أسس منهج طلب العلم عند السلف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أولاً / العلم النية:

قال - تعالى -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة 5)

وقال - عز وجل -: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِد لَهُ فِي حَرثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدٌّنيَا نُؤتِهِ مِنهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ,)(الشورى20)

وقال - سبحانه وتعالى -: (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلَاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا)(الإسراء18)

وروى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت258هـ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ, ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(1)

وروى الإمام مسلم بن الحجاج (ت261هـ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكرهم وذكر منهم رجلاً تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلمَ وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ. فقد قيل. ثم أُمر به فيسحب على وجهه حتى أُلقي في النار …)(2)

وروى الحافظ أبو عبد الله بن ماجه في مقدمة سننه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (من تعلم العلم مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عـُرُضاً من الدنيا، لم يجد عُرف الجـنة يوم القـيامة)(3) يعني ريحها

وأخرج بإسناده عن جاب بن عبد الله - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – قال: (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)(4)

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البغدادي (ت463هـ) (يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله - سبحانه وتعالى -)

وقال أيضاً: (وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه..) ثم قال: (وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه).

وقال أيضاً: (وليجعل حفظه حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء …) ثم ذكر الحسن البصري (ت110هـ) قوله: (همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية)(5)

قال بدر الدين بن جماعة (ت733هـ) (يجب أن يقصد المعلم بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله - تعالى -، نشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحـق وخـمول الباطل، واغتنام ثوابهم وثواب من ينتهي إليه علمه، وبركة دعائهم له وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم، وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" إن الله - تعالى - وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحرها يصلون على معلم الناس الخير)(6)

وقال - رحمه الله -: (كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله - تعالى -، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان نصيب من الأجر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : \" إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوله \" وإذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم.ملخصاً (7).

وقال أبو عمر عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (ت643هـ) (علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، و ينافر مساوئ الأخلاق ومشاني الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه، فليقدم تصحيح النية وإخلاصها، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها وليحذر بلية حب الرئاسة ورعونتها)(8)

 

وقال الشيخ عبد الحميد بن باديس (غاية العالم المسلم أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره، أما كثرة الطلاب فمنهم من تكون غايته الوظيفة، فهم غفلة من أنفسهم وعن غيرهم، ومنهم من تكون غايته أن ينال الشهادة بالعلم، فهو مثل الأول، فأنا الغاية الحقيقة التي ذكرنا فما أقل أهلها لأنها لا ذكر لها في برامج التعليم، ولا اهتمام بها من المعلمين. وحق على كل طالب أن تكون هي غايته، وهو مع ذلك نائل العلم، ونائل ما يؤهله للوظيفة إن أبى إلا أن تكون من قصده، ولكنه بالقصد إلى تلك الغاية يكون عاملاً في أثناء تعلمه على تهذيب نفسه، ويكون مصدر هداية الناس في المستقبل، كن هذا إنما يتم للطالب إذا كان شيوخه يهتمون بهذه الغاية و ويعملون لها، ويوجهون تلامذتهم لها. وما أعز هذا الصنف من الشيوخ)(9)

 

ثانياً / منازل العلم(*):

أخرج أبو عمر عبد البر النمري القرطبي (ت463هـ) بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك (ت181هـ) يقول: (أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)(10)

وبسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي عن محمد بن النضر الحارثي قال: (أول العلم الاستماع، قيل ثم ماذا؟ قال: الحفظ، قيل ثم ماذا؟ قال: العمل، قيل ثم ماذا، قال: النشر)(11)

وبسنده أيضا إلى سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) قال (كلن يُقال: أول العلم الصمت، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره وتعليمه)(12)

وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت216هـ أو بعدها) قال (أول العلم الصمت، والثاني: حسن الاستماع، والثالث: جودة الحفظ، والرابع: احتواء العلم، والخامس: إذاعته ونشره)(13)

وعن الضحاك بن مزاحم (ت106هـ) قال (أول باب العلم: الصمت. والثاني استماعه، والثالث: العمل به. والرابع: نشره وتعليمه)(14)

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) - رحمه الله - في مطلع رسالة الأصول الثلاثة (اعلم رحمك الله- أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه، الرابعة: الصبر على الأذى فيه والدليل قول - تعالى -: \" وَالعَصرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ, * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ \")(15).

قال ابن القيم - رحمه الله -: (ت751هـ) (والعلم ست مراتب: أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات الاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به، ومراعاة حدوده. فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذا حال كثير من الجهال المتعلمين.

ومن الناس من يحرمه بسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطلبة للعلم، وهي تمنعه علماً كثيراً، ولو كان حَسَنَ الفهم.

ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: من كان حَسَنَ الفهم، رديء الاستماع لم يقم خيره بشره.

 

وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب العلل له قال: كان عروة بن الزبير يحب مـماراة ابن عباس، فكان يخزن علمه عنده، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزاً)(16)

 

ثالثاً / الأدب قبل الطلب:

اشتهر عند السلف إرسال الصبيان عند بلوغهم سن التمييز إلى مؤدب، يُحفظهم القرآن ويُعلمهم مبادئ القراءة والكتابة ويشرف على تأديبهم وتربيتهم وتعليمهم السمت والهدي والخلق الحسن، فإذا بلغوا سن التكليف أحضرهم مجالس العلماء ليقتدوا بهم في السمت والهدي والعبادة والعمل، ثم بعد ذلك يخرجهم إلى حلقات العلم. وقد أُطلق لقب مؤدب على جماعة ممن تفرغوا لتأديب الصبيان، وعُرفوا بذلك.

 

قال أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ) : (كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة)(17)

وقال عبد الله بن المبارك (ت181هـ): (طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم)(18)

وقال أيضاً: (كاد الأدب يكون ثلثي العلم)(19)

وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال محـمد بن سيرين (ت110هـ): (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم)(20)

وبسنده إلى إبراهيم بن حبيب الشهيد (ت203هـ) قال: قال لي أبي: (يا بُني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث)(21).

وبسنده أيضا إلى عبد الله بن المبارك قال: قال لي مخلد بن الحسين (ت 191هـ): (نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث)(22)

وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري (ت 344 هـ) قال: (علم بلا أدب كنار بلا حطب، و أدب بلا علم كجسم بلا روح)(23)

وعن عيسى بن حمادة زغبة (ت 248هـ) قال: سمعت الليث بن سعد (ت175 هـ) يقول: (وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال: ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم)(24)

وقال سفيان بن عيينة (ت 198هـ) نظر عبيد الله بن عمر (ت 147هـ): إلى أصحاب الحديث و زحامهم فقال: (شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أدركنا وإياكم عمر بن الحطاب لأوجعنا ضربا)(25)

وعن محمد بن عيسى الزجاج قال (سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس)(26)

قال الخطيب البغدادي: (وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، وأقلهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، إنه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقتهُ مشقه الحفظ لصنوفه وأبوابه)

وقال: (وهم مع قلة كَتبِهم له وعدم معرفتهم به، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيها وعجبا، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة، يخرقون يجهلون بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه..... ) ا هـ. مخلصا(27).

هذا كلام الخطيب البغدادي الذي عاش ما بين عامي 392هـ و 463 هـ في بعض محدثي أهل زمانه فماذا سيقول لو أدرك زماننا اليوم مطلع القرن الخامس عشر الهجري، كم من منتسب للعلم اليوم وليس من أهله, ومتصدر للتدريس والفتوى وهو ليس من أهل ذلك الشأن، وكم من سال لسانه وقلمه ولما يحط علمه ببعض مسائل العلم فضلا عن كثير منها، فادعى علم ما لم يعلم و إحسان ما لم يحسن، ورمى غيره بما هو أولى به منه، فإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم.

 

رابعاً / اقتران العلم بالعمل:

قال الله - عز وجل -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ * كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفعَلُونَ)(الصف 2، 3)

وفي صحيح الإمام مسلم (28) عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)

وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قد عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعٍ,: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)(29)

وأخرج أبو محمد الدرامي (ت255هـ) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : (كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربوا فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة؟ قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثُر قراؤكم وقلّت فقهاؤُكم، كثُرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤكم  والتُمست الدنيا بعمل الآخرة)(30)

وقال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت125هـ) (إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان ومن غوائله الكذب، وهو شر غوائله)(31)

وقال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي (ت10هـ) (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم)(32)

وعن أبي قِلابَة عبد الله بن زيد الجَزمي (ت104هـ) قال: (يا أيوب يعني ابن أبي تميمة السختياني (ت131هـ) إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة فأحدِث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدث به)(33)

وعن الحسن البصري (ت110هـ) قال: (كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه ويده)(34)

وقال سفـيان الـثوري (ت161هـ) : (يهتف العـلم بالعمل، فإن أجـابه وإلا ارتحل)(35)

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن المبارك: سُئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليك أو العمل؟ فقال: (إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم)(36)

وعن المرٌّوذي قال: قال لي أحمد: (ما كتبت حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عملت به، حتى مر بي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً، فاحتجمت وأعطيتُ الحجّام ديناراً)(37)

وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً، فاحتجمت وأعطيتُ الحجّام ديناراً)(37)

قال الحافظ ابن الصلاح (ت643هـ) (ورُوينا عن وكيع قال: إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به)(38)

وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى سفيان الثوري قال: (العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلو، فإذا شُغلو فُقدوا، فإذا فُقِدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هربوا)(39)

وعن حبيب بن حجر القيسي قال: (كان يُقال: ما أحسن الإيمان ويزينه العلم، وما أحسن العلم ويزينه العمل، وما أحسن العمل ويزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم)(40)

 

وأخرج ابن عبد البر بسنده إلى علقمة عن ابن مسعود قال: (ما استغنى أحد بالله إلا احتاج إليه الناس، وما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده)(41)

وقال عمرو بن قيس الملائي: (ت بعد 140هـ) (إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله)(42)

وعن أبي عصمة عاصم بن عصا البيهقي قال: (بتٌّ ليلة عند الإمام أحمد فجاء بالماء فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وِرد بالليل)(43)

وقال الخطيب البغدادي: (ينبغي لطالب العلم والحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أمكنه، وتوظيف السنة على نفسـه، فإن الله - تعالى -يـقول: (لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسـُولِ اللَّهِ أُسـوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب)(42)

هكذا كان هدي السلف الصالح ومنهجهم فيطلب العلم: إنما هو لبلوغ رضوان الله بامتثال أمره واجتناب نهيه. لذلك كان لا يلبث الرجل منهم إذا طلب العلم أن يُرى أثر ذلك في هديه وسمته وتخشعه وعبادته. وكانوا سريعي الاستجابة، حريصين على الامتثال. فعندما يبلغ أحدهم سنةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُبادر إلى العمل والالتزام بها، كما كانوا حريصين على الفقه في الدين والاستزادة من العلم النافع والعمل الصالح في كل يوم وكل لحظة. وقدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من دعائه في جوف الليل (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً)(45)

قال إبراهيم الحربي: (لقد صحِبتُ أحمد بن حنبل عشرين سنة: صيفاً وشتاءً حراً وبرداً ليلاً ونهاراً فما لقيته لَقَاةً في يوم إلا هو زائد عليه بالأمس)(46)

ولم يكن من هديهم طلب العلم للتصدر والتحدث به في المجالس، بل كان همهم العبادة لله، والدعوة إلى دين الله على هدي رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه-

وهذا بخلاف ما عليه كثير ممن ينتسب إلى طلب العلم اليوم، إذ همٌّ أكثرهم التصدر والتحدث في المجالس لجذب الأنظار إلى شخصه، نسأل الله العافية!!

وهذه قصيدة نقلتها من نفس الكتاب ص81-82 وهي في طلب العلم

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (وأحسن ما رأيت في آداب التعلم والتفقه من النظم ما ينسب إلى اللؤلؤي من الرجز، وبعضهم ينسبه إلى المأمون، وقد رأيت إيراد ما ذكر من ذلك لحسنه، ولما رجوت من النفع به لمن طالع كتابي هذا، نفعنا الله وإياه به قال:

 

واعـلم بأن العلـم بالتــعلمِ *** والحفظِ والإتقانِ والتفـهـمِ

والـعلمُ قد يُـرزَقه الصغيـرُ *** في سـنه ويُحرم الكـبـيرُ

وإنـما المـرءُ بأَصـغَريــهِ *** ليـس برجـليه ولا يديـهِ

لســانُه وقـلـبُه الـمركـبُ *** في صدرِهِ وذاك خلقٌ عَجبُ

والعـلمُ بالفـهمِ وبالمذاكرة *** والدرسِ والفكرةِ والمناظرة

فربَّ إنسـانٍ, يَـنال الـحِفـظَا *** ويُوردُ النصَّ ويَحكي اللَّفظاَ

وما لـه في غـيرِهِ نصـيـبُ *** مِمّا حواه العـالمُ الأديـبُ

وربّ ذي حرصٍ, شديد الحـبِّ *** للعـلمِ والذُكر بلـيد القلبِ

معـجز في الحـفظِ والرواية *** ليست له عمِّن رَوَى حكاية

وآخـَرُ يُعـطى بلا اجتـهـادِ *** حفظاً لما قد جاء في الإسنادِ

يهـذه بالقـلـب لا بـناظـره *** ليس بمـضطرٍ, إلى قماطره

                                 ***

فالتمسِ العلمَ وأَجمِل في الطلَب *** والعلم لا يَحسـنُ إلا بالأدب

والأدبُ النـافعُ حسنُ الصـمتِ *** وفي كثير القولِ بعضُ المقتِ

فكُن لحسن السـمت ما حـَيِتَا *** مـقارناً تُحـمد ما بـقيـتَ

وإن بدت بيـن أناسٍ, مسألة *** معروفةٌ في العلمِ أو مُفتـعَله

فلا تكـن إلى الجـوابِ سابقاً *** حتى تَرَى غيرَك فيها ناطـقاً

فكم رأيتُ من عـجولٍ, سـابقِ *** من غير فهـمٍ, بالخطأ ناطـقِ

أزرى بهِ ذلـك في المجـالسِ *** عند ذوي الألـبابِ والتـنافسِ

وقُـل إذا أعـياكَ ذاك الأمـرُ *** مالي بمـا تسـأل عنـه خُبرُ

فذاك شطرُ العـلمِ عند العـلما *** كذاك ما زالـت تقـول الحُكما

والصمت فاعلم بك حقاً أزيـن ُ *** وإن لم يكن عندك علمٌ مـتقنُ

إياك والعجب بفـضل رأيِكـا *** واحذر جوابَ القولِ من خطائكا

                                ***

كم من جوابٍ, أعقبَ الندامة *** فاغتَنِمِ الصـمتَ مع السلامة

العلـم بـحرٌ منـتهاه يبـعد *** لـيس لـه حـدٌ إليه يقصـدُ

وليس كلٌّ العلـمِ قد حـويتَه *** أجَل ولا العُشر ولو أحصـيتَه

وما بَقِـي عليـكَ منه أكـثرُ *** مما علِـمتَ والجـوادُ يَعـثُرُ

فكُن لمـا سمـعتَهُ مسـتفِهما *** إن أنتَ لم تفـهم منـه الكلِما

القول قـولانِ: فقولٌ تعـقِلُه *** وآخـرُ تسمـعُهُ فتـجـهَلُـه

وكـل قـولٍ, فـلـهُ جـوابُ *** يجمعــُهُ البـاطلُ والصوابُ

ولـلـكــلامِ أولٌ وآخــرُ *** فافهمهما والذهنُ منك حـاضرُ

فربما أعـيا ذوي الفضـائـلِ *** جواب ما يُلـقى من المسـائلِ

فيُمسكوا بالصمتِ عن جـوابهِ *** عند اعتراضِ الشكِّ في صوابهِ

ولو يكون القـولُ في القيـاسِ *** من فضَّةٍ, بيضـاءَ عند النـاسِ

إذاً لكان الصمتُ من خير الذهب *** فافهم هداك الله آداب الطلب(47)

 

------------

(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي الحديث الأول. ورواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب (إنما الأعمال بالنيات)3/1515، ح155،

(2) رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/1514، ح152

(3) سنن ابن ماجه باب الانتفاع بالعلم والعمل به 1/92، ح252، ورواه الإمام أحمد في مسنده 2/338، أبو داود في سننه كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله 4/71، ح3464 وإسناده صحيح

(4) سنن ابن ماجه، المقدمة باب الانتفاع بالعلم والعمل به 1/93، ح254 قال في الزوائد: رجال إسـناده ثقات، ورواه ابن حبان في صحـيحه (موارد الظمآن ص51، ح/90 باب النية في طلب العلم، الحاكم في مستدركه 1/85، 86 أول كتاب العلم مرفوعاً وموقوفاً

(5) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/81-85 باب النية في طلب الحديث، وكلام الحسن ص91 وهو أيضاً في جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/6

(6) انظر تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص47 والحديث أخرجه أبو عيسى الترمذي عن أبي أمامه الباهلي في كتاب العلم من جامعه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب كما في تحفة الأشراف للحافظ المزي4/177 وتحفة الأحوذي للمباركفوري 3/283

(7) المصدر السابق ص63 والحديث رواه مسلم في الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/1255 ح/14

(6) علوم الحديث، النوع السابع والعشرون ص213

(9) ابن باديس لعمار الطالبي 4/203 204

(*) هذا العنوان مقتبس بنصه من كتاب جامع بيان العلم وفضله للحافظ ابن عبد البر 1/118 ومعظم فقراته منقول منه كما في الحواشي الآتية

(10) انظر جامع بيان العلم وفضله 1/118

(11) المصدر السابق 1/118 وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب 1/194

(12) جامع بيان العلم 1/118 حلية الأولياء لأبي نعيم 6/362-363

(13) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 6/362-363

(14) الجامع للخطيب البغدادي 1/194

(15) وانظر زاد المعاد لابن القيم 3/10 فقد فصل القول في هذه المسائل الأربع

(16) مفتاح دار السعادة1/202

(17) انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 6/316

(18) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري 1/446

(16) صفة الصفوة لابن الجوزي 4/120

(20) الجماع لأخلاق الراوي وآداب السامع

(21- 22) المصدر السابق 1/80

(23) انظر الجـماع لأخـلاق الراوي وآداب السـامع للخطيب البـغدادي 1/80 وأدب الإمـلاء للسمـعاني ص2

(24) انظر شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ص122

(25) المصدر السابق ص123

(27) الجامع 1/75، 77

(27) كتاب الزهد باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يأتيه 4/2290، ح/51 وهو في البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة النار، الفتح 6/331، ح/3267

(29) انظر اقتضاء العلم العمل ص16، ح/1 والحديث أخرجه الترمذي في كتاب القيامة، الباب الأول 4/611، ح/2417 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً الحافظ أبو محمد الدرامي في مقدمة سننه ص110، ح/543

(30) سنن الدرامي، المقدمة باب تغيير الزمان وما يحدث فيه، ص58، ح/91، 92 وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/188

(31) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/107-108

(32) المصدر السابق 2/11، وورد نحوه عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع. انظر الجامع للخطيب 2/258-259

(33) المصدر السابق 1/188، 2/10، واقتضاء العلم العمل للخطيب ص34-35 رقم38

(34) الزهد لعبد الله بن المبارك ص26 رقم79 وسنن الدرامي 1/89 رقم391وجامع بيان العلم لابن عبد البر 1/60، 127وزاد الدرامي وابن عبد البر (وصلاته وزهده)

(35) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/10 واقتضاء العلم العمل 35-36 رقم40-41 لكنه عزاه فيه إلى علي بن أبي طالب وابن المنكدر

(36) حلية الأولياء 7/12 وعزاه في اقتضاء العلم العمل ص37 رقم44 إلى الفضيل بن عياض

(37) الجامع للخطيب1/184، وسير أعلام النبلاء 11/213 وشرح التبصرة للعراقي 2/228 وفتح المغيث للسخاوي 3/284 (38) علوم الحديث ص223

(39) جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/8 ثم عقب على كلام الثوري بقول بشر بن الحارث (إنما يراد العلم العمل، اسمع وتعلم وعلم واهرب. أم تر إلى سفيان كيف طلب العلم فعلم وعلم وهرب. وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها)

(40) انظر المعرفة والتاريخ للفسوي 3/505 والجامع للخطيب 1/94 وجامع ابن عبد البر 1/126

(41) جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/10

(42) الحلية لأبي نعيم الأصبهاني 5/104، الجامع للخطيب 1/144، علوم الحديث لابن الصلاح ص123

(43) المدخل للبيهقي ص330، الجامع للخطيب 1/143 سير أعلام النبلاء 11/298

(44) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/142

(45) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة في الزهد باب العفو والعافية رقم3599 وهو في المستدرك عن أنس 1/510 بنحوه

(46) طبقات الحنابلة 1/92

(47) جامع بيان العلم وفضله 1/146-148. وانظره في طبعة دار الجوزي 1/581-583

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply