حكم الاحتفال بالمولد النبوي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فقد نشرت جريدة الندوة في العدد الصادر يوم السبت 16 / 4 / 1382 هـ للشنقيطي محمد مصطفى العلوي في تبرير الاحتفال بالمولد النبوي مقالاً آخر تحت عنوان: (هذا ما يقوله ابن تيمية في الاحتفال المشروع بذكرى المولد النبوي)، مضمون ذلك المقال: أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى الاحتفال بالمولد النبوي، واعتمد الشنقيطي في تلك الدعوى على ثلاثة أمور:

1 ـ قول شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط " في بحث المولد: (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيمº لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قدمت أنه يستحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد).

يقول الشنقيطي: فكلام شيخ الإسلام ـ يقصد هذه العبارة ـ صريح في جواز عمل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الخالي من منكرات تخالطه.

2 ـ قول شيخ الإسلام في " الاقتضاء " أيضاً: (إذا رأيت من يفعل هذا ـ أي المنكر ـ ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه).

يقول الشنقيطي: (من الجدير بالذكر ما أشار إليه شيخ الإسلام أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها إذا كان نهيه عنها يحمله إلى ما هو شر منها، ومن المعلوم عند العموم: أن أكثر أهل هذا الزمان يضيعون الليالي وخصوصاً ليلة الجمعة في سماع أغاني أم كلثوم وغيرها من حفلات صوت العرب الخليعة مما يذيعه الراديو والتلفزيون، فلا يخفى على مسلم عاقل أن سماع ذكر صفة وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من سماع الأغاني الخليعة والتمثيليات الماجنة).

3 ـ دعوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا ينكر الابتداع في تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويذكر الشنقيطي أن أكبر شاهد على ذلك تأليفه كتاب " الصارم المسلول ".

هذا ما ذكره الشنقيطي مما برر به هذه الدعوى الباطلة.

 

والحق أنه إنما أٌتي من سوء فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته، وفي نوع ما وقع فيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " الاستغاثة ":

(الوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس، ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم)، وهذا هو عين ما وقع للشنقيطي في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية.

وإلى القراء بيان ذلك فيما يلي:

أما قول شيخ الإسلام: (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيمº لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئة عنهº ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل ـ أي الاحتفال بالمولد ـ يستقبح من المؤمن المسدد، ولكن الشنقيطي أخذ أول العبارة دون تأمل في آخرها، وفي أول بحث المولد في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الذين يتخذون المولد عيداً محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 294، 295): (والله - تعالى - قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به مناº فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).

فهذا تصريح من شيخ الإسلام بأن إثابة من يتخذ المولد عيداً محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية قصده لا تقتضي مشروعية اتخاذ المولد عيداً ولا كونه خيراً، إذ لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به مناº لأنهم أشد محبة وتعظيماً لرسول الله منا.

ثم بعد ذلك صرح شيخ الإسلام بذم الذين يتخذون المولد عيداً، فقال في (ص 295، 296):

(أكثر هؤلاء تجدهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء الكبير والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها).

وقال شيخ الإسلام في " الاقتضاء " (ص 317): (من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع).

وصرح في (ص 290) بأن إثابة الواقع في المواسم المبتدعة متأولاً أو مجتهداً على حسن قصده (1) لا تمنع النهي عن تلك البدع والأمر بالاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، وذكر أن ما تشتمل عليه تلك البدع من المشروع لا يعتبر مبرراً لها.

كما صرح في كلامه على مراتب الأعمال بأن العمل الذي يرجع صلاحه لمجرد حسن القصد ليس طريقة السلف الصالح، وإنما ابتلى به كثير من المتأخرين، وأما السلف الصالح فاعتناؤهم بالعمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه بوجه من الوجوه، وهو العمل الذي تشهد له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (وهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه، والأمر به على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب)، أضف إلى هذا أن نفس كلام شيخ الإسلام: (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له أجر عظيم لحسن قصده) إلخ، إنما ذكره بصدد الكلام على عدم محاولة إنكار المنكر الذي يترتب على محاولة إنكاره الوقوع فيما هو أنكر منه، يعني أن حسن نية هذا الشخص ـ ولو كان عمله غير مشروع ـ خير من إعراضه عن الدين بالكلية.

ومن الأدلة على عدم قصده تبرير الاحتفال بالمولد تصريحاته في كتبه الأٌخر بمنعه، يقول في " الفتاوى الكبرى ": (أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها).

وقال في بعض فتاواه: (فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك، واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).

وأما قول شيخ الإسلام: (إذا رأيت من يعمل هذا ـ أي المنكر ـ ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه اضر من فعل ذلك المكروه).

فمن غرائب الشنقيطي الاستدلال به على مشروعية الاحتفال بالمولد ما دام شيخ الإسلام يسمي ذلك منكراً، وإنما اعتبر ما يترتب على محاولة إزالته من خشية الوقوع في أنكر منه عذراً عن تلك المحاولة من باب اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على هذا النوع في رسالته في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، ومن ضمن بحثه في ذلك قوله: (ومن هذا الباب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجورº لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واستعذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عابدة ـ مع حسن إيمانه وصدقه ـ وتعصب لكل منهما قبيلته حتى كادت أن تكون فتنة).

ومن هذا يُعلم أن لا ملازمة بين ترك النهي عن الشيء لمانع وبين إباحة ذلك الشيء كما تخيله الشنقيطي.

وقد فاته أن هذه العبارة التي نقلها عن شيخ الإسلام في عدم النهي عن المنكر إذا ترتب عليه الوقوع في أنكر منه لا تصلح جواباً لمن سأل عن حكم الإنكار على من اتخذ المولد عيداً إذا ترتب على الإنكار الوقوع في أنكر منه.

كما فاته أن ما ذكره من جهة أغاني أم كلثوم وما عطفه عليها لا يعتبر مبرراً للابتداع، فإن الباطل إنما يزال بالحق لا بالباطل، قال - تعالى -: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) (سورة الإسراء: 81)، وليس النهي عن الاحتفال بالمولد من ناحية قراءة السيرة، بل من ناحية اعتقاد ما ليس مشروعاً مشروعاً، والتقرب إلى الله - تعالى - بما لم يقم دليل على التقرب به إليه، ومن أكبر دليل على عدم اعتبار ما ذكره الشنقيطي أن المواضع التي تقام فيها الاحتفالات بالموالد ما حالت بينها وبين الاستماع لأغاني أم كلثوم وما عطف عليها، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أرفع من أن لا تقرأ في السنة إلا في أيام الموالد.

وأما دعوى الشنقيطي فتح شيخ الإسلام ابن تيمية باب الابتداع فيما يتعلق بتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تدل أوضح دلالة على بطلانها، فقد قرر فيها أن كيفية التعظيم لا بد من التقيد فيها بالشرع، وأنه ليس كل تعظيم مشروعاً في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن السجود تعظيم، ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك جميع التعظيمات التي هي من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول بها، كما قرر في غير موضع من كتبه أن الأعمال المضادة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن قصد فاعلها التعظيم، فهي غير مشروعةº لقوله - تعالى -: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ويستدل كثيراً بما جاء في النصوص من النهي عن الإطراء، وكلامه في ذلك كثير لا يحتاج إلى الإطالة بذكره ما دامت المراجع بحمد لله موجودة، هذا على سبيل العموم.

أما ما يخص مسألة اتخاذ المولد النبوي عيداً بدعوى التعظيم فقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، قال: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) اهـ.

وتمثيل الشنقيطي بـ: " الصارم المسلول " لدعواه فتح شيخ الإسلام ابن تيمية لباب الابتداع في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما نشا من عدم تدبر كلام شيخ الإسلام في مقدمته، فإنه قد بين فيها أن مضمون الكتاب " الصارم المسلول " بيان الحكم الشرعي الموجب لعقوبة من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر بياناً مقروناً بالأدلة، ومن نظر إلى الأدلة التي سردها شيخ الإسلام في هذا الكتاب من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة ـ تبين له أن دفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحماية لجنابه من التعرض له بما لا يليق به، وهذا لا صلة له بالابتداع.

هذا وليت الشنقيطي فكر في تعذر الجمع بين الأمور التي استدل بها على تبرير الاحتفال بالمولد، فإن كون الشيء الواحد مشروعاً ومنكراً بدعة في آن واحد لا يتصور، لكن من تكلم فيما لا يحسنه أتى بالعجائب.

هذا ما لزم بيانه وبالله التوفيق) أ. هـ

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply