الإجازة وكيفية استغلالها


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فيا أيها الأخوة في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى -، فهي العاصم من القواصم، وهي المنجية من المهالك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.

 

أيها الأخوة المؤمنون:

إن هناك حقيقة واضحة قد غفلنا عنها أو نَسيناها أو نُسيناها، حقيقة هي أصل الحياة بل والهدف من هذا الكون كله، بإنسه وجنه وبهائمه وعقلائه، وسهله ووعره، وبحره وبره، إن هذه الخلائق كلها إنما خلقت لغاية عظمة ولهدف أسمى ولم يكن خلق السموات والأرض عفوياً دون معنى أو دون هدف يقول - تعالى -رداً لهذا الفهم: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين ".

ويقول - تعالى -: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ".

إن الحكمة من خلق الخلق كلهم هي عبادة الله وحده " و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ".

فكل الخلق مأمورون بعبادة الله وحده لا شريك له، وتكييف جميع ما سخر لهم في هذه الدار ليكون عوناً لهم على عبادة الله.

 

أيها الأخوة:

إذا تقرر هذا المعنى في نفوسكم فلنعلم جميعاً أن الإنسان ما دام فيه روح تنطف، ونفس يتردد، وما دامت الروح بين جنبيه فهو في عبادة الله وحده.

ولا إجازة له في هذه الدنيا إلا بالموت، فإذا جاء الموت فقد بدأ ثواب الأعمال والجزاء عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإنما الإجازة تكون في أعمال الدنيا وهي راحة وفترة استجمام يأخذها الموظف والطالب لينطلق بعدها لممارسة نشاطه من جديد بجد وحماس.

فالإجازة نعمة من نعم الله العظيم لم يرع كثير من الناس حقها، وما أدوا شكر هذه النعمة العظيمة، فإن الإجازة فرصة لمن فاته أثناء دوامه وعمله بعض الأعمال الصالحة، فإن الإجازة فرصة للقيام ببعض الأعمال التي قد لا يمكن عملها مع وقت الدوام كأداء العمرة مثلاً أو الدعوة إلى الله في مناطق مختلفة أو الصيام أو غير ذلك من الأعمال الصالحة.

ولكن بعض الناس وللأسف ظن أن الإجازة إجازة عن كل شيء، فهو بطر، فتجد عددا ليس بالقليل من المسلمين ما إن تُعلن الإجازة إلا وتزدحم المطارات للسفر لبلاد الكفر والانحلال، أو لتنزه فيما حرم الله - تعالى -.

 

أيها الأخوة في الله:

إننا لنجد في واقعنا بعض الموفقين الذين وفقهم الله - تعالى -لطاعته، وأحبهم واجتنباهم، فهم يتقلبون بين محاب الله، قائمين بأمر الله قد ملؤوا أوقاتهم بما يرضي الله، وتركوا معصيته، قد جعلوا الله نصب أعينهم، يتسابقون في الخيرات، ويتنافسون في الطاعات، فلله درهم ولله ما أحسنهم، وما أشد حبنا لهم، فبمثل هؤلاء يدفع البلاء وتزول البلوى، وتستجلب الخيرات وتدفع المنكرات.

فلمثل هؤلاء نقول جزاكم الله خيراً وثبتنا وإياكم على الطريق المستقيم وجنبنا الشيطان وسائر أعدائه، فها أنتم يا مؤمنون قد بدأتم إجازتكم بقراءة شيء من القرآن، وأراكم تعزمون على حفظ شيء منه، واعلم أنكم في قرارة أنفسكم تقولون، متى سيكرمنا الله ونحفظ كتابه الكريم.

وأراكم يا موفقون قد وضعتم جزءاً ليس بالقليل لكتاب الله، يستلهمون الدروس منه، وتحيون قلوبكم بكلام ربكم - سبحانه وتعالى -، وكأنكم تتمثلون قول المصطفى: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وكأني بكم تطمحون لأن تكونوا من أولئك الذين قال الله فيهم، إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور الآية. ويحدوكم في طريقكم قول المصطفى: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) [رواه أبو داود والترمذي وأصحاب السنن].

ثم أنتم مع ذلك قد جعلتم وقتا لقراءة الكتب النافعة التي قد لا يتسنى لكم قراءتها مع أيام العمل والدراسة،وأراكم قد بدأتم بمشروع حفظ بعض متون أهل العلم ومدارستها وحضور بعض الدروس العلمية والمواظبة عليها.

وأراكم مع كل ذك لم تنسوا دعوة الناس والمشاركة في إصلاحهم فلكم مشاركات كثيرة في مجالات متعددة، إما بالكلمة أو بتوزيع شريط مفيد أو بتوزيع كتيب هادف، أو بأمر بالمعروف ونهي عن المنكر أو مشاركات في المراكز الصيفية وتربية الناشئة على كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح.

ثم أنتم مع ذلك كله يا موفقون، ورغم ما كل ما تعملون لم تنسوا أن تستغلوا الإجازة الصيفية بزيارة الأقارب والأرحام، وكأني بكم تتمثلون حديث النبي حينما جاءه أعرابي فقال يا رسول الله أخبرني بأمر يدخلني الجنة وينجيني من النار؟ قال: فنظر إلى وجوه أصحابه وقال - عليه السلام -: ((لقد وفّق أو هُدي، لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب].

وأنتم مشفقون وجلون من وقوع الوعيد بكم إن أنتم قصرتم في صلة رحمكم متذكرين قول النبي قال الله - تعالى -: ((أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت له اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) [أخرجه الحاكم وأبو داود بإسناد صحيح].

ثم بعد ذلك تتوجون عملكم ودعوتك وصلتكم لأرحامكم بزيارة لبلد الله الحرام والطواف بالبيت العتيق واستلام الحجر والسعي بين الصفا والمروة، ولسان حالكم يقول: يا ربنا هذا جهد المقل نقدمه لك وأنت الذي تبارك القليل وتغفر الكثير، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون. وتحنون الجباه وتعفرون الوجوه لرب الأرض والسماء، وأنتم تدعون الله تقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

والعجيب من أمركم رغم جدكم ونشاطكم وقد ملئت أوقاتكم بالعلم والعمل الصالح وبالدعوة إلى الله لم تنسوا أبناءكم وبناتكم، فها أنتم تأخذونهم لسفرة قريبة، ومتعة بريئة، لا مكان للحرام فيها، فأقول لأمثال هؤلاء أبشروا والله فأنتم على خير عظيم، واصبروا فإن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وإن الدنيا مآلها إلى الفناء، وسوف يحمد القوم السُرى، وستوقف المطايا على أبواب الجنة برحمة أرحم الراحمين، وسوف تعلم أن هذه الدنيا وأهلها ما كانوا إلا في غرور.

وإنه لا ينبغي عند لله إلا العمل الصالح، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً، فاثبتوا يا موفقون ولا يغرنكم كثرة الهالكين، ولا تتابع الساقطين، وصبراً صبراً فإن الموعد الله.

وأما أنتم يا من ضربتم في كل واد بذنب، قد ملأتم إجازتكم بما يغضب الله، وعزمتم على ارتكاب ما حرم الله، وكأنكم ستخلدون في الدنيا، وكأنكم لن تحاسبوا على أعمالكم ولن تجازوا على معاصيكم وذنوبكم.

أغركم حلم الله عنكم وستره عليكم، أغركم أنكم تعصونه ويرزقكم وتقعون في الحرام ويفتح عليكم من الدنيا، ألم يطرق أسماعكم قول النبي: ((إذا رأيت الله يعطي العبد وهو قائم على معصيته فإنما هو استدراج)).

ما لي أراكم قد قطعتم تذاكر السفر إلى بلاد الكفر والانحلال، لتمكثوا بين ظهراني المشركين والكافرين، وأنتم تسمعون قول المصطفى: ((أنا برئ من كل مسلم بات بين ظهراني المشركين)) وليس هذا فحسب بل ستأخذون أبناءكم وبناتكم معكم إلى تلك البلاد التي لا يردعها حياء ولا يمنعها دين، ليفتحوا أعينهم البريئة التي لم تألف المنكر بهذه البشاعة ولم تر الفساد بهذه الصورة، فبعد أن كانوا لا يرون إلا عماتهم وخالاتهم ومحارمهم المتحجبات، أصبحوا يرون المرأة بزيها الصارخ وبفسادها المتناهي، ليرجع لنا أبناؤك وبناتك بعد حين قد مسخوا من كل حياء ومن كل خلق، وينادون، ويطالبون بتقليد أولئك الفاجرات الكافرات.

قد يقول أحدكم: أنا لن اذهب إلى تلك البلاد الكافرة ولكن سأذهب إلى بعض البلاد العربية.

فأقول لك، قد علم كل عاقل أن أكثر هذه البلاد فيها من الفساد والشر مثل ما في البلاد الكافرة أو أشد.

فهاهي إعلاناتهم في الصحف والمجلات، لتنشيط السياحة، فحفلات غنائية صارخة، ومسرحيات وأفلام ساقطة، ومراقص ودور للفساد والبغاء.

كل هذا بحجة شيطانية قد زينها الشيطان لأصحابها وأسموها بغير اسمها، وظنوا أن تغيير الأسماء بغير الحقائق، فأسموها بالتنشيط السياحي.

وأدخلوا تحت هذه العنوان كل فاسد ومحرم، واستجلب الشر المستطير والوباء الخطير باسم التنشيط السياحي، وما علموا أنها تنشيط واستجلاب لعذاب الله جل جلاله، وسبب عظيم من أسباب غضب الجبار جل جلاله.

أيها المسلم: يا من تشهد ألا إله إلا الله، محمد رسول الله، كيف تجرؤ على المعصية ورب السموات والأرض ينظر إليك، أما تستحي من خالقك، والله لو قدرت الله حق قدره وعظمته حق تعظيمه لما سطوت على معصية، ولما تجرأت على محاربته بالذنوب والمعاصي.

لا إله إلا الله، سبحانك ما أحلمك، سبحانك ما أرحمك، تطاع فتشكر وتعصى فتغفر.

لا إله إلا الله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.

لا إله إلا الله ما أجرأنا على الله وهو يحلم عنا، وأشد تقصيرنا وهو يرزقنا ويعافينا.

لا إله إلا الله، كيف تتجرأ أيها الحقير المسكين على معصية الله، وكيف يجلس فيما حرم عليك وهو ينظر إليك، من أنت عند عظمة الله جل جلاله.

فهذا جبريل الذي يقول النبي عنه: ((رأيت جبريل ماداً جناحه قد سد الأفق إلى السماء))، ويقول: ((إن لجبريل ستمائة جناح مخلوق عظيم)) ومع ذلك انظر ماذا يكون عند عظمة الله - سبحانه وتعالى - يقول رسول الله: ((لما كان ليلة أسري بي رأيت جبريل كالشن البالي من خشية الله تعالى))، وهذا إسرافيل - عليه الصلاة والسلام - لم يضحك منذ خلقت النار، لأنه عاين العذاب ورأى النار يحطم بعضها بعضاً ويأكل بعضها بعضاً.

إنهم ملائكة عرفوا الله فعظموه فكانوا كما سمعت، أرأيت يا أخي السموات السبع، والأرضون السبع، ما هي في كف الرحمن إلا كما لو ألقى أحدكم درهم في فلاة.

فكيف تجرؤ يا أخي على معصية الله، لقد أهلك الله أمماً بأكملها بسبب ذنوبها ومعاصيهم أفيعجزه - سبحانه - أن يهلكك وأنت الحقير المسكين، إنها الذنوب والمعاصي، إنها شؤم المعصية.

فما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العظيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية.

وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم. وما الذي رفع قرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها.

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟

وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟

إنها الذنوب والمعاصي، فالتوبة التوبة، والرجوع الرجوع، والإنابة الإنابة قبل حلول الآجال، وهجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات، واعلموا أن الله يهلك الأمم إذا تتابعوا على المعصية ولم ينكر أحدهم على أحد.

ففي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت سمعت رسول الله يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، فقلت يا رسول الله، هل فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يُصنع بأولئك؟ قال يصيبهم ما أصاب الناس بها، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)).

واعلموا أن الناس والأمم لا تهون على الله حتى يخالفوا أمره، فإذا خالفوا أمره هانوا عليه فأهلكهم.

ففي مسند الإمام أحمد عن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله - عز وجل - إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة شاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر لله فصاروا إلى ما ترى.

وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حديثنا عن الزلزلة فقالت: ((إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف. غار الله - عز وجل - في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابعوا ونزعوا إلا أهدها عليهم)).

وعن سهل بن سعد أن رسول الله قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات)).

وثبت في صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ (الزنا) والحرير والخمر والمعازف، لينزلن أقوم إلى جنب علم (أي جبل) يروح عليهم بسارقة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، و يوضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). كل هذا أيها الأخوة لأنهم استحلوا ما حرم الله.

وإن المعصية تكون أقرب إلى المغفرة إذا ما كانت سراً، ولا تضر إلا صاحبها، ولكن البلاء كل البلاء أن يعلن المحرم وتعمل له الدعايات.

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((إذا أخفيت الخطيئة فلا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير تضر العامة)).

اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، الله عاملنا بصفحك وكرمك وجودك وحلمك، فنحن المذنبون والعصاة المقصرون، تبنا إليك ورجعنا إليك استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله الحليم الكريم ذا الصفح الجميل والكريم العظيم يحلم عن عباده ويعفوا عنهم.

بارك الله لي ولكم..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply