حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين وخطر رفع العلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مَنِ العالم حقيقة الذي نخشى فقدانه؟ وما العلم المطلوب ؟ وكيف واقع الأمة اليوم تجاه العلم والعلماء؟

 

إن أول ما يجب التسليم به هو أن علم البشر وعلم الخلائق كلها لا يساوي شيئاً أمام علم الله المطلق، لقوله - تعالى -: {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ, عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. فعِلمُ الله مطلق لا حد له ولا حصر، يعلم الجزئيات والكليات، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء أكان في السر أم في العلن. قال - تعالى -: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرضِ يَعلَمُ سِرَّكُم وَجَهرَكُم وَيَعلَمُ مَا تَكسِبُونَ} [الأنعام: 3].

 

- بل إن علم الخلائق جملة سواء أكانوا ملائكة، أم رسلاً، أم أنبياء أم علماء هم من عطاء اللهº حيث يقول - سبحانه -: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى الـمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُم صَادِقِينَ * قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمتَنَا إنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الـحَكِيمُ} [البقرة: 31 - 32].

 

وعن أُبَيِّ بن كعب قال: إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: بَينَا مُوسَى فِي مَلأ بَنِي إِسرَائِيلَ إِذ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَل تَعلَمُ أَحَداً أَعلَمَ مِنكَ فَقَالَ مُوسَى: لا، فَأُوحِىَ إِلَى مُوسَى: بَلَى! عَبدُنَا خَضِرٌ»(1).

 

- وفي رواية: «قال: فَانطَلَقَا ـ موسى والخضر ـ يَمشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحرِ لَيسَ لَهُمَا سَفِينَةٌº فَمَرَّت بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُم أَن يَحمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيرِ نَولٍ,، فَجَاءَ عُصفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقرَةً أَو نَقرَتَينِ فِي البَحرِ، فَقَالَ الخضِرُ: يَا مُوسَى! مَا نَقَصَ عِلمِي وَعِلمُكَ مِن عِلمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقرَةِ هَذَا العُصفُورِ في البَحرِ»(2).

 

إنها نصوص رائعة من نصوص شرعنا، نصوص ناطقة ومعبرة، لهذا وجب على كل عالم أو متعلم، إرجاع العلم الى الله أولاً. وقد عنون البخاري - رحمه الله - باباً من أبوابه الحديثية بقوله: «باب مَـا يُستَحَبٌّ لِلعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أَيٌّ النَّاسِ أَعلَمُ فَيَكِلُ العِلمَ إِلَى اللَّهِ»(3).

 

وهو المنهـج الذي سار عليه السلف الصالح، فعـن ابن أم عبد الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أنه قال: «مَن عَلِمَ فَليَقُل، وَمَن لَم يَعلَم فَليَقُلِ: اللَّهُ أَعلَمُº فَإِنَّ مِنَ العِلمِ أَن يَقُولَ لِـمَا لاَ يَعلَمُ: لاَ أَعلَمُº فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ, وَمَا أَنَا مِنَ الـمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86](4). بل هو النهج الذي سار عليه سلفنا الصالح في كتاباتهم واجتهاداتهمº فقلما يخلو مقال لهم أو كتاب من ختم بكلمة: (الله أعلم).

 

* العلم الذي يُخشى من رفعه:

ورد العلم في نصوص شريعتنا بعدة معانٍ, من أهمها:

- بمعنى الخشية، قال - تعالى -: {إنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال ابن مسعود: «ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم بالخشية»(1).

 

- بمعنى: النور: قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إلَيكَ رُوحًا مِّن أَمرِنَا مَا كُنتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِن عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. قال إمامنا مالك: «إن العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور جعله الله في القلوب»(2).

 

- بمعنى: القرآن: حيث سمّى الحق - سبحانه - القرآن علماً في قوله - تعالى -: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الـحَقَّ} [سبأ: 6]. كما عرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن بالعلم في قوله: «أبا المنذر! أي آية معك في كتاب الله أعظم ـ مرتين؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر! »(3).

 

- بمعنى: الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننتُ يا أبا هريرة! أنه لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منكº لِـمَا رأيت من حرصك على الحديث، وإن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قِبَل نفسه». وفي رواية: «والذي نفسي بيده! لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلكº لما رأيت من حرصك على العلم»(4).

 

وأخرج الشيخان في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عَن أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه -عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلمِ كَمَثَلِ الغَيثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرضاً، فَكَانَ مِنهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأَنبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشبَ الكَثِيرَ، وَكَانَت مِنهَا أَجَادِبُ أَمسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَت مِنهَا طَائِفَةً أُخرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَن لَم يَرفَع بِذَلِكَ رَأساً، وَلَم يَقبَل هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرسِلتُ بِهِ»(5).

 

* فَضلِ العِلمِ عامة والعلوم الشرعية خاصة:

وهذا أمر لا يخفى على عاقل أريبº فنصوص الوحيين ناطقة بفضله، مغرية بتمثلهº حيث يقول - سبحانه -: {يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ,} [المجادلة: 11]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة»(6). وقال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(7). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه»(8).

وقال ابن عمر: «العلم ثلاثة أشياء: كتاب ناطق، وسنة ماضية، و (لا أدري)»(9).

 

قال الشاطبي - رحمه الله -: (واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم، وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة)(10). وقال محمد بن القاسم بن خلاد: (العقل دليل الخير، والعلم مصباح العقل، وهو جلاء القلب من صدى الجهل)(11).

 

* آداب طلب العلم:

1 - النظر فيمن يؤخذ عنه العلم: وهذا يعني أنَّ تعلٌّمَ العلم الشرعي: هو تديٌّن وعبادة وتقرب إلى الله، لهذا يجب الاحتياط في أخذه، وحسن تلقيه من أهلهº فعن مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا العِلمَ دِينٌº فَانظُرُوا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم!)(12).

 

2 - ضرورة التخصص في العلم: قال - تعالى -: {فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ, مِّنهُم طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذَا رَجَعُوا إلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ} [التوبة: 122]. وقال - سبحانه -: {وَلَو رَدٌّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم} [النساء: 83]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلٌّم»(13). وقال أيضاً - عليه الصلاة والسلام - : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون»(14) وهم أهل العلم.

 

3 - ضرورة الإخلاص في طلب العلم: وهو أمر لا يتمارى فيه اثنان، ولا يتناطح فيه عنزانº فكل عمل خلا من الإخلاص فَقَدَ قيمتهº فالإخلاص أساس اليقين، ومن تيقن أمراً دام على السير في نطاقه قال - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5].

 

4 - الابتعاد عن تعلٌّم العلم المذموم: ولا يخلو أمر من ثنائية تخالفه، أو تضادهº فما من شيء في الكون إلا وفيه النافع والضارº فالعلم علمان: علم نافع، وعلم ضار. ومن العلم الضار أن يتعلم الإنسان ما يضره أو يضر غيره، أو ما لا ينفع مطلقاً، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس علماً من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد»(15).

 

5 - ضرورة بذل الجهد في طلب العلم: ومن المسلّم به أن الله - عز وجل - بنى حياة الإنسان على الأخــذ ثــم العــطاء، فلا نيل دون جهدº فالجنة تُنال بالعمل، والنار تتجنب بالعمل، وتحقيق النجاح في الدنيا والفوز في الأخرى يتحقق بالعمل، وخصوصاً العلمº فلا يعقل أن يكتسب الإنسان علماً دون أن يبذل جهداً مقابل الحصول عليه، وهذا ما أكده أحد الصحابة الأجلاء فيما أخرجه مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا يَحيَى بنُ يَحيَى التَّمِيمِيٌّ قَالَ: أخبرنا عَبدُ اللَّهِ بنُ يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ, قَالَ: سَمِعتُ أَبِي يَقُولُ: «لاَ يُستَطَاعُ العِلمُ بِرَاحَةِ الجِسمِ»(1).

 

6 - تجنب الخصال المبعدة عن التعلم: والعلم مطلوب، وبذل النفس والمال والعاطفة من أجل الحصول عليه أمور أساسية، ولكن هناك خصلتان تمنعان من توفره والحصول عليه، خصلتان يجب تجنبهما، وهما: الحياء في طلبه، والاستكبار عن أخذه، وفي ذلك يقول التابعي الجليل مجاهد بن جبر: «لاَ يَتَعَلَّمُ العِلمَ مُستَحٍ, وَلاَ مُــستَكبِرٌ»(2). وَقَالَت عَائِشَــةُ - رضي الله عنها -: «نِعمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنصَارِ! لَم يَمنَعهُنَّ الحَيَاءُ أَن يَتَفَقَّهنَ فِي الدِّينِ»(3).

 

* خطورة رفع العلم وآثاره:

قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا»(4). وقال النبي الأمين: «بَينَ يَدَي السَّاعَةِ أَيَّامُ الهَرجِ، يَزُولُ العِلمُ وَيَظهَرُ فِيهَا الجهل»(5).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاًº فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(6).

 

وفي رواية البخاري عَن عُروَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَينَا عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍ,و فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: سَمِعتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنزِعُ العِلمَ بَعدَ أَن أَعطَاهُمُوهُ انتِزَاعاً، وَلَكِن يَنتَزِعُهُ مِنهُم مَعَ قَبضِ العُلَمَاءِ بِعِلمِهِم، فَيَبقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُستَفتَونَ فَيُفتُونَ بِرَأيِهِم، فَيُضِلٌّونَ وَيَضِلٌّونَ»(7).

 

وإن كنا لا ننكر وجود الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة فإن ما أصبحنا نشاهده اليوم من اتِّباع العامة للسفهاء، وهجر العلماء لَخَير دليل على أننا أضحينا أقرب إلى وقوع الآفة التي حذرنا منها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن حديث نبينا واقع لا محالة فينا.

 

ولعل من الآثار السلبية الواضحة لغياب العلم ورفعه ما يلي:

1 - حصول خلل في العقيدة:

إن غياب العلم برفعه أو بتغييبه عن واقع الأمة يُسهِّل على الشر والجهل العمل بسرعة من أجل الانتشار والتأثير، وأخطر تأثير يتسلط على الإنسانية بسبب غياب العلم: الجهل والتجهيلº حيث يحصل للناس نسيان الحقائق ثم تركهاº فالابتعاد عنها، ثم استبدالها بما يضاد العلم والمعرفة. وأهم ما اكتسبه الإنسان بالعلم: العلم بالله وعبادته وتوحيدهº فإذا غاب العلم حصل ابتعاد الناس عن توحيد الله وعبادته كما أمر، ثم يخلق الناس لأنفسهمº بسبب الجهل وغياب العلم آلهة تعبد، وهذا ما أكده ابن عباس حبر الأمة فيما أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً قال: «صَارَتِ الأَوثَانُ الَّتِي كَانَت فِي قَومِ نُوحٍ, فِي العَرَبِ بَعدُ...»(8).

 

2 - الاستخفاف بالعلم والعلماء:

وهذا أمر خطيرº لأنه بحصوله يفقد الناس أطباءهم الروحيين، ويحصل الضلال المبين، وقد حذر الفقيه الجليل الإمام ابن حزم الظاهري من حدوث هذا الأمرº فقال منكراً على أهل زمانه استخفافهم بالعلماء: «صار الناس في زماننا يعيب الرجل من هو فوقه في العلم ليرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويُزهى على من هو دونه، فذهب العلم وهلك الناس»(9).

 

ولن نذهب بعيداً، وننكر حدوث هذا الأمر، فكم استمعنا عبر الفضائيات إلى من يسب العلماء! وكم قرأنا من مقالات تطعن في علم بعضهم، وتسفِّه فكر الآخرº وهذا كله مع الأسف الشديد من قلة العلم وغياب فقه العلم.

 

3 - جرأة الفساق على العلم:

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أمام الدجال سنين خَدَّاعة يُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرٌّوَيبِضة. قيل: وما الروبيضة؟ قال: الفُوَيسق يتكلم في أمر العامة»(10).

 

الرٌّوَيبِضة: أي الفاسق، وفي رواية التافه الذي يتكلم في أمور الدين وهو جاهل لأيسر قضاياه، وأمثال هؤلاء كثيرون في زمننا، بل وفي كل الأزمنة التي مرت بالمسلمين، ولكنهم سيظهرون بكثرة في زمننا لغياب العلماء، وابتعادهم عن واجبهم ومسؤوليتهم، وترك الحبل على الغارب لمن لا يحسن الكلامº فكيف بالفتوى وإصدار الأحكام؟

 

4 - ولاية الدين من غير أهله:

وهذا يعني الترامي ـ إن صح التعبير ـ على العلم الشرعي من غير أهله وذويه، أو تولية غير أهله لهº حيث يتقدم للفتوى من لا يدريها، ويُقدّم لها من لا يستحقها، كما يُقدمون لتعليم الناس، فيحتلون بذلك مناصب هم أبعد ما يكونون عنها، وهذا أمر حذّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله! »(1).

 

فتولي أمر الفتوى وأمر الدين من غير أهله وذويه يطعن الأمة في عمقها، ويسبب تشتتها وتمزقهاº إذ الدين هو موحدها وجامع كلمتها، وبتوليه من غير أهله تحصل كارثة في الأمةº إذ يمكن قبول أي ارتماء على أي مهنة أو حرفة إلا الارتماء على العلوم الشرعية وأمور الدين.

 

5 - كثرة المعارف وقلة العمل:

حيث روي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فقال: «ذاك عند ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك، زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَ ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيء مما فيهما؟ »(2).

 

- وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقضَى يَومَ القِيَامَةِ عليه، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ القُرآنَ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمتُ العِلمَ وَعَلَّمتُهُ، وَقَرَأتُ فِيكَ القُرآنَ، قَالَ: كَذَبتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمتَ العِلمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأتَ القَرآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌº فَقَد قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بَهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِي النَّارِ... »(3).

 

والعلم أيضاً مطلوبº لأنه طريق العملº فلا عمل دون علم، والله لا يُعبَد بالجهل، وهو القائل: {وَلِكُلٍ,ّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. والعلم إذا لم يكن ثمرة في القلب، والجوارح، والمعاملاتº فكأنه لم يكن.

 

وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في جوف البحر ليصلٌّون على معلم الناس الخير»(4).

 

6 - اتِّباع أهل الكتاب:

وقد حذر الشارع المسلمين من عداوة أهل الكتاب لأهل الإيمان من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن لنا في القرآن أن عداوتهم لن تنقطع، ولن يرضوا عن حالنا إلا إذا أبعدونا عن ديننا، أو نتبع ملتهم، فقال - سبحانه -: {وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} [البقرة: 120]. وقال أيضاً: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا} [المائدة: 82].

 

كما أخبر الرسول الكريم بأن من سنن الله في خلقه، وفي هذه الأمة اتباع أهل الكتاب في كل ما نحلوه وفعلوه، فقال: «لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه»(5).

 

فالأمة مطالبة اليوم بالحذر، وبالاحتياط فيما تأخذ وتتبعº فالإسلام لا يعادي الأخذ من الآخر ولا الاستفادة من تجارب الأمم وحضارتهم، ولكنه يعادي التقليد الأعمى، والتلقي السالب الذي يسلب المرء من كرامته وشخصيته وهويتهº حيث قال - صلى الله عليه وسلم - محذراً من التقليد كيفما كان: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا»(6). وعن حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: قلت لإسحاق بـن راهـويـه: ما معنى قوله: «إمَّعة»؟ قال: تقول: إن ضل الناس ضللتُ، وإن اهتدوا اهتديت»(7).

 

* دور العلماء ومكانتهم في الأمة:

 

- لماذا إذن كل هذا التخوف والعلم موجود، والعلماء منتشرون في كل مكان، والكتب مطبوعة، والفضائيات منتشرة؟ من الطَبَعي أن يحصل التخوفº لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنزِعُ العِلمَ بَعدَ أَن أَعطَاهُمُوهُ انتِزَاعاً، وَلَكِن يَنتَزِعُهُ مِنهُ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply