الهوى وإن تذرعوا بكل ذريعة ووجدتهم يكيلون السنة بموازين كثيرة ومن يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة يجب ألا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، من الأمثلة على ذلك ما هو في الصحيحين وغيرهما

 

أما الحديث الضعيف فهو برغم ضعفه لا يجوز تبديع من عمل به لعدة أسباب:

أ - احتمال ثبوته بوجه من الوجوه.

ب- أن العمل بالضعيف مستحب عند بعض الأئمة احتياطاً حتى لو اشتدّ ضعفه.

ج- إثبات الأئمة هذه الأحاديث بأسانيدهم فما من كتاب إلا فيه ضعيف عدا الصحيحين والموطأ على خلاف في الموطأ.

د - دخول الضعيف في مسائل الاجتهاد وليس في المحدثات.

 

2- ما جاز فيه وجه من وجوه الاجتهاد إما بالفهم لما نص عليه أو بالاستنباط

فكل دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو ما لم يرد فيه دليل جاز الاجتهاد فيه إلا ما ورد التحريم من الخوض فيه أو التعرض إليه، ولك أن تعجب ممن يرى اجتهاده حقاً واجتهاد غيره جهلاً وضلالاً.

 

3- ما ثبت عن أحد الصحابة أو بعضهم فعله أو قوله

لأن الصحابة كلهم ثقات عدول لا يجوز إطلاق البدعة على أفعالهم لاقترابهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهم من الفهم ما لا تدركه مفاهيمنا، وثبت عندهم ما لم يصلنا، نعم قد يخالفه صحابة آخرون ولكن ما دام الصحابي متمسكاً برأيه ولم يرجع عنه فليس لأحد أن يعتبر فعله خارجاً عن السنة ما لم يرد فيه دليل على تخطئة صاحب هذا الفعل كحديث الفئة الباغية وحديث إسرائيل قد يكون فعل الصحابي مرجوحاً ولكن وسمه بالبدعة أو من يفعل فعله جريمة وشناعة، اشتهر بها الرافضة والخوارج.

 

4- أن يكون العمل منتسباً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو متفرعاً عنهما أو نابعاً منهما أو منطلقاً من مقاصدهما

 

من هذا المنطق رأينا الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينطلقون دون حرج في ذلك وهو يقرّهم على ذلك كالصحابي الذي حمد الله بعد الرفع من الركوع بثناء جاء به من عنده منطلقاً من أصل الحمد في هذا الموضع من الصلاة فامتدح الرسول فعله وأخبره بأن الملائكة نزلت لترفعها، وكما فعل بلال - رضي الله عنه -يوم كان يصلي لكل وضوء ركعتين فسمع الرسول خشخشة نعليه في الجنة وأمثلة لا تحصى في هذا الباب، يكفينا فعل أبي بكر - رضي الله عنه - في جمع القرآن، وفعل عمر - رضي الله عنه - في صلاة التراويح.

 

5- ألا يكون العمل مضافاً إلى عبادة توقيفية خاصة

كالذي يزيد شوطاً في الطواف تعبداً أو يرمي الجمار أكثر من سبع تعبداً أو يترك السحور تعبداً أو يأتي في الصلاة بأفعال وأقوال زيادة على ما ورد وما هو توقيفي.

 

بعد هذا كله نستطيع أن نقول:

«البدعة: هي كل عمل قلبي أو بدني أحدث على سبيل التعبد أو أضيف إلى عبادة توقيفية لا ينتسب إلى أصل من الكتاب والسنة الصحيحة أو الضعيفة أو عمل الصحابة ولم يكن له وجه جائز من وجوه الاجتهاد».

 

ويجب أن ننبه على كلمة عبادة لأن ما لا يدخل في العبادة لا يدخل في البدعة وهذه إشكالية عند المهووسين بالتبديع يضعون العادات في مصاف العبادات ثم يدخلونها في أبواب البدعة، ويحكمون على الخلق بالبدعة والضلال.إن الصحوة الإسلامية في هذا العصر بحاجة ضرورية إلى تضييق معنى البدعة والاقتصار على الكتاب والسنة ومفهوم الصحابة - رضي الله عنهم - وليس التبديع بأقوال كل من هبّ ودبّ، لأن كثيراً من معالم البدعة التي نسمع عنها ونجدها ما هي إلا قضايا اجتهادية جاءت من رؤى وآراء مختلفة تستحق المراجعة والتمحيصº لأن العلماء الذين جاءوا بها لم يجمعوا على كثير منها، ولأن كلاً منهم ينطلق من قواعد تختلف عن الآخر، وكل عالم له تصور عن البدعة فهذا مضيق في منهج البدعة وذاك موسع وهذا متسرع متشدّد وذاك متأن معتدل وغيره بطيء متساهل. من أجل ذلك فليس كل من حكم على اعتقاد أو عمل بالبدعة نجعله حجة على الخلق، ولا يصح أن نجعل عالماً من العلماء أو إماماً من الأئمة ميزاناً لباقي الأمة كلها. ومن أخطاء الصحوة أن كل قطاع منها يتخذ إماماً من الأئمة ليقيس الأمة كلها عليه ومن خرج عنه فهو على خطر عظيم، فالإمام الغزالي له أتباع، والإمام ابن رشد له أتباع، والإمام ابن حزم له أتباع، والإمام الجيلاني له أتباع، والإمام ابن تيمية له أتباع، والإمام ابن حجر له أتباع، وغير هؤلاء لهم أتباع - رضي الله عنهم جميعاً -. الحل الوحيد هو أن يقاس كل هؤلاء على الكتاب والسنة فإن اختلفت أفهامنا للكتاب والسنة فلنرجع إلى السواد الأعظم وما أجمعت عليه الأمة في القرون الثلاثة فإن تعذّر الإجماع والسواد الأعظم، فليس لإمام فضل على إمام ويدخل الجميع في باب الاجتهاد المغفور والمأجور.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 2 )

هذا هو الصواب

12:18:41 2016-06-17

هذا هو اجماع اهل السنة واهل العلم و الغريب ان بعضهم يستغرب من هذا لانه لم يبحث في هذا الموضوع و لم يسمع الا من جهة واحدة و مدرسة واحدة مهووسة بالبدع كما قال الشيخ

الحبيب خلط

-

ابوياسر

00:37:01 2016-06-10

الدكتور الحبيب هداه الله ،خلط الصالح بالطالح وتخبط تخبط عشواء بدون علم وليته يكتفي بتخصصه الطبي الذي يخطيئ فيه ويصيب ،ويسأل أهل العلم فيما عدى ذلك وليعلم ان المولى قال في محكم التنزيل ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) وما من كــاتب إلا سيفنى … ويبقى الدهر ما كتبت يداه. فلا تكتب بكفك غير شىء … يسرك يوم القيامه ان تراه ... ارجو ان تصله هذه امعلومة عسى ان ينتفع بها والله الهادي الو سواء السبيل ....