الأخبار التاريخية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

ما هو الأولى والأفضل في دراسة أسانيد القصص والأخبار التاريخية الواردة في كتب الأدب والتاريخ أرجو الإجابة من الشيخ حاتم الشريف؟

فأجاب الشيخ حاتم بما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد...أقول (وبالله التوفيق):

لقد كثرت في الدراسات الحديثية في علم السيرة والتاريخ والتراجم المطالبات بتصفيتها وتنقيتها، وجاءت هذه المطالبات على مناهج شتى وتوجيهات مختلفة.فكانت أصفى تلك المناحي، وأخلصها نية، وأصدقها سريرة، وآمنها على هذه العلوم

المطالبة بتطبيق منهج المحدثين عليها، بدراسة أسانيدها، وقبول ما قبلته الصنعة الحديثية، وردّ ما ردته.

وظهرت ثمرات هذه المطالبة في بحوث ومؤلفات عديدة، وكانت جهودا مباركة، وفيها خير كثير، صوبت كثيراً من الأخطاء العلمية، ونقدت بعض أهم المصادر مما كنا في حاجة إلى تنقيته فعلاً. لكن تبقى تلك الجهود جهوداً بشرية، معرضة للخطأ. والخطأ الجزئي فيها أمره يسير، وتداركه هين. لكنه إذا كان منهجياً، فإن أمره سيكون فيه خطورة، واستدراك نتائجه صعب.

وهنا أنبه: أن المحدثين قد دَلّت أقوالهم وتصرفاتهم أنهم كانوا يفرقون بين ما يضاف من الأخبار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يضاف إلى غيره، مما له علاقة بالدين وما لا علاقة له بالدين. بل لقد بلغ كمال علمهم إلى درجة التفريق بين ما يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضه عن بعض، فلأحاديث الأحكام والعقائد منهج فيه اختلاف عن منهج التعامل مع أحاديث الفضائل والرقائق ونحوها. بل أحاديث الأحكام نفسها لهم منهج في التعامل مع الحديث الذي يكون أصلاً في بابه، والحديث الذي يعتبر من شواهد الباب. ولهم في جميع ذلك إبداعات تخضع لها العقول، ونفحات إلهام تشهد بأن علمهم علم مؤيد من الباري - سبحانه -.

فمن عيوب بعض الدراسات التي نَوّهتُ ببعضها آنفاً أنها كانت بحوثاً من غير المتخصصين في علم الحديث (ولا أقصد بذلك الشهادات والألقاب إنما أقصد الحقائق)، فجاءت في بعض الأحيان غير مراعية لتلك الفروق في منهج التعامل التي كان المحدثون يراعونها فخالفوا بذلك منهج الذين أرادوا تطبيق منهجهم!

ومن أصرح العبارات التي تدل عل ذلك النهج الحديثي: الباب الذي عقده الخطيب البغدادي في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): (2/316 - 320)، بعنوان: (ما لا يفتقر كتبُه إلى إسناد). ومما جاء فيه قول الخطيب: ((وأما أخبار الصالحين، وحكايات الزهاد والمتعبدين، ومواعظ البلغاء، وحكم الأدباء = فالأسانيد زينة لها، وليست شرطا في تأديتها)) ثم أسند الخطيب إلى يوسف الرازي أنه قال: ((إسناد الحكمة وُجودُها)). وأسند عن ابن المبارك أنه سئل: ((نجد المواعظ في الكتب، فننظر فيها؟ قال: لا بأس، وإن وَجدتَ على الحائط موعظة فانظر فيها تتعِظ. قيل له فالفقه؟ قال: لا يستقيم إلا بسماع)).

ثم أسند الخطيب قصة رجل خراساني كان يجلس عند يزيد بن هارون فيكتب الكلام ولا يكتب الإسناد، فلما لاموه على ذلك قال: ((إن كان الذي كتبه الخراساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ فلا بأس بما فعل، وإن كان من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلال والحرام فقد أخطأ في إسقاط إسنادهº لأنها هي الطريق إلى تثبته، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته)).

وفي هذا السياق أشير إلى قضية مهمة، ربما غفل عنها كثيرون وهي أن لعلماء كل علم طريقتهم الخاصة في نقد علمهم، وفي الفحص عن صحة منقولهم ومعقولهم. ومن الخطأ الفادح أن نخلط بين معايير النقد المختلفة بين كل علم وآخرº لأن ذلك سيؤدي إلى هدم تلك العلوم!!

وأضرب على ذلك مثلا:

لو جئنا إلى الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، بل عموم دواوين الشعراء، خاصة في عصر الاحتجاج اللغوي، وأردنا أن نطبق عليها منهج المحدثين في نقد السنة = هل سنزيد إلا أن نهدم لغة العرب، بأعظم مما أراد أن يهدمها به طه حسين!!!

ذلك أن لأئمة اللغة معاييرهم الصحيحة الكافية لنقد علمهم، ولهم طرائقهم لفحص المنقول من اللغة. وقد بذلوا في ذلك جهودا عظيمة، أدوا بها الأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم، خدمة للغة القرآن والسنة.

وفي هذا المجال أذكر بضرورة تعظيم أئمة كل علم في علمهم، واحترام تخصصات أصحاب التخصصات، فلا نزاحمهم ما دمنا لسنا من أصحاب ذلك العلم. خاصة أولئك الأعلام، من علماء علوم الإسلام على اختلاف فنونها.

أقصد من ذلك كله أن أبين: أن منهج المحدثين لأن كان هو المنهج الوحيد الذي يصح به نقد المنقول المتعلق بالدين، فإنه لا يلزم أن يصح في نقد بقية العلوم وإن شابهته من جهة إبراز أسانيد لبعض منقولاتها. فليس كل إسناد نراه يعني أنه وسيلة نقد ذلك المنقول بتطبيق منهج المحدثين الذي ينقلون به أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -º لأن الإسناد كان سمة من سمات علوم الإسلام كلها، فإبرازه لم يكن دائما لأجل الاعتماد الكلي عليه في نقد ذلك المنقول. وبناء على ماسبق ذكره، من أن المحدثين فرقوا بين منهج نقد السنة ومنهج نقد الأخبار، فإني أجد هذه مناسبة حسنة للتأكيد على معنى معين، يعين على معرفة الصواب في هذه المسألة المنهجية، وهو أن منهج المحدثين في نقد السنة تميز بشدة الاحتياط والمبالغة في التحري والريبة من كل شيء، ولولا أن عناية الأمة في تلك الحقبة بالسنة من جهة نقلها وتعلمها وتعليمها وحفظها وكتابتها كانت عناية عظيمة تفوق الوصف، حيث كانت هي همهم الأكبر وشغلهم الشاغل = لكان ذلك المتشدد المبالغ المرتاب سببا لإخراج شيء من صحيح السنة عنها. لكن تلك العناية البالغة بالنقل، وفرت للمحدثين فرصة ذلك التشديد في النقد، دون أن يضيع ذلك شيئا من السنة... وتلك حكمة بالغة!!

ومن هذا الملحظ تعلم أن هذا المنهج المتشدد على غير السنة فيه جور على ذلك العلم المنتقد بهº لإن التثبت من صحة المنقول فيه لا يحتاج إلى كل ذلك التشديد في النقد، ولن نجد من عناية الأمة بمنقول ذلك العلم ما يكون رصيدا كبيرا صالحا لذلك التشديد، دون أن يؤدي ذلك إلى تضييع بعض الثابت من ذلك المنقول.

وأقصد من ذلك كله بيان أن التخفف من نقد المنقولات من غير السنة لا يعني أننا سنثبت بذلك غير الثابت، ولكن يعني أننا سنضع كل منقول في ميزانه الكافي لتمييز ثابته من غير الثابت منه.

ولكي أنزل من هذا التنظير الجاف، إلى التمثيل الحي القريب إلى كل ذهنº أقول: هب أنك سمعت أحد جلة العلماء ممن تعظمهم النفوس تقوى وعلما يحكي لك خبرا عن أحد أشهر شيوخ شيوخه وأعلمهم، يتضمن هذا الخبر أمرا غير مستنكر عن علم ذلك الشيخ، ويقول في ذكره لهذا الخبر: سمعت جماعة من شيوخي يحكونه عن ذلك الشيخ

 هل ستشك في صحة هذا الخبر، بحجة الجهالة بحال شيوخ هذا العالم الذي سمعته؟!

وزيادة في التقريب: لو سمعت الشيخ ابن باز (عليه رحمة الله) يقول: سمعت جماعة من شيوخي يقولون أن العالم الفلاني كان كذا وكذا، هل سنجد في نفوسنا ريبة من ذلك الخبر؟!

فما بالنا لما قال بن عدي (وهو الإمام الفحل): ((سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها... )) إلى آخر الخبر المشهور

انبرى أحد المعاصرين لنقد هذه القصة، بحجة الجهالة بحال شيوخ ابن عدي؟!!

والحال أن علم البخاري أعظم من هذه القصة، وأن ابن عدي يروي عن جماعة من تلامذة البخاري!!! ولو أراد بن عدي (وهو الحافظ المسند) أن يسند هذا الخبر عن بعضهم لفعل، لكنه كان يظن أن مثل هذا السياق.. ((سمعت عدة مشايخ يحكون)) أقوى ثبوتا لمثل هذا الخبر من مثل أن يسنده عن واحد أو آحاد منهمº لأن منهج نقده غير منهج نقد السنة!

وبعد هذا البيان كله، أصل إلى بيان الضابط الذي يمكن من خلاله التشديد في نقد الأخبار والقصص بمنهج المحدثين، أو عدم التشديد والاكتفاء بمناهج نقد أخرى تكفي في مثلها للتوثق والتحري.

فالضابط هو: كل خبر سأبني عليه ((مباشرة أو بغير مباشرة)) حكما دينيا، فالأصل فيه أنه لا يقبل إلا بذلك المنهج المتشدد للمحدثين الذين ينقدون به السنة. وما لا: فلا.

وشرح هذا الضابط قد يطول، لكنني سأكتفي بأمثلة تبين بعض جوانبه: إذا جئت للسيرة النبوية، أجد أن أخبارها منها ما يمكن أن يستنبط منه حكم شرعي: فهذا من السنة التي تنقد بهذا المنهج المحتاط لها، ومنها ما لا يستنبط منه حكم شرعي، كتاريخ سرية من السرايا، وعدد من كان فيها، وتحديد موقعها بدقة.. ونحو ذلك: فهذه لا نطبق عليها منهج المحدثينº إلا إن كان بعض ذلك له علاقة غير مباشرة باستنباط حكم، كمعفرة تقدم خبر أو تأخره ليفيدنا ذلك في الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك: فيمكن حينها أن أعود إلى احتياط المحدثين مع السنة في نقدي لهذا الخبر.

وإذا جئت للآثار الموقوفة على الصحابة - رضي الله عنهم -: <%

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply