جامعاتنا والتصنيف .. ربّ ضارة نافعة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عرفت أوروبا الجامعات في القرون الوسطى، وكان ذلك نتيجة لعدة عوامل مهدت لها، منها الحاجة الملحة لتلبية متطلبات الحياة، والاحتكاك بالمسلمين والعرب، و ظهور المدن، والحركة المدرسية التي سبقتها.. وعلى الرغم من كون هذه الجامعات قد تولّدت عن مدارس تابعة للكاتدرائيات والأديرة، إلاّ أنّها استطاعت استيعاب العلوم الشائعة آنذاك، و نشر الثقافة والفكر والندوات والمحاضرات، و اقتحام السياسة واللاهوت، والتدخل في مهاجمة البابوية...

بل ويُـرجع إليها كرأي علمي في الاختلافات.. ليس هذا فحسب بل إنها قد منحت طلابها امتيازات رجال الدين فأُعفوا من الخدمة العسكرية، وأُعفي أيضاَ الطلاب والأساتذة من الضرائب، وأغدقت عليها المنح، وخصت بعضها بأعضاء يمثلونها في المجالس النيابية للدولة.. منها جامعة اكسفورد و كامبردج وباريس.. فإذا كان ما سبق حالها في القرون الوسطى.. فلا غرابة فيما هي عليه الآن.. بل الغرابة تكمن في وجود جامعات دولة نفطية في آخر ركب جامعات العالم.. !

إن نصيب الجامعات السعودية في التصنيف الأخير (Webometrics Ranking ofWorld (Universities الذي كانت تتذيله مع دولتين - لديهما المسوّغات الكافية لذلك - مع التصنيفات السابقة كتصنيف(Shanghai Jiao Tong University)، ولأفضل (500) جامعة في العالم، و تقريرT Times Higher Education Supplement)) حول أفضل (200) جامعة لم يكن مفاجأة لدى الكثيرينº فمستوى جامعاتنا التي تئن من الهزال ومن القيود كان مصدر امتعاض لكثير ممن بين أروقتها بغض النظر عن هذه التصنيفات التي مهما شُكك في موضوعيتها ومصداقيتها إلاّ أنها تبقى قائمة على معايير ذات أهمية بمكانº بحيث لا يبقى مجال واسع للتشكيك، أو لنظرية المؤامرة.. كمعيار تقييم زملاء التخصص، و الجهات الموظفة لخريجي الجامعات، والطلبة الدوليين، و الإسهام البحثي للجامعة وقدرتها على استقطاب نخب الباحثين.. فأين جامعاتنا من هذه المعايير مثلاً.. ؟ قد نتفهم صعوبة بعض المعايير كأحد معايير (شانغهاي جياو تونغ) الذي يرصد 30% من الدرجات للجامعة التي ينال أحد منسوبيها أو خريجيها على جائزة نوبل.. لكننا نتساءل عن المعايير التي من المفترض أن تكون عفوية في أي بناء يُطلق عليه \"جامعة.. \"!

وبعيداً عن تلك التصنيفات ومعاييرها.. فإن الجامعات بشكل عام تُـناط بها مسؤوليات أبرزها: نشر العلم عن طريق إعداد الكوادر، وتنمية العلم وتطويره عن طريق البحث العلمي، وتوظيف العلم عن طريق الفاعلية في المجتمع وخدمته.. وإذا ما نظرنا إلى جامعاتنا فسنجد أن هناك خللاً كبيراً في كل ما سبق.. فمثلاً نشر العلم يُعدّ الهدف الأساسي لدينا عادة، في حين تعد الكثير من الجامعات الغربية أن تطوير العلم وتغييره هو الهدف الأساسي.. وإذا ما تأملنا هذه العلاقة فسنجد أن البحث وإن كان يستند إلى العلم، إلاّ أنه في ذات الوقت سيؤدي إلى علم، أما الاكتفاء بالعلم السابق فمعرض للوهن والجمود واجترار إنتاج الماضي، و بالتالي الحاجة إلى التطفل على موائد الآخرين بسبب \"أنيميا\" الإنتاج والإبداع.. !

إن الثروة العلمية التي توصّل لها العالم الآن جاءت عن طريق البحث العلمي، و هو أهم مقياس لدور الجامعة الحيوي، كما أنه مرتبط كثيراً بسمعتها، وقد تنامى الاهتمام به إلى درجة أن بعض الجامعات الأمريكية اتجهت إلى تفضيله على النشاط التعليمي التقليدي.. بينما البحث العلمي في جامعاتنا يعاني من ضعف الدعم اللوجستي المتمثل في قواعد البيانات، ودعم البيانات، مع قبضة البيروقراطية المحكمة، و قلة الإمكانيات والاعتمادات المالية المخصصة له، وضعف القناعة بأهميته من قبل الجامعات ذاتها قبل قطاعات المجتمع الأخرى، حتى غدا غالباً وسيلة لنيل الدرجات العلمية، مما أدى إلى التشابه والتكرار و الاجترار.. وهذا الواقع المأزوم يفسر لنا سبب ضعف إنتاجية مراكز البحث العلمي في جامعاتنا كماً وكيفاً، و المقدرة بـ(75) مركزاً بحثياً كان إنتاجها خلال أربعة أعوام من 1999-2003 ما يقارب (1650) بحثاً فقط - بحسب موقع مشروع آفاق- و بحسبة بسيطة جداً فإن عدد البحوث في العام الواحد (412) بحثاً فقط لأكثر من (17465) عضو تدريس، وبحسبة بسيطة أيضاً فإن هذا يعني أن من بين كل (42) عضواً من هيئة التدريس عضو واحد فقط هو من يقدم بحثا.. !

 

ثم نتساءل: أين جامعاتنا.. ؟!

جامعاتنا التي تعاني أيضاً من الغياب الاجتماعي، والقدرة على التأثير.. على الرغم من وجود النخبة فيها، فلا أثر رسمياً أو حتى شعبياً يُذكر لأي جامعة على المستوى المحلي، فضلاً عن مستوى المجتمع العربي المسلم.. بينما في دول أخرى نجد أن الجامعات لها ثقلها في بعض القضايا.. بل ولها مساهمات خيرية في المجتمع تمثل توظيف العلم.. وقد نُصاب بشيء من الخيبة إذا عرفنا أن الجامعات الإسرائيلية الحديثة النشأة، و التي احتلت مراكز متقدمة، لها جهود ثقافية واضحة كالتي تهدف إلى التطبيع الثقافي مع العرب، وقبلها الجامعات الأوروبية التي خصصت برامج لدراسة مجتمعاتنا، وترجمة تراثنا، و تبنت \"الاستشراق\" الذي كان كثير منه بهدف التشويه وشن الحملات المعادية لثقافتنا.... فأين دور جامعاتنا التي لا تقبل إلا النسب المئوية المرتفعة، والتي رفضت بعضها حتى التسعينية منها.. وما هي جهودها الواضحة ومشاركاتها الواعية تجاه المستجدات و القضايا المعاصرة؟!

نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الثقافة العلمية السائدة لدينا، فإن من شأنها تحديد مسار وطبيعة أي عملية تعليمية وتربوية، فالثقافة العلمية السليمة الإيجابية تستحث البحث العلمي، وتشجع الابتكار والإبداع، و تعزز توظيف العلم في المجتمع، بينما الثقافة العلمية المشوّهة تحيد بجامعاتنا عن طريقها المأمول، وتمنعها من إنجاز مسؤولياتها ومهماتها على الوجه اللائق، وتحرمها من دورها الاجتماعي.. ومن أبرز الأمثلة على هذا الثقافة السلبية: فكرة متجذّرة لدى كثير من الطلبة والطالبات، وهي أن الجامعات ليست إلا أداة لشهادة يهشون بها حوائج الزمن، وبالتالي لا قيمة لإتقان فهم العلم وتوظيفه أو البحث العلمي، فما يهم حقيقة هو المسجل رسمياً نهاية الفصل من علامات.. وحتى أولئك الطلبة أو الطالبات الذي تمكنوا من تجذير الثقافة العلمية المحكمة بدواخلهم، يعانون من عدم توفر المعطيات التي تعينهم على المضي قدماً نحو الإبداع، كالمختبرات اللازمة، و مراكز البحث، وتوفر المراجع العلمية اللازمة.. لا سيما وأن بعض فروع الجامعات، وجل الكليات تكون مكتباتها مفتوحة في أوقات معينة، تتزامن كثيراً مع أوقات المحاضرات.. وهنا لا يفوتني أن أُذكّر بمعاناة طلبة وطالبات المدن الصغيرة والمحافظات، التي ربما توضع في قائمة خاصة بجامعات وكليات كوكب المريخ.. !

إن على جامعاتنا أن تقود حركات تغيير وتصحيح للثقافة العلمية، وأن تقوم بدور ثقافي جدّي عن طريق تعزيز العلاقات بين الثقافة والعلم بمختلف مجالاته، والإنماء الثقافي الذي يتخلص من المفاهيم السلبية، ويشكل المفاهيم الإيجابية على الأقل على مستوى حرم الجامعة، حتى يكون مركز إشعاع لما حوله.. فإذا كان الضعف ظاهرة عامة لدينا، والتخلّف ملمح في كثير من مناحي حياتنا، نتيجة عوامل متراكمة ومتداخلة، إلاّ أن الجامعات ليست معفية من مسؤولية معالجة ذلك، وقبله الإسهام فيه، ذلك بصفتها معاقل العلم، و مخرجة حامليه، ومحضن الشباب عماد أي مجتمع و أمة.. و أيضاً عادة ما تكون مناصب القيادة تحت من تخرّج من نفس الجامعات، وهذا يعني أن هناك حلقة مفرغة تحتاج إلى الكسر.. والتي من أسبابها الميل إلى إبقاء كل شيء على حاله والتهيب من التجديد من أولئك الذين رضوا بالتأخر، وباتوا جزءاً منه.. وقبل ذلك ضعف إدراك أهمية دور الجامعات الحقيقي والاهتمام بمسألة الكم لا الكيف.. نعم هناك مخلصون، ومبدعون، فضلهم على الجامعة أكبر من فضلها عليهم، وهناك عطاءات جميلة، ولكنها تبقى غالباً جهوداً فردية أو محصورة تحتاج إلى برامج متكاملة تقوم بتنظيمها وإشاعتها وتنويعها..

فإذا لم تستطع الجامعات التخلص من العوائق الخارجية فليس أقل من مشاريع الإصلاح الداخلية، وإلاّ فليس من المنطقي أن تتحمل وزارة الخدمة المدنية أو وزارة المالية تلك الممارسات الخاطئة المنتشرة كالتي - مثلاً - تحرم الطلاب من ممارسة حقهم في حرية النقاش والتعبير عن الرأي، وتنظر إلى المحاور منهم ككائن ينشط هوامات القلق والإزعاج.. خاصة أن هذه المرحلة يُفترض أن يـُشكل فيها الشخص آراءه من منبع ذاته لا من سـُقيا غيره.. مما أدى إلى أن تحولت كثير من العقليات إلى نسق من قوالب ذات نمط واحد تتسم أحياناً بالخواء أو التصلب الفكري.. لاسيما وأن القدرات العقلية تركد وتأسن وتفقد القدرة على التطور، ما لم تكن في وضعيات مخالفة و مواجهة مع مستويات معرفية وفكرية مختلفة، تشكل مجالاً خصباً للاحتكاك والتكامل، وتعلّمهم مبدأ الحوار في الحياة عامة، بدلاً من تراكمات أجيال لا تحسن التعامل مع رأيها و الرأي الآخر..

كما أنه ليس من المنطقي أن تُعزى أسباب التخلف إلى ضعف التمويل، بينما هناك دول أضعف اقتصاداً بمراحل، لكنها سبقتنا في التعليم العالي بمراحل.. نعم الإمكانيات المادية جزء مهم لا ينبغي إغفاله، لكن حسن الإدارة والتخطيط هو القاعدة التي لو لم تُحكم لكان ما يُبذل هدراً ليس إلاّ.. مع ضرورة الالتفات إلى مطالب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، وتفهم معاناتهم والتخفيف من مثبطات إبداعاتهم كانخفاض الأجور، وتدني فرص المشاركة في المؤتمرات، وعدم وجود تأمينات صحية وسكنية، وعدم جزل مكافآت الأبحاث العلمية في حين أن زملاءهم في الجامعات المتقدمة ينالون مردوداً اقتصادياً جيداً، وتبحث عنهم الشركات وتتنافس في احتضانهم.. مما جعل الجامعات بيئة غير خصبة للطموح والروح الإبداعية، فعزف الكثير منهم عن البحوث والمشاريع إلى كتابة المقالات في الجرائد، و منتديات الإنترنت بأسماء مستعارة..

أخيراً نقول: رب ضارة نافعة، فلربما كانت التصنيفات سبب وقفة صارمة لتحسين الأوضاع، ووضع الخطط اللازمة للّحاق بركب العالم، وحجز مقاعد معقولة بدلاً من (2998)..فعلى وزارة التعليم العالي والجامعات إعادة النظر في كل ما سبق- وغيره بالتأكيد- ومواجهة الواقع المُخجل بدلاً من إضاعة الوقت في محاولات التبرير التي لن تصنع مجداً.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply