كشف الهيئة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم اللَّهِ، والحمد للَّهِ، والصلاة والسلام على رسول اللَّهِ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فشغل الوظائف وتقلّد الأعمال لابد فيه من امتحان يتعلق بالحديث وطريقة الكلام، وطلاقة اللسان، وذكاء الشخص، وشكله، وهيئته، وهذا الامتحان يُطلق عليه اسم كشف الهيئة، وهو مادة نجاح ورسوب، ولا يتعلق فقط بالأعمال العامة والوظائف المهمة، بل حتَّى المحلات والأشغال الخاصة، قد تشترط الدورات والدراسات في كيفية التعامل مع الزبائن من حيث الابتسامة وطريقة العرض ومظهر البائع..وأحيانًا يطلبون سكرتيرة حسنة المظهر والهيئة، ولا بأس أن تكون متبرجة عندهمº حتَّى تستميل قلوب العملاء، وتحقق المصلحة - بزعمهم - ويكثر الدخل حتَّى ولو على حساب العِرض والدين، وفي الزواج ينظر للمرأة التي يريد الزواج منها، وتنظر هي إليهº لأنه أحرى أن يُؤدم ويتم الوفاق بينهماº ولأنه يُعجب الرجال من النساء ما يُعجب النساء من الرجال، وقد يتم الرفض أو القبول تبعًا لذلك، ولا إثم في الرفض، حتَّى وإن كان صالحاً، وإلاَّ فلماذا شُرع النظر، بل كانت الهيئة والشكل هي سبب قصة أول خُلع في الإسلام.وقال النَّبيّ ? لحبيبة بنت سهل الأنصارى: « أتردين عليه حديقته » قالت: أفعل يا رسول اللَّهِ.فالهيئة لها قيمتها في دين اللَّهِ، وقد أعطى - سبحانه - جميع الأنبياء والمرسلين وحباهم بجمال الطلعة والهيئةº حتَّى لا ينصرف الناس عنهم بزعم دمامة الخِلقة، وهذا من جملة الفروق التي فرق بها العلماء بين معجزات الأنبياء وبين خوارق الدجال في آخر الزمان، فالدجال أعور العين اليمنى، عينه كعنبة طافئة، مكتوب بين عينيه كافر، ولا يستطيع محو هذه الدمامة عن نفسه، رغم ادّعاءه الربوبية والألوهية، والعلاقة وثيقة بين المظهر والمخبر، وبين الهيئة الظاهرة وباطن العبد، فالأعضاء تستقيم باستقامة القلب، والقلب هو الملك المؤمر، والحواس والجوارح جنوده. والناظر في أحوال الناس اليوم، وما ينشدونه من حسن السمت والهيئة، سيجد أنَّ اللوثة الماديّة قد أصابت هذا الجانب، بل صارت هي الأصل فيه، فاستخدام العنصر النسائي لتسهيل الأعمال ولترويج البضائع والسلع، وبحيث تصبح المرأة فتنة لنفسها وفتنة لغيرها، صورة من صور الابتذال. وكذلك قول الناس: هو جميل وظريف ولطيف... مع عدم المبالاة بمعاني التدين والصلاح تدل على معاني الغربة ومدى الانحراف في التقييم، وكم من شر وفساد قد يحدث إذا أهملت موافقة الولي، واستقلت المرأة باختيار الزوج، ولم تلتفت إلاَّ لوسامته ووجاهته، وحلو حديثه، وقد يكون تاركًا لصلاته مقامرًا مخمورًا، ومثل هذا لا يؤتمن على نفسه فضلاً عن أن يؤتمن على غيره. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يبعث لولاته ويقول: ألا إنَّ أهم أموركم عندي الصلاة، ألا إنه لا حظَّ في الإسلام لمن ضيّع الصلاة. وكان يقول: من ضيّعها فهو لما سواها أضيع. وكانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقول: « النكاح رقº فلينظر أحدكم عند من يسترق كريمته ». ولما سُئل الحسن: من أُزوّج ابنتي؟ قال: زوجها التَّقيّ النقيّº فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يهنها. والكفاءة معتبرة بالديانة والصلاح والحرص على طاعة اللَّهِ، ولا نكاح إلاَّ بوليّ، وأيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطلº فالمرأة لا تستقل بتزويج نفسها، والمرأة لا تُزوج المرأة. وما أيسر أن يتجمل الإنسان، وأن يُظهر الوجه الحسن، وقد تروج الزخارف والزينات وإظهار الجميل، وتكتم القبيح لحين، ولكن لابد وأن ينكشف الغطاء ويتبين لمن كانت بضاعته النفاق أنَّ ما حصله كان سرابًاº فالعملة الزائفة لا تروج على اللَّهِ، {قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وما أسرّ عبد سريرة إلاَّ أظهرها اللَّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه، {وَلَو نَشَاءُ لَأَرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ} [محمد: 30]. فلا ينبغي أن نغتر بزخارف من القول، والسمت والهيئة التي نختارها ونُقدمها ينبغي أن تنضبط بشرع اللَّهِº حتَّى لا نحسن القبيح ونقبح الحسن. قال أبو عبيد: السمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين، لا من جهة الجمال والزينة، فحسن السمت والهيئة، هو حسن المظهر الخارجي للإنسان من طريقة الحديث والصمت، والحركة والسكون، والدخول والخروج، والسيرة العملية في الناس، بحيث يستطيع من يراه أو يسمعه أن ينسبه لأهل الخير و الصلاح، و الديانة والفلاح، وقد ورد في الحديث: « إنَّ الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة » [رواه أبو داود و أحمد و البخاري في الأدب المفرد]. والهيئة الحسنة في تمامها وكمالها هي ما كان عليه الأنبياء والمرسلون، فهم المقياس والضابط والميزان في كل شيء، وفي سؤال إسماعيل - عليه السلام - لزوجه: « هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته أنَّا بخير.. » الحديث رواه البخاري، وقصدت بالشيخ حسن الهيئة نبيّ اللَّهِ إبراهيم - عليه السلام -. وفي حـديـث جـابـر بن سمــرة: « فجعـلت أنظـر إلى رسـول اللَّهِ ? وإلى القمر وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر » [رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي]. وفي حديث البراء بن عازب قال: « كان النَّبيّ ? مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منه » [رواه البخاري ومسلم]، وكان ? إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتدّ غضبه، حتَّى كأنه منذر جيش يقول: « صبّحكم ومسَّاكم » [رواه مسلم]، وصحَّ عنه ? أنه قال: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم » [رواه أبو داود والترمذي]. وقال ?: « ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار »، « من جرَّ إزاره بطرًا لم ينظر اللَّهِ إليه » [رواه أبو داود وابن ماجه وإسناده صحيح]. وعن جابر بن عبد اللَّهِ -رضي الله عنه- قال: « أتانا رسول اللَّهِ ? فرأى رجلاً شعثًا قد تفرق شعره فقال: « أما كان يجد هذا ما يُسكن به شعره؟ » ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: « أما كان يجد هذا ماءً يغسل به ثوبه » [رواه أبو داود وصحّحه الألباني]. وقال ?: « الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنَّ وأن يمسّ طيبًا إن وجد » [رواه البخاريٌّ ومسلم]، وقال: « ما على أحدكم إن وجد أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته » [رواه أبو داود وابن ماجه و إسناده صحيح]، وقال: « من كان له شعر فليكرمه » [رواه أبو داود وحسّن الألباني إسناده]. فالسمت والهيئة لا تنفصل عن هدي النبوة، ويُخطئ من يظن أنها متروكة لأهواء العباد، فالحسن ما حسنته الشريعة ووردت به الآثار والسنن، وهذا هو الذي حرص عليه الأفاضل، قالت عائشة -رضي الله عنها-: « ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا ودلاً وهديًا برسول اللَّهِ ? في قيامها وقعودها من فاطمة -رضي الله عنها-. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: « من سرَّه أن ينظر إلى هدي رسول اللَّهِ ?، فلينظر إلى عمرو بن الأسود». وقال مالك: « كان عمر أشبه الناس بهدي رسول اللَّهِ ?، وأشبه الناس بعمر ابنه عبد اللَّهِ، وبعبد اللَّهِ ابنه سالم». وقد أولى سلفنا الصالح - رحمهم الله - السمت الحسن قيمة كبيرة في كلامهم، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: « إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤّاله، كثير معطوه، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤّاله، قليل عطاؤه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أنَّ حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل » وقال أيضًا: « ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله، إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا، محزونًا، حكيمًا، حليمًا، عليمًا، سِكّيتًا، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون جافيًا، ولا غافلاً، ولا صخّابًا، ولا صيّاحًا، ولا حديدًا ». وقال مالك: « إنَّ حقًا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعًا لأثر من مضى قبله ». وقال الميموني: « ما رأيت أحدًا أنظف ثوبًا، ولا أشدّ تعاهدًا لنفسه في شاربه، وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبًا وأشد بيانًا من أحمد بن حنبل ». وقال ابن الجوزي: « لقيت عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه عيبة، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتّصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل ». وقال - رحمه الله -: «الكمال عزيز والكامل قليل الوجود، أول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن، وحسن صورة الباطن، وصورة البدن تُسمى خَلقًا، وصورة الباطن تُسمى خُلقًا، ودليل كمال صورة البدن حسن السمت، واستعمال الأدب، ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق، فالطبائع: العفة والنزاهة والأنفة من الجهل، ومباعدة الشَّره، والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف والحلم عن الجاهل ». ولم يكن الأفاضل يفصلون بين معاني العلم النافع والعمل الصالح، بل كانت الكثرة تسلط نظرها على السمت والسلوك والهيئة، ومن المعلوم أنَّ الدعوة بالسلوك أبلغ من الدعوة بالقول، فكان أصحاب ابن مسعود- رضي الله عنه ينظرون إلى سمته وهديه ودَلّه فيتشبهون به. وكان يحضر مجلس أحمد بن حنبل زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلّمون منه حسن الأدب، وحسن السمت، وكان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أنَّ ثمرة علمه هديه وسمته. وقال عبد الرحمن بن مهدي: « كنَّا نأتي الرجل ما نريد علمه، ليس إلاَّ أن نتعلم من هديه وسمته ودله ». وكان علي بن المديني وغير واحد يحضرون عند يحيى بن سعيد القطان ما يُريدون أن يسمعوا شيئًا إلاَّ أن ينظروا إلى هديه وسمته ». وقال المروذي: « لم أرَ الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد اللَّهِ، كان مائلاً إليهم مُقصِرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا، لا يتكلم حتَّى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس، وهكذا فأنت ترى كيف كانوا يقصدون هذا المعنى بالتعلم والطلب أكثر من النقل من الكتبº وذلك لأن حسن السمت من أخلاق الأنبياء والصالحين، وهو دليل كمال الإيمان ورجاحة العقل، ويَكسب المرء احترام الآخرين وحبهم، كما يكسبه الهيبة والوقار، ويدل في كثير من الأحيان على صفاء القلب ونقاء السريرة. فعلى من يقوم بكشف الهيئة، ومن ينظر في سمت المستخدمين لتخليص مصالحه، وعلى الرجل والمرأة في الخطوبة... أن ينظروا بعين الشريعة وأن يحرصوا على الاقتداء بأهل الفضل والصلاح في جميع أحوالهم، حتّى تتحقق المنافع وتندفع المضار والمفاسد، ولا يصبح الإنسان كحاطب بليل، أو كأعشى البصر والبصيرة، ممن يغتر بملمس الحيّة الناعم، وفي اقتنائها هلاكه. ولنعلم أنَّ من كانت علانيته أفضل من سريرته، فهو الجور، ومن كانت سريرته كعلانيته فهو العدل، ومن كانت سريرته أفضل من علانيته فهو الفضل. وفق اللَّهِ الجميع لما يحب ويرضى. وآخر دعوانا أن الحمد للَّهِ رب العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply