مناهج الدعوات لا أفعال الدعاة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مناهج الدعوات لا أفعال الدعاة:

 مما لا شك فيه أن الدعاة مطالبون بأن يكونوا قدوة للآخرين حتى يمثلوا دعوتهم أحسن تمثيل، فيتبعهم الناس، ويؤمنوا بدعوتهم، ويلتفوا حول فكرتهم، إذ يرون فيهم قدوات حية تقودهم إلى الخير والصلاح.

 

ولكن رغم أهمية هذا الأمر وضرورته للدعوة والدعاة إلا أن ذلك لا يعني أن هؤلاء الدعاة معصومون عن الخطأ والزلل مبرؤون من النقص والقصور.

 

لذلك فالأولى إذا أردت أن تحاكم فئة ما أن تحاكم فكرها ومنهجها المكتوب، والمتعارف عليه فيما بينها، والذي يتربى أفرادها عليه، وقد بُذل جهد كبير لتأطيره وتأصيله وتقعيده.

 

أما محاكمة أقوال أو تصرفات بعض دعاتها أو علمائها أو حتى قيادتها فربما لا تكون هذه المحاكمة دقيقة ولا علمية ولا منصفة، إذ إن هؤلاء العلماء والدعاة بشر يصيبون ويخطئون، وربما تمر على أحدهم بعض الظروف والأحوال التي لا يعلمها إلا الله - تعالى -، فيضطر أحدهم إلى قول أو فعل ما يكون مجانباً للصواب، أو يكون صائباً في ظرف ما أو في زمان أو في مكان ما، لكنه غير صائب فيما سواه.

 

كما أن البشر قد يعتريهم قصور أو نقص، أو ربما يقتنع أحدهم برأي ما مخالف لرأي الفئة التي ينتمي إليها، فيتبع ما يظنه الحق، وإن كان خلاف المنهج الذي ينتمي إليه، كما كان السلف - رضوان الله عليهم - يفعلون ذلك.

 

إن أتباع الأئمة الكرام خالفوا أئمتهم في كثير من الآراء والاجتهادات، فقد خالف ابن العربي الإمام مالك، وخالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني شيخهما الإمام أبا حنيفة، وخالف النووي الإمام الشافعي في العديد من المسائل، وخالف ابن تيمية الإمام أحمد، وخالف ابن القيم شيخه الإمام ابن تيمية، وهكذا.

 

إن محاكمة الرجال تختلف عن محاكمة المناهج والأفكار، وبينهما فرق دقيق ربما لا ينتبه إليه كثير من الناس، إذ إن الناس جعلوا المناهج مُجَسَّدة في أفعال الرجال، وهذا مطلوب، أي أن يُجَسِّد الرجال مناهج دعوتهم الحقة، ولكنه لا يتحصل دائماً، لذلك فإن المحاكمة العلمية العادلة هي التي تبحث في ما ورد في مناهج الدعوات لا فيما قاله الدعاة.

 

يقول صاحب العوائق:\"ولقد أسرف بعضهم في الابتعاد عن هذه النظرة (أي قبول أحسن ما عملنا والتجاوز عن سيئاتنا)، فأحصى ما يظنه من أخطائنا، مما صدر عن آحاد من دعاة حركتنا، حاولوا الاجتهاد، فبعض أصاب وبعض أخطأ.

 

أما الأتباع فلا ننكر أن فيهم من قد يخطئ في كلامه أو تصرفه، ولكن لا بد من الانتباه إلى مسألة مهمة جداً، حين تقدير ما يصدر عن الأتباع، ذلك أن الدعوة ليست مجمعاً للكاملين، وإنما هي مجتمع تربوي يسعى لتربية كل وافد إليه إذا كان مبتعداً عن الكبائر شريفاً في الناس.

 

وإذا قيل إن فلاناً قد صار من جملة شباب الدعوة فليس معنى ذلك أنه قد استكمل الإيمان وحاز العلم من أقطاره، ولكننا حين نصفه بذلك فإننا نعني أنه قد رضي أن يربيه الدعاة، وإنه قد بدأ السير وفق المنهج الأصح.

 

وعلى هذا فإن الأتباع، وحتى القادة، متفاوتون في كمية حيازة خصال الإيمان والفقه الشرعي الذي يجعل أعمالهم صائبة، فمنهم المبتدئ الذي قد يخطئ، ومنهم الوسط في ذلك، ومنهم من الذي كثف خيره وعبق عطره.

 

وليست دلالة القِدم أكيدة في ذلك، وإنما هي طاقات مختلفة من التحمل والصبر والذكاء والشجاعة، ولربما تجد القديم في منازل المبتدئين مراوحاً إذ لم يكن له مقدار وافر من هذه الخصال الابتدائية، فقد يخطئ في تعامله أو في كتاباته وأقواله.

 

وأمر التجميع وقبول الأتباع في الصف يعتمد إلى حد كبير على الفراسة عند المربين والقادة، والفراسة من شأنها أن تصيب أو تخطئ، والقاعدة التي نتبعها أن نفتح بابنا لكل طارق أمين مهما قلّ خيره، طالما جاءنا طامعاً في أن يقف في صف صلاتنا خلف إمامنا.

 

والحقيقة أن أكثر أخطاء الأعضاء محاسبون عليها، وتشهد على ذلك قصص فيها مفخرة للقيادات في حرصها على الحسبة ونقاء الصف وتقويم الاعوجاج، ولكنها لا تذيع ذلك أو تنشره، لأن في المقصرين الذين حوسبوا شعباً وأنواعاً من الخير لا يراد لها أن تضمحل أو تموت بالتشهير.

 

ولو أذاعت القيادات محاضر محاوراتها لأمثال هؤلاء المقصرين، معاتبة ومرشدة ومنبهة لهم، لوقعت في الخطأ الذي نعيبه هنا، ولكنه الستر على أهل الخير يستغله الناقدون بلا علم، فيقدمون على الجرح والقدح بجرأة في موطن تهيبت فيه القيادات واستحسنت الهدوء في معالجة الأمر الذي هيج الناقدون.

 

وفي الواقع أن أكثر الانتقادات التي توجه يمكن ردها بسهولة، ونستطيع أن نقنع المنتقد بوجهة نظرنا إذا كان سليم الطوية، صادراً عن حب في الإصلاح ما استطاع1.

 

ولا يعني ما سبق من كلامنا أن لا يؤاخذ الدعاة بما يقولون أو يفعلون، ولكن نعني بذلك أن لا تؤاخذ الدعوات بخطأ بعض أفرادها.

 

لذا، إذا طرحت شبهة ما حول فئة ما، وكان أساس الشبهة خطأ أو انحرافاً وقع فيه بعض أفرادها، فإن الجواب على هذه الشبهة يكون وبكل يسر: إن هذا الخطأ هو خطأ فرد، وليس خطأ منهج أو دعوة.

 

ومما يتعجب له المرء أحياناً أن يجد بعض الفئات تتطاول على أخطاء وقع فيها أفراد في دعوات أخرى مخالفة، فتصب عليهم سيل من الاتهامات والشبهات التي لا تلصقها بهؤلاء الأفراد المخطئين ولكن تلصقها بدعوتهم كلها، في حين إذا نظرت إلى هذه الفئة المتطاولة وجدت فكرها ومنهجها يحتاجان إلى إصلاح شديد وإلى إيضاح كثير.

 

فسبحان الله كيف يضخم البعض خطأ الأفراد ويحجِّمُوا خطأ المناهج والأفكار، وكيف يرى بعضهم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply