سنة الأضحى وانتصار الإنسان على إرادة الموت


بسم الله الرحمن الرحيم

 

تبدأ قصة عيد الأضحى بامرأة وحيدة ليس معها أنيس إلا أبناً رضيعاً، تركض بين جبلين، الصفا والمروة، تقبل مراد الله لها بكل ثقة وثبات، ومراد الله لهذا الأسرة المؤمنة كان كله ابتلاءات، ولكن كان الصبر الجميل من هذه الأسرة التي حددت هدفها في الحياة (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)[سورة إبراهيم الآية 37]، ومضت هذه الأسرةº أسرة أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -º في طريق الإيمان قائمةً بكل تكاليفه حتى لم يبق لها من تلك التكاليف إلا بناء بيت الله في الأرض، وكان البناء فيه شيء من معنى العبادة التي كانت تلزم عتبتها هذه الأسرة، يقول الأستاذ محمد أسد: \"حتى الحجم حجم الكعبة - كان ينطق عن الانكار الإنساني والاستسلامº فهذا التواضع الفخور في هذا البناء الصغير.... يقول: أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يصنعه بيديه يكون من الغرور اعتباره جديرا بالله - عز وجل -\".... يبنيانه- إبراهيم وإسماعيل - على الصورة البسيطة: مكعب، بباب واحد، وهو بيت الله في أرض اللهº ليقرر أن قمة الجمال هي الصورة النهائية لغاية البساطة وإن الله جميل يحب الجمال، وليؤكد أمرا آخر: أنه الأنموذج، والقدوة لكل بيت آخر يتخذه البشر.. يعيشون فيه هموم البشر: أن تواضعº فإنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولاً.. وبلغت هذه الأسرة قمة الإبتلاء حين أمر الله- تبارك وتعالى -ربَّ هذه الأسرة إبراهيم - عليه السلام - أن يذبح ابنه الوحيد إسماعيل - عليه السلام -، بعد أن أزهر، وكان انتصار الإنسان الثاني على الموت، الموت الذي يرهبه كل إنسان، حين قال إسماعيل: (إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. يقول صاحب الظلال: \"هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرات الذات، وطاقتها في الاحتمال، والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة\"º وعندئذ يكون إسماعيل قد ارتقى إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه وأمه.. إنه يتلقى الأمر في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا ويقينº ويقول في مودة، ورِقَّة، وتلطف (يا أبت افعل ما تؤمر).. ولما حدث من الأسرة الاستسلام الواعي، القاصد، المريد لم يبق من الامتحان إلا صورة الدم المسفوح، والجسد المذبوحº وهذه ينوب عنها ذِبح عظيم!.

ومضت سنة النحر في الأضحية ذكرى لهذا الحدث العظيمº الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، جمال الطاعة، وعظمة التسليم في تلك الأسرة المسلمة.. أسرة إبراهيم.. هاجر.. إسماعيل.

 

على خط الهجرة والجهاد

ومن نسل هذه الأسرة جاء محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ملة إبراهيم سارت هذه الأمة المسلمة، وعلى حد السنا أمضت سيفها: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)(الحج الآية 78)

وملة إبراهيم تستعذب الموت في سبيل الله على الحياة تحت ظلال الطاغوت، وتعمد أول ما تعمد إلى نفس الإنسان المؤمن وتخرج حب الحياة وكراهية الموت من قلبه، وحب الحياة كما يقول الأستاذ محمد قطب \"هو الذي يذل به الجبابرة المتكبرون البشر\"، وعندما يزهد الدعاة في هذه الحياة وزخرفها المزينº فإنهم يتحررون من كل شيء فعلى أي شيء يخافون وقد قد تركوا الحياة بما فيها ومن فيها واعتصموا بالله رب العالمين، وعيد الأضحى جاء ليذكر الأمة بهذا المعني وينزع من قلبها الخوف من إراقة الدم في سبيل الله وإنفاق المال بطيب نفس ورضا، فالذي يمتثل الهَدي النبوي ويحدَّ شفرته ويرح ذبيحته ويسمِّي الله ويرق الدم، يدرب نفسه المستنكفة عن مباشرة المعركة على جمال التسليم وتمام الخضوع لمراد الله، وكيف تستسيغ أمة مضغ اللحم ملء شدقيها وأعداء الخير والإسلام يمضغون الأمة في العراق وفلسطين والصومال درة القرن الأفريقي، والمسلمون عن الصومال التي تذبح المليشيات الأثيوبية الصليبية الإسلاميين الصوماليين ذبح الخراف، هل نست أمة الأضحية القتال أم جهلت كيف تمسك الحسام أم أصبح العيد - عندها- مناسبة تقليدية للطعام والشراب، والبحث عن (هاضوم) بعد التخمة؟

أم تنتظر الأمة العيد القادم لتشكو بشكاة الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين:

هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ

ضاقـت بهِ النَّفسُ، أم أودَت به القُرَحُ؟!

وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـت مـلامحُـهـم

مَـن في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟

ومن معاني العيد أن يرتبط بركن أساس من أركان الإسلام وهو الحج، حتى لا يصبح عيد الأضحى ملهاة وغفلة، ومثله عيد الفطر الذي يكون ختاما لركن الصيام.. و يتسق ارتباط عيد الأضحى بالحج، فهبة المسلمون وتدافعهم لمكة أخو خروجهم للجهادº فقد تركوا الأوطان وفارقوا الإخوان، ليقفوا في صعيد واحد في عرفة، تظلهم سماء واحدة ويهتفون بنداء واحد \"لبيك اللهم لبيك\".. وركضوا بين الصفا والمروة ينفضون عنهم قاعد السنين.. والعيد - مع ذلك كله - كما يقول الأستاذ محمد بن إبراهيم الحمد: \"فالعيد في معناه الديني شكر لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلج في سرائره رضا واطمئنانا، وتنبلج في علانيته فرحا وابتهاجا، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة...وفي معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوة الغني، وضعف الفقير على محبة ورحمة وعدالة من وحي السماء، عنوانها الزكاة والإحسان، والتوسعة\".

أسأل الله أن يجعل الأضحى لحظة للعظة والاعتبار والانتصار للمسلمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply