الصدقة بغير المال واستثمار الإجازة


 

بسم الله الرحمن الرحيم  

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في الصحيحين عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا:"ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم. فقال: "وما ذاك"؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من قد سبقكم، وتسبقون من بعدكم ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ ". قالو: بلى يا رسول الله، قال: "تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة". قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"(1). كان الصحابة - رضي الله عنهم - لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة وقوة رغبتهم في الخير يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء، ويحزنون عن التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته، فدلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات يقدرون عليها حيث ظنوا أنه لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة، وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل معروف صدقة"، (2) فالصدقة تطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان، والصدقة بغير المال نوعان:

الأول: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق، فيكون صدقة عليهم وربما كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه وكذلك تعليم العلم النافع، وإقراء القرآن، وإزالة الأذى عن الطريق، والسعي في جلب النفع للناس، ودفع الأذى عنهم والدعاء للمسلمين والاستغفار لهم.

ومن أنواع الصدقة: كف الأذىº ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله: "أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان والجهاد في سبيله". قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً". قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعاً أو تصنع لأخرق". قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة". (3) وفي سنن الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة". (4) وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها

صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس". قيل يا رسول الله: ومن أين لنا الصدقة نتصدق بها؟ قال: "إن أبواب الخير كثيرة: التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدُلُ المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، هذا كله صدقة منك على نفسك"(5).

ومن أنواع الصدقة: أداء حقوق المسلم على المسلم كما في صحيح مسلم: "للمسلم على المسلم ست". قيل: ما هن يا رسول الله، قال: "إذا لقيته تسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعدهُ، وإذا مات

فاتبعه"(6).

من أنواع الصدقة: المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم، قال ابن عباس: من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه، فله بكل خطوة صدقة(7).

ومنها إنظار المعسر ففي المسند وسنن ابن ماجه عن بريدة مرفوعاً: "من أنظر معسراً فله بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره بعد ذلك، فله بكل يوم مثلاه صدقة"(8)، ومنها الإحسان إلى البهائم كما في الحديث: "في كل كبد رطبة أجر"(9).

النوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه قاصر على فاعله كأنواع الذكر من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والاستغفار وكذلك المشي إلى المساجد وركعتي الضحى، ومنها محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها والندم والتوبة والبكاء من خشية الله والتفكر في ملكوت السماوات والأرض وفي أمور الآخرة وما فيها من الوعد والوعيد، قال كعب: "لأن أبكي من خشية الله أحبُ إليّ من أن أتصدق بوزني ذهباً"(10).

نعم، إنها صدقات متنوعة وطرق للخير ميسرة منها المتعدي ومنها القاصر نفعها على فاعلها ولكل إنسان ما يحسن منها.

نقول ذلك ونحن على أبواب إجازة الصيف التي يجد فيها الناس من الفراغ مالا يجدونه في غيرها من الأوقات، فالإجازة نعمة ولابد من استثمارها في العمل النافع المفيد الذي يستغرق الصباح والمساءº لأن الفراغ يعد مشكلة تقلق المجتمع والأفراد وتقلق الآباء والأمهات. قال الشافعي - رحمه الله -: "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل". الفراغ أساس لكل فساد فهو لص خابث وقاطع عائث أفسد أناساً ودمّر قلوباً وسبب ضياعاً.

ولكن كيف يكون في حياة المسلم فراغٌ وقد أرشد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى تلك الخصال العظيمة التي هي صدقات من الإنسان على نفسه وصدقات منه على غيره من الناس.

الإجازة جزء من عمر الإنسان وحياته ترصد فيها الأعمال، وتسجل الأقوال، والجميع موقوف للحساب بين يدي الجبار جل جلاله، فالدنيا دار اختبار وبلاء، كل ذلك يجعل للحياة قيمة أعلى ومعان أسمى من أن يحصر الإنسان همه في دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، أو مال يجمعه، سدد الله الخطى وبارك في الجهود وجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين إنه - سبحانه - مسؤول خير والحمد له أولاً وآخراً.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- البخاري (843) و (6329) ومسلم (595).

2- رقم (1005).

3- البخاري رقم (2518) ومسلم (84).

4- رقم (1956) وصححه ابن حبان (474) و (529).

5- برقم (3377).

6- مسلم (2066).

7- أورده السيوطي في الجامع الكبير (838/2) ونسبة إلى الطبراني والضياء المقدسي.

8- رواه أحمد (5-360) والحاكم وصححه على شرط الشيخين (2-34).

9- رواه البخاري برقم (2363) و (2466) ومسلم (2245).

10- رواه أبو نعيم في الحلية (366/5).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply