ليلــة عيــد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 البهجة البريئة المقطرة أتشمم عبيرها الآن.. أحاول استعادة إحساسي القديم.. الليلة ليلة عيد.. يقترب الفجر حثيثًا.. أتأمل البخار المتكاثف فوق مياه الترعة الرقراق..

نجرى إلى ساحة القرية أمام المسجد.. نلعب بجوار النخلتين المتعانقتين.."وحنفية المياه"التي تملأ منها كل بيوت القرية.. نخلع ملابسنا.. نقف عرايا تحت الحنفية.. نتقاذف بالمياه المندفعة في هدأة ليلة العيد كموسيقى ذات وقع حلمي.. نكتفي.. نرتدي ملابسنا.. نرى"جدو"قادماً في خطى شاب تعدى الثمانين بعدة سنوات.. شاب فعلاً لا يستند على عصا.. العزيمة تملأ جسده النحيف المحنى الأكتاف ووجهه الممصوص ورقبته المعروقة، عروقها مثل"زعازيع"القصب.. الطاقية الشبيكة يبين من تحتها شعره الفضى الخفيف. اسمه عبد الرازق.. كل القرية تقول له"يا جدو".. مات مرتين.. أقصد قيل أنه مات مرتين.. وغُسِّل.. وكُفِّن.. وتم تجهيز المسجد والساحة التي أمامه لاستقبال المعزين.. ثم يقوم بأكفانه ويضحك"والله لأوصلكم كلكم للقبر بيدي يا بلد عيال" فقد كانت إغماءة طويلة..

نجرى إلى جدو.. يناول مفتاح المسجد لأحدنا.. يسرع صاحب المفتاح ويفتح.. نخلع أحذيتنا ونلقى بها أمام المسجد.. ونبدأ في"خدمة العيد"كما كان يسميها جدو.. أحدنا يمسك المكنسة.. وآخر يأخذ دلوًا ويذهب ليملأه من الحنفية.. وثالث يلملم الحصير ويضعه أمام المسجد.. نكنس المسجد جيدًا.. ونغمره بالماء أكثر من مره.. ونجففه.. وننفض الحصير ليصبح كالجديد.. ونفرشه.. ونجرى إلى"جنينة الدياش"(التي أصبحت الآن مصنعاً للأدوات الصحيةžž!!) ونقطف بعض الورود ونضعها في أركان المسجد.. ويخرج جدو من جيب الصديري زجاجة المسك التي جلبها معه"الحاج رضوان"الذي كان يؤدى عمرة رمضان هذا العام.. يرش جدو الزجاجة كلها في المسجد..

ننتهي من العمل كله والفجر ما زال بعيدًا.. بقيت ساعة أو أكثر.. يطلب منا جدو أن ننام على الحصير لنستريح.. لكن الأولاد لا ينامون في ليلة العيد.. نخرج من المسجد.. نلعب حول النخلتين.. نقذفهما بالطوب ونجمع البلح المتساقط.. يتسلقهما بعضنا ليجلب مزيدًا من البلح.. نغسل البلح.. نجرى به إلى جدو.. يفرح به جدو"سنعطى بلحة لكل مصلى".. نتحمس.. نجرى لنأتي بكمية أخرى من البلح ونغسلها ونعطيها لجدو..

نشعر بالتعب.. فنسرع إلى الحنفية.. نخلع ملابسنا.. نستحم.. نرتدي ملابسنا.. نجرى إلى المسجد.. جدو مستند برأسه إلى الحائط.. وصوت شخيره يملأ المسجد.. يُقبل"الشيخ عبد المحسن".."السلام عليكم.. كل عام وأنتم بخير يا أولاد"..،"وأنت بخير يا سيدنا الشيخ.. وأنت طيب يا مولانا"يستيقظ جدو من غفوته.. يرى الشيخ عبد المحسن.. يبتسم.. يهم بالوقوف.. يضع الشيخ عبد المحسن يده على كتف جدو ليمنعه من الوقوف.. ويجلس بجانبه.. يتعانقان.."كل سنة وأنت طيب يا جدو""كل سنة وأنت طيب يا شيخ".. يصعد الشيخ عبد المحسن فوق سطح المسجد.."الله.. الله.. الله"ثم ينشد بعض التواشيح بصوته الندي الشجي.. يتوافد المصلون والمعيدون.. الوجوه نضرة مغسولة بالفرحة.. الملابس زاهية الألوان.. تمر النساء بجوار المسجد بملابسهن السوداء في طريقهن إلى المقابر ليعيدن على أمواتهن.. بُح صوت الشيخ عبد المحسن وهو يؤكد أن زيارة النساء للمقابر حرام ولا أحد يستجيب..

يمتلئ المسجد والساحة أمامه بالمصلين.. تنتهي الصلاة.. ننطلق إلى بيوتنا.. نتناول فطور العيد مع العائلة.. نرتدي الملابس الجديدة.. نخرج لنلعب بالبمب.. نركب المرجيحة التي يقيمها "حمدي الأعرج"ببعض عروق الخشب القديمة..

"الله.. الله.. الله".. صوت "الشيخ منصور"يأتيني عبر الميكروفون.. يأخذني من الذكريات الجميلة.. أقوم فأتوضأ.. أذهب مع المصلين في ذهني أبيات لا أتذكر قائلها: وطن النجوم أنا هنا

ألمحت في الماضي البعيد

جذلان يمرح في حقولك

أنا ذلك الولد الذي

 حدق أتذكر من أنا

فتى غريرًا أرعنا

كالنسيم مدندنًا

دنياه كانت ها هنا

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply