عاشوراء فضله وتعظيم الأخيار بصومه


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن يوم عاشوراء، الذي هو العاشر من شهر الله الحرام المحرم يوم جليل قدره عند أهل الجاهلية، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام فزاده فضلا وقدرا حيث صح في الصحيحين من حديث عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - عن أبيها أنها قالت: (كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه).

فأفاد هذا الحديث مع أحاديث أخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى صوم عاشوراء قبل بعثته ونبوته، كما كان أهل مكة وغيرهم في الجاهلية يصومونه ويعظمونه وسبب هذه الفضيلة العظيمة والحرمة القديمة ليوم عاشوراء عدة أمور:

1.    أولها أن صيامه أعني اليوم العاشر - كان معروفا مشهورا عند الأنبياء - ويدل لهذا ما رواه بقي بن مخلد في سنده من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عمرو بن الأسود العنسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم).

وإبراهيم الهجري ليس بالقوي في حديثه لين، لكن يقويه ويشهد له ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق شبيل بن عوف الأخمسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال - صلى الله عليه وسلم - ما هذا الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى شكرا لله.

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم. فصام وأمر أصحابه بالصوم وأصل الحديث مخرج في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - من دون ذكر صيام نوح - عليه السلام - فيكون هذا اليوم تتابع في صيامه المرسلون من بعد نوح، وبقي لدى أهل الجاهلية مما بقي عندهم من دين الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما ولديهم كثير من شعائر الدين باقية فيهم كما هو مشهور عنهم، وكما قرره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في رسالته الحافلة (كشف الشبهات) حيث يقول - رحمه الله - ، وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) أ.هـ. فيكون صيام عاشوراء مما وردهم من شرائع الأنبياء قبلهم، فزادها النبي - صلى الله عليه وسلم - تقريرا وتفضيلا وتعظيما.

2.    الأمر الثاني ما نقله الحافظ بن رجب الحنبلي - رحمه الله - أن ولهم بن صالح الكندي الكوفي قال، قلت لعكرمة - وهو ابن عبد الله مولى ابن عباس رضي الله عنهما- عاشوراء ما أمره؟ قال: أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم، فسألوا ما توبته؟ قيل: صوم عاشوراء، يوم العاشر من المحرم).

ولقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/184 قال: ثم وجدت في بعض الأخبار أنهم - يعني أهل الجاهلية - كانوا أصابهم قحط ثم رفع عنهم، فصاموه شكرا فهم تواردوا على صومه وتعظيمه شكرا لله وتعظيما له، وهو بحد ذاته كاف في مشاركته - صلى الله عليه وسلم - لهم فيه قبل البعثه.

3.    الأمر الثالث: أن أهل الجاهلية أخذوا صومه وتعظيمه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فشابهوههم وشاركوهم في تعظيمه تأثرا بهم.

وأهل الكتاب لا سيما اليهود كانوا يعظمون عاشوراء في الجاهلية، لتعظيم نبي الله موسى له كما في الصحيح من حديث ابن عباس ـ - رضي الله عنهما - ـ أنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه)· فقال - صلى الله عليه وسلم -: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بصيامه··· وفي لفظ البخاري قالوا: هذا يوم صالح).

وكان أمر صومه في أول الأمر على الوجوب ثم نسخ بفرض صيام شهر رمضان وتأكد صوم عاشوراء لعدة اعتبارات:

1.    حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على صومه ومداومته عليه مما يجعل صيامه سنة مؤكدة.

2.    أن يومه - أعز الله فيه التوحيد وأذل الكفر بإعزازه نبيه وإذلاله فرعون ذلكم الطاغوت الذي عاند الله وجحد ربوبيته ظاهرا لا باطنا· فلما صامه موسى شكرا لله وصامه قبله نوح والأنبياء بعده شكرا· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المؤمنين أولى بأنبياء الله وأحرص على متابعتهم فتأكد عليهم صيامه.

والله - عز وجل - يقول في آل عمران {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)} [آل عمران].

3.    ما ورد من الشعر بصومه، وما رتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على صيامه من الأجر الجزيل والتواب الفضيل حيث روى مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام عاشوراء فقال: (أحسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) وكلنا بحاجة إلى هذا في إدبار عام وإقبال آخر.

4.    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع صيامه له حتى مات، ويتأكد هذا بما رواه أحمد والنسائي عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر ـ - رضي الله عنها - ـ وعن أبيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام ن كل شهر· ورواه أبو داود كذلك، لكن عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمها رضي الله عن الجميع· هذا وفي حديث عائشة السابق، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلما فرض رمضان تركوا عاشوراء علقنا فيه عن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - قوله: أي سقط وجوب صيامه، وبقي استحبابه، بل هو سنة مؤكدة).ا.هـ.

وصيام عاشوراء على مراتب:

1 - إفراده وحده بالصوم فهو على فضل صومه لا يليق إفراده، وعلقنا عن سماحة شيخنا ابن باز - رحمه الله - قوله: (إن إفراده بالصوم مكروه، للنهي عن التشبه باليهود).

2 - صيام يوم قبله، فيصام التاسع مع العاشر، وهو الذي تمناه - صلى الله عليه وسلم - أن يفعله إن عاش إلى العام القادم، لكن مات - صلى الله عليه وسلم – قبله.

3 - صيام يوم بعده وهو الحادي عشر لئلا يفرد بالصوم.

4 - صيام يوم قبله ويوم بعده، فيصام التاسع والعاشر والحادي عشر لما روى عن أحمد وغيره عن إبن عباس يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما وبعده يوما) وفي رواية أو بعده يوما.

والأمر في الثلاثة الأخيرة والحمد لله واضح، لكن في صيام التاسع مع العاشر أوجه وأكمل لموافقته وفي هذه المناسبة، لا يجوز أن يتخذ يوم عاشوراء عيدا، لأن هذا فعل يهود لما روى البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فصوموه أنتم).

وفيه مخالفتهم فيه حيث خصه بالصوم، والعيد لا يصام، وخالفهم في اعتقاد كونه عيدا إلى كونه يوم عبادة وشكر لله، فشرع فيه الصوم.

كذلك لا يجوز أن يتخذ هذا اليوم - أعني عاشوراء - مأتما ويوم حزن وبكاء ونياحة لأننا نهينا عن النياحة والتسخط وشق الجيوب ولطم الخدود والدعوى بدعاء الجاهلية، نهينا عن ذلك نهيا شديدا.

ولأن هذا كله بدع محدثة في الدين لا أصل لها ولم يشرعها الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - والله - عز وجل - يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (21)} [الشورى].

والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) متفق عليه وفي لفظ مسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). ولم يفعله كذلك أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ولا أهل بيته العلماء الفضلاء.

والله نسأل أن يردنا إلى الحق ردا جميلا، وأن يعيننا على أنفسنا ويمنحنا الفقه في دينه ويرزقنا الثبات عليه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، ويتقبل منا صيامنا وسائر طاعاتنا، ويتجاوز عن تقصيرنا وتفريطنا إنه ولي ذلك وهو - سبحانه - أهل التقوى والمغفرة والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply