الدين سنة تاريخية وليس مجرد تشريع فقط


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القانون العلمي كما نتصوره عادة، عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي ولا النقض من قبل الإنسان وهو بالتالي محكوم لها ولا يستطيع الخروج عن دائرتها لأنها قانون من قوانين الكون والطبيعة فالإنسان لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلى إذا توفرت شروط الغليان، ولكن يمكن للإنسان أن لا يصلي لأن وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانوناً تكوينياً، وكذلك يمكنه شرب الخمر إلى غير ذلك.

ولكن هناك أمور أخرى من سنن الكون تأبى التحدي من قبل الإنسان على أشواط طويلة قد تقبل التحدي على أشواط قصيرة، ومثل ذلك.

هناك في تركيب الإنسان وتكوينه اتجاها طبيعياً لا تشريعياً إلى إقامة علاقات معينة بين الذكر والأنثى في المجتمع ضمن دائرة النكاح فهذا الاتجاه رُكب في طبيعة الإنسان تركيبة وليس اتجاها تشريعياً فقط.

والتحدي لهذه السنة لحظة أو لحظات ممكن، فقد أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة لفترة من الزمن، بينما لم يكن بإمكانهم أن يتحدوا سنة غليان الماء بشكل من الأشكال والمجتمع الذي يتحدى سنة النكاح بين الذكر والأنثى يكتب بنفسه فناء نفسه، لأنه يتحدى ذلك عن طريق ألوان من الشذوذ التي رفضها هذا الاتجاه، وتلك الألوان من الشذوذ تؤدي إلى فناء المجتمع وخرابه وهذا ما حصل فعلاً لقوم لوط.

والقرآن الكريم يعرض الدين بهذين الشكلين من السنن فالقرآن يرى أن الدين نفسه ليس مجرد تشريع وإنما هو سنة من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين:

تارة يعرضه بوصفه تشريعاً كما يقول علماء الأصول كما في قوله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ اللهُ يَجتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ} {الشورى:13}

هنا يبين الدين كتشريع، كأمر من الله - سبحانه و تعالى -، لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ، وقانوناً من داخلاً في تصميم تركيب الإنسان وفطرته، كما في قوله - تعالى -: {فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ} {الروم:30}

فالدين هنا لم يعد مجرد تشريع وقرار من أعلى وإنما هو فطرة للناس، هو فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، كما إنك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان أي جزء من أجزاء التي تقومه كذلك لا يمكنك أن تنتزع الإنسان من دينه، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطائها ويمكن الاستغناء عنها، لأنها حينما تصبح هكذا، لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها.

ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الإنسان من خلال تطوراته المدنية والحضارية على مر التاريخ.

فالدين خلق الله: {فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ}{الروم: من الآية30}

والمعنى لا يمكن أن ينفك هذا الدين عن خلق الله ما دام الإنسان إنساناً، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان، ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى القوانين العلمية الثابتة كسنة غليان الماء مثلاً،وإنما هي سنة تقبل التحدي على الشوط القصير، كما كان بإمكان تحدي سنة النكاح وسنة اللقاء والتزاوج الطبيعي بين الذكر والأنثى عن طريق الشذوذ الجنسي لكن على شوط قصير، كذلك بالإمكان أيضاً تحدى هذه السنة على شوط قصير عن طريق الإلحاد، ولكن هذا التحدي أيضاً لا يكون إلا على شوط قصير، لأن العقاب سوف ينزل بالمتحدي، والعقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب، وإنما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها حيث يفرضه الله على كل أمة تريد أن تبدل خلق الله سبحانه، ولا تبديل لخلق الله، مع الالتفات إلى أن نزول هذا العقاب ليس فورياً بالضرورة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية تختلف عنها بمعناها بلحاظ امتداد التاريخ الإنساني وهذا ما أرادت الآية التالية أن تلفت الأنظار إلية قال - تعالى -: {وَيَستَعجِلُونَكَ بِالعَذَابِ وَلَن يُخلِفَ اللهُ وَعدَهُ وَإِنَّ يَوماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلفِ سَنَةٍ, مِمَّا تَعُدٌّونَ} {الحج:47}

فهذه الآية تتحدث عن العذاب، فهي واقعة في سياق العذاب الجماعي الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة، ثم بعد ذلك يتحدث عن استعجال الناس في أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم كانوا يقولون له أين هذا العقاب؟ أين هذا العذاب؟ لماذا لا ينزل بنا وقد كفرنا وتحدينا وصممنا آذاننا عن القرآن؟.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply