الأسباب الحقيقية للزلازل الآسيوية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تكرر حدوث الزلازل في شرق آسيا خلال الأشهر الأخيرة، حيث كان مركز أولها في جزيرة ( سومطرة) الأندونيسية يوم 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425 هـ بقوة (9.3) حسب مقياس ريختر، وأعقبه مد بحري جارف ذكَّر الناس بطوفان نوح - عليه السلام -، وهو ما تعارف المختصون على تسميته ( تسونامي) أخذاً عن اليابانيين، وكان هذا المد سبباً في غرق سواحل (8) دول آسيوية تطل على المحيطين الهادي والهندي، وامتد إلى (3) دول أفريقية تطل على الأطلسي، وقد راح ضحية هذه الكوارث نحواً من ثلث مليون نسمه·

وفي 24 فبراير 2005م الموافق 15 المحرم 1426 هـ أي بعد مرور شهرين عربيين بالضبط، وقع زلزال في إيران بقوة (6. 4) حسب مقياس ريختر، ثم تكرر زلزال ثالث في 28 مارس 2005م الموافق 18 صفر 1426 هـ في جزيرة (نياس) الأندونيسية التي تقع على مقربة من جزيرة (سومطرة) وامتد إلى جزيرة جاوه، ولكن لم يصاحبه مد بحري، رغم أن قوته كانت (8. 7) حسب مقياس ريختر، وقد راح ضحيته (1300) نسمة، وأحدث ذعراً لدى الأهالي الذين لجؤوا إلى المرتفعات ونزحوا عن المنطقة خوفاً من تكرار موجات مد (تسونامي)، لكنها لم تحدث في المحيط الهندي، وتعلل ذلك أن الطاقة الحبيسة في باطن الأرض في المرة الأخيرة، كانت أضعف (30) مرة عن سابقتها، وأن الزلزال حدث نتيجة ميول وقلقة في أوضاع الألواح القارية التي تختلف عن الزلزال السابق، وكان أقصى ارتفاع للمد البحري بعيداً عن مركز الزلزال عندما وصل إلى شواطئ بعض الجزر في استراليا بارتفاع (3) أمتار فقط·

 

* الزلازل من منظور علمي مختلف

تعارف علماء الجيولوجيا على أن الزلازل تحدث عندما تتحرك الصفائح أو الألواح التكتونية متباعدة أو متقاربة عن بعضها بعضا، أو عندما تنزلق حوافها نتيجة حدوث ضغط عليها من أسفل أو من أعلى، بينما يتكون اللب الداخلي أو (قلب) الأرض من حديد ونيكل منصهرين وفي حال غليان (1)، ويرجع الجيولوجيون أسباب الهزات الأرضية إلى تراكم هذه الطاقة في باطن الأرض، حيث درجة الحرارة تبلغ (6000) درجة مئوية، ومحاولتها الدائمة النفاذ من الطبقات التي تعلوها من خلال أي شق أو تصدع فيه نقاط ضعف، وهذه تحدث نتيجة ميل أو تزحزح في الألواح القارية·

وقد تشكلت على مر السنين مناطق ضعيفة ورخوة بينها، تعرف باسم ( أحزمة الزلازل) التي تعتبر أكثر الأماكن ملاءمة لتدفق الطاقة الحبيسة في جوف الأرض·

 

وأهم أسباب الزلازل تُعزا إلى عبث من البشر فوق سطح الأرض، أو في جوفها وهي:

- أسفر استمرار تلويث الغلاف الجوي بغازات الصناعة عن ظاهرة (الاحتباس الحراري) أو (الدفيئة) التي رفعت درجة حرارته بمقدار (2. 5) مئوية في نهاية القرن (20) (2)· الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة الأمطار والعواصف وارتفاع (مستوى سطح البحر القياسي) بمقدار (2) سنتيمتر في أواخر القرن العشرين، وأنه يتزايد كل عام بمقدار (1) ملليمتر، وبسببه أيضا تفاقمت (ظاهرة النحر) أي زحف مياه البحار على شواطئ نحو (700) مدينة ساحلية في العالم، ولا شك أن هذا الماء يشكل ثقلاً فوق الألواح القارية ويعمل على تنشيط الزلازل·

كما يؤدي بدوره إلى انزلاق كتل وصخور ضخمة من الجبال المتاخمة للبحار والمحيطات فتنزلق إليها، محدثة مزيداً من الأحمال على القشرة الأرضية (3)·

- ويتسبب أيضا في انفصال جبال الجليد من المنطقتين القطبيتين المتجمدتين وبخاصة الجنوبية منهما، لأنها منفتحة على ثلاثة محيطات، وهي جبال ذات أوزان كبيرة للغاية تسبح طافية فوق سطح الماء، فتحرك ثقلاً يبلغ آلاف الأطنان فوق الألواح القارية وتزيد الأحمال فوقها (4) وتقلقل أوضاعها·

- كما أن كثرة سحب البترول والغازات الطبيعية من مكامنها، تغير من الأحمال تحت القشرة الأرضية وتقلقل أوضاعها وتتسبب في ميولها، ومن أبشع حماقات تلويث البيئة ماقام به رئيس العراق المخلوع (صدام حسين) عندما أجبر على الرحيل عن الكويت بإشعال (660) بئر بترول، ظلت النيران مشتعلة فيها مدة (6) أشهر، (5)، ولا يعجب أحد من مرور أكثر من عقد على الحدث لأن ما يتم في باطن الأرض لا يحدث فجأة، ولكن يأتي نتيجة تراكمات قد تستمر أشهراً أو سنوات·

 

* أهم أسباب الزلازل فلكية

- قد يعجب بعضهم أن أهم أسباب تنشيط الزلازل تحدث في الفضاء، فمنذ عهد (نيوتن) عرف قانون الجاذبية العامة، الذي يقرر أن هناك قوى جاذبية متبادلة بين الشمس وكل من الكواكب في المنظومة الشمسية، وهذه القوى متساوية ومضادة في الاتجاه ولكنها هي التي تبقى في حالة دوران مستمر حول الشمس، وبالمثل توجد قوى جذب بين الأرض والقمر باعتباره تابعها الذي انفصل عنها عند بدء الخليقة وهي مائعة، وخَلَّف وراءه المحيط الهادي الذي يكاد يشبه دائرة قطرها ما يعادل قطر القمر تقريباً (6)·

وبحكمته - تعالى -تتساوى قوى الجذب بين كل جسمين، وتتضاد في الاتجاه، ولذلك يبقى كل على مداره سابحاً، وليس خافيا أن كواكب المنظومة الشمسية التسعة ليست على بعد واحد، ولا تدور على مستوى واحد، بل تختلف مداراتها من دون أن تتقاطع أو تتداخل، وكل منها له شكل بيضاوي (إهليلجي) له بؤرتان تحتل الشمس مكان إحداهما، بينما يدور الكوكب على المحيط الخارجي (7) مأسوراً بقوى الجاذبية نحو الشمس، ولا يستطيع فكاكاً عن المدار، وهذا ما يفسره القرآن الكريم بقوله - تعالى -: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} ( يس40)·

ونظراً لاختلاف أبعادها وسرعة دورانها، يحدث أحيانا وجود واحد منها أو أكثر، على خط مستقيم واحد مع الشمس والأرض، أو قرب هذا لوضع الذي يعرفه الفلكيون باصطلاح (الاقتران) (Conguncction)·(7) وفي هذا الوضع تكون قوى جذب الكواكب للأرض هي محصلة قوى متعددة، وخصوصا إذا كان الاقتران مع أكثر من كوكب واحد، وتكون هذه المحصلة أكبر ما يمكن إذا كان أحد هذه الكواكب هو كوكب واحد، وتكون هذه المحصلة أكبر ما يمكن إذا كان أحد هذه الكواكب هو كوكب المشترى (Jupiter)، لأنه أكبر الكواكب قاطبة وحجمة أكبر من حجم الأرض بـ (1331) مرة (8)، وقد حدث هذا الاقتران العام 1982م، عندما كانت كواكب الزهرة والمريخ والمتشري على استقامة واحدة مع الشمس، ووقتها حدث زلزال في اليمن بقوة (5. 9) حسب مقياس ريختر·

وبخلاف ظاهرة الاقتران فان للقمر أيضا تأثيره على الأرض، لأنه أقرب أجرام السماء إليها حيث يبلغ متوسط بعده عنها (384) ألف كيلو متر، ولكن نظراً لأن مداره حولها بيضاوياً، فإن هذا البعد ليس ثابتاً بل يختلف من يوم لآخر، ويكو أقرب ما يمكن منها عندما يكون القمر بدراً في منتصف كل شهر عربي بمقدار (50) ألف كيلو متر، ووقتئذ تكون قوة الجاذبية بينهما أكبر ما يمكن، بالطبع فإن أكثر المواد انصياعاً لهذه القوة هو الماء باعتباره أخف من اليابسة فيحدث المد ويعقبه الجزر، ولكنها تقلقل أيضا أوضاع الألواح القارية وتزيد من ميول بعضها على بعض، وتهيئ الطاقة الحبيسة في قلب الأرض إلى أعلى ومن ثم تحدث الزلازل·

 

* القمر والزلازل

المتتبع لتواريخ الزلازل الثلاثة الآسيوية التي أشرنا إليها في صورالمقال، يلحظ أنها كلها حدثت في منتصف الأشهر العربية عندما كان القمر بدراً·

وهناك إحصاءات تؤكد هذه الحقيقة خلال العقدين الأخيرين·(9) هي:

- في 12 أكتوبر العام 1992م الموافق 15 ربيع ثاني حدث زلزال في مصر بقوة (5. 2) حسب مقياس ريختر·

- في 4 يونيو العام 1993م الموافق 14 ذو الحجة حدث زلزال الكويت بقوة ثلاث درجات حسب مقياس ريختر·

- في31 يوليو العام 1993م الموافق 11 صفر حدث زلزال في خليج العقبة بقوة (4. 5) درجة حسب مقياس ريختر·

- في أول أغسطس العام 1993م الموافق 12 صفر حدث زلزال في الأردن بقوة (4. 1) درجة حسب مقياس ريختر·

- وفي اليوم عينه حدث زلزال في السودان بقوة (5. 6) درجات حسب مقياس ريختر·

- وفي اليوم التالي 3 أغسطس حدث زلزال في سيناء بقوة (5. 1) درجات حسب مقياس ريختر·

- في 14 يونيو العام 1995م الموافق 16محرم حدث زلزال في اليونان·

هذه التواريخ تؤكد صحة ما أوردناه من استنتاجات، وخصوصا أن ما حدث منها كان في مناطق متقاربة وأيام متتالية·

وتأثير القمر ليس قاصراً على تحريك مياه الأرض، بل يؤثر أيضاً على البشر، فيجتذب المياه التي تشكل بين (70 - 80) في المئة من جسم الإنسان، وخصوصاً في الجمجمة، وبناء عليه لاحظ العلماء النفسيون تغير المزاج (mood) لدى كثير من الناس في الأيام القمرية، وفي القرى الريفية يعرف الناس أن الهوام والحشرات والعقارب والثعابين تخرج من مكامنها في الليالي القمرية، (10)، لذلك لم يكن عبثا وقوع ثلاثة زلازل في آسيا في الليالي المقمرة (كما أوردنا في أول المقال) بل زاد من قوتها أن كوكب الزهرة (Venus)، والمشتري (Jupiter)، وزحل ( Saturn) كانت في أوضاع أقرب مايكون من وضع الاقتران مع الشمس·(11)·

 

* البركان المنتظر

في أعقاب زلزال وطوفان (تسونامي) في 26 ديسمبر العام 2004 م، توقع الخبراء الجيولوجيون في أوروبا تكراره، استنادا إلى اضطراب أحزمة الزلازل المارة قرب اليونان، وخصوصا أنها متعددة الجزر، كما توقع آخرون حدوث زلازل في صرح (سان أندرياس) الموازي لغرب أميركا الشمالية في المحيط الهادي (12)، والجدير ذكره أنه رغم أننا نعيش عصر الإنجازات التكنولوجية الباهرة التي بعثها عصر الفضاء وثورة الالكترونيات وسرعة نقل المعلومات، إلا أن التنبؤ بالزلازل لم يحرز نجاحاً، حيث لم يطلق لرصده غير قمرين صناعيين (لاجيوس 1 ولا جيوس-2) بالتعاون مع أميركا وإيطاليا، وكل منهما وضع على سطحه الخارجي نصف الكروي (426) مرآة صغيرة، لتعكس عليها أشعة الليزر من (43) محطة أرضية موزعة فوق القارات، وتجمع بياناتها في حواسب الكترونية في جامعتين أمريكيتين (13)، في محاولة لرصد الإزاحة الأفقية والرأسية في ألواح القشرة الأرضية، وقياس التباعد بينها، الذي ينذر بقرب، وقوع الزلازل·

وفي أبريل العام 2005م حذر البروفسير (راس كاس) والجيولوجي في جامعة (موناش) الاسترالية، من توقع قرب انفجار أكبر بركان على وجه الأرض، هو بركان بحيرة (توبا) الذي يقع في جزيرة (سومطرة) الأندونيسية، مستنداً في توقعه إلى أنها كانت محلاً لحدوث زلزالين متواليين خلال ثلاثة أشهر، وحيث تقع البحيرة التي تتوسط الجزيرة بسعة (90) كيلو متراً، وأشار إلى أن هذا البركان انفجر منذ (37) ألف سنة وقذف في الجو نحو (1000) كيلو متر مكعب من الرماد والحمم المشتعل، وأغرق الأرض في ظلام دامس، (14)·

 

* الحقيقة الغائبة

ما سبق أن أوردناه من حقائق جيولوجية وتكتونية وفلكية، توضح أسباب حدوث الزلازل من منطلق علمي فقط، لكن هناك أسباب أخرى هي ضرورة أن يتدبر المؤمن في حكمة الله في كل ما يحدث في الحياة، لأنه - جل وعلا - قد جعل لكل شيء سببا، وقدَّرهُ بميزان عدله وقدرته، فهو الذي يدبر كل الحياة خيرها وشرها، حلوها ومرها، مصداقا لقوله - تعالى -: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} (السجدة -5) ولقد انطلق بعضهم يتهكمون على نسبة حدوث الكوارث لأسباب إلهية غافلين عن أن كل مافي الحياة مرجعه إلى الله، وهو قدر منه - سبحانه وتعالى -، ولذلك آثرت أن أضيف إلى التحليل العلمي، نظرة إيمانية مجردة·

 

* الكارثة من منظور إيماني

سئل أحد الحكماء، هل يستطيع أحد أن يهرب من قدر اللهّ، فرد قائلا: من يهرب من قدر اللّه يذهب إلى قدر اللّه، فهو الذي قال: {··· واللّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون} (يوسف-21)·

وبعيداً عن فلسلفة الجبر والاختيار، فلنتمعن في أسباب كارثة زلزال وطوفان آسيا بتجرد إيماني، لا تلفتنا عنه أقوال العلمانييين الذين يفسرون الحياة بمقاييس مادية، فهؤلاء عقولهم في آذانهم يرددون مالا يعقلون، وفتنتهم الحياة وغفلوا عن حقيقة الموت والحساب يوم القيامة، وينطبق عليهم قول الحق- تبارك وتعالى -: {··· يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} (سورة الروم -7) وإذا كانت الزلازل كوارث طبيعية، فإن وراءها القدر الإلهي القائم دوماً على العدل، الذي وصف الله به نفسه في الآيات·

{إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} (يونس -44)·

{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى- 30)·

{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} (الروم - 41)·

وأهم الحقائق التي ضاعت من قاموس حياتنا، هي أن التاريخ يعيد نفسه وتتكرر احداثه فصولا، فالكوارث الطبيعية قد أهلكت من قبل أمما آخرين كانو ذوي حضارات شامخة، وكانت قدراتهم وآلياتهم ومبانيهم آية من آيات عصرهم، فبادت حضارتهم وأصبحت آثاراً، لا نرى منها غير بعضها، ومعظمها مازال تحت التراب، ولو تأملنا ذلك لوجدنا أن منهم من هلك بالصواعق ومنهم من هلك بالطوفان بالزلازل أو بالرياح·

{ألم تر كيف فعل ربك بعاد· إرم ذات العماد· التي لم يخلق مثلها في البلاد· وثمود الذين جابوا الصخر بالواد· وفرعون ذي الأوتاد· الذين طغوا في البلاد· فأكثروا فيها الفساد· فصب عليهم ربك سوط عذاب· إن ربك لبالمرصاد} (الفجر: 6-14)·

إن علينا أن نتفكر لماذا هلكت هذه الأمم التي ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن لنجد أن السبب كان واحدا لم يتغير، فالمفسدون في كل العصور على شاكلة واحدة، وهم السواد الأعظم الذين يبارزون الله بالمعاصي، ويرفعون رايات إنكار ما جاء به الحكماء والأنبياء والرسل، وهم الذين ينطلقون مسعورين وراء الشهوات، ويغرقون أنفسهم وذويهم في صور من الترف والاستمتاع في غفلة عن حقوق الآخرين وحق مجتمعهم عليهم، وهم الذين وصفهم الله بقوله: {واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين· وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (هود: 116 -117)

وفي كل العصور ميزان العدل الإلهي واضح، فلا يقع عقاب إلا بعد ما يتجاوز المترفون والفاسقون والظالمون المدى، مصداقاً لقوله - تعالى -: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}(الإسراء -16)·

 

* عولمة الفساد

وفي عصرنا الذي تغيرت فيه معطيات المعرفة، وأصبحت فيه الكرة الأرضية قرية صغيرة، تنتقل فيها المعلومات بسرعة الضوء، كان لابد أن يرتدي شياطين الجن والأنس أثوابا جديدة، ليخدعوا الجماهير اللاهية التي ينطلق أغلبها وراء الشهوات واللذات، لكي يخلطوا لهم الحق بالباطل بمسميات براقة، وبزخرف من القول وزوراً، فالزنا أصبح ممارسة للحب، والخمور أصبحت مشروبات روحية، والخيانة الزوجية صارت تصرفا خارج مؤسسة الزواج، والشذوذ الجنسي يطلق عليه علاج نقص بيوليوجي بين المثليين، والدعارة المنظمة كتجارة تعرف بأنها أقدم مهنة في التاريخ، بينما الإيمان بالله وبالحساب يوم القيامة ينعت بأنه اعتقاد ديني وراء الطبيعة!

{يخادعون اللّه والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} (البقرة-9)·

غير أن أبشع ما تسوقه الشياطين، هو هدم كيان الأسرة، الذي قامت عليه المجتمعات الصالحة منذ فجر التاريخ، بالترابط والتعاطف والمودة والرحمة:

{إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (سورة النحل - 90)·

فقد تحولت علاقة الزواج وفقاً للنمط الغربي السائد في معظم المجتمعات، إلى متعة عارضة تُمارس كما تفعل الحيوانات، وأصبح السائد في الثقافة الغربية هو ترك الفتاة لمنزل الأسرة للإقامة مع الصديق (Boy friend) للاستمتاع بالحرية الشخصية·

وقد أثمرت هذه الحرية جيلا من العاقين للآباء والأمهات، وبعد أجيال قليلة سيودع العالم نعش الأسرة التي كانت منذ بدء الخليقة أول لبنات المحبة والتكافل والتراحم·

وبذلك حولت الشياطين أصنام الماضي التي كانت تنحت من الحجر، وأقاموا بدلا منها أصنام الجنس وحب المال، وأقاموا معابدها في أسواق النخاسة وعلب الليل ونوادي المتعة، واصطنعوا وسائط دعاية لتدق طبول الإغراء بمسابقات الجمال، ومعارض أزياء عارية أكثر منها كاسية ومستعمرات للعري باسم الحرية الشخصية، وتكلفت السينما والصحافة الصفراء والقنوات الفضائية والإنترنت، بالتسويق لثقافة العري وإظهار المفاتن والرقص (والفيديو كليب)، وبذلك حقق الشيطان أهم غاياته التي أعلنها منذ أغرى آدم وحواء، وهبط بهما من الجنة:

{لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاَ}(الإسراء -62) أي لأقودنهم كما تقاد الدواب باللجام من أفواهها (الحنك هو الفم) (15)· وهكذا اختفى الرق الذي كان قائما على استعباد الإنسان الأبيض للإنسان الأسود، وأصبح الاسترقاق في صور أخرى، منها المتاجرة في أعراض الفقيرات، واستغلال القاصرات والغلمان واليتامى لممارسة الشذوذ، وبيع أعضاء الأجساد للمرضى الأثرياء، وإدارة دواليب الصناعات الكبرى بالايدي العاملة الرخيصة التي تلهث وراء لقمة العيش في الدول النامية·

لذلك لم يصبح بدعاً أن أولى مصارف الاقتصاد العالمي أصبحت تنفق على ترسانات الأسلحة، في الدول التي يتربص ساستها لمواطن الضعف في الدول الأخرى، لتتحكم فيها عسكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً، وأصبحت ثانية المصارف تنفق على المخدرات والمسكرات، ولا يبقى إلا القليل للتنمية والإصلاح والبحث عن المعرفة، وفي خضم هذا عميت القلوب وكثر الدهريون والمنكرون لوجود الله وأصبحوا أغلبية، وآلت إليهم القيادة، وأصبحت دور العبادة لا يؤمها غير الشيوخ والكهول وذوو العاهات، بينما السواد الأعظم لا يهمهم غير أنفسهم وشهواتهم وأطماعهم، غافلون عن قدرة الله، فحق عليهم قوله:

{أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله هم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون·، أو يأخذهم في تقلبهم فما همو بمعجزين· أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم} (سورة النحل: 45-47)·

 

*غضب الله

لذلك أرى - والله أعلم - أن من تسرعوا في القول: إن الله قد صب غضبه على شعوب شرق آسيا بزلزال وطوفان (تسونامي) قد جانبهم الصواب، كما جانب الذين قالوا: أنها علامات الساعة التي لا يعلم موعدها غير الله، ذلك أن الانفلات الخلقي والفساد والظلم وإنكار وجود الإله في المجتمعات الأوروبية والأميركية، أكثر أضعافاً مضاعفة مما في الدول التي حلت بها الكارثة، والحقيقة الخافية عمن قالوا ذلك، هي أن الله يختص برحمته من يشاء وبعذابه من يشاء: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} (القصص -68)

وهو يضرب الأمثال للناس مصداقا لقوله - تعالى -: {وضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل -112)

وهذه الكوارث ليست سوى إشارات إلهية إلى بعض الخاصة، لكي يرتدع الجميع ويتعظ من يفهمون أو يتدبرون، مصداقا لما في الآيات: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (واعلموا أن اللّه شديد العقاب} (الأنفال-25)· {ويضرب اللّه الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} (إبراهيم -25) {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت -43)

لذلك ليس بمستبعد أن ما أصاب آسيا بالأمس، قد يصيب أماكن أخرى من العالم في الغد، فاللّه يُذَكِّر عباده بقدرته كلما انفلت عيارهم، بقوله: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}·(النحل -26)

 

* إشارات إلهية

في خضم نتائج كارثة آسيا لابد أن نتوقف أمام إشارت إلهية، تعبر في صمت عن قدرته - تعالى -ليلفت أنظار المؤمنين إليها، والعاقل من يعي ويتعظ، وبعض هذه الإشارات هي:

* أن توقت الكارثة صبيحة يوم 26 ديسمبر، أي غداة عيد الميلاد عند الغربيين، وهو موسم تُفتح فيه أبواب المعاصي بجميع ألوانها على مصاريعها! ·

*  نجا طفل رضيع ظل طافيا على فراشه ساعات عدة، وآخر قذفت به الأمواج فوق سطح منزل تقوض بنيانه، وشيخ ظل معلقاً على فرع شجرة أياماً عدة لايقتات إلا على ثمار جوز الهند، ونجت معظم حيوانات حدائق الحيوان من الهلاك، ألا يذكرنا هذا بقول مأثور: (لولا شيوخ رُكّعُ وأطفال رُضَّع، وبهائم رُتَّع، لصب اللّه العذاب على الأرض صبا)·

*  نجت القاعدة البحرية الأميركية (دييجو جارسيا) في المحيط الهندي من الطوفان وعليها ما نحواً من (3000) شخص، لأنها أقيمت بأسلوب علمي فوق جرف بعيد عن مسارات (تسونامي)، لأن عدالة اللّه يوضحها قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ماسعى} (النجم (39)·

* ظلت قبة مسجد في أندونيسيا قائمة، وسط دمار وخراب شمل كل ماحوله، لتذكرنا بقول جد الرسول [لأصحاب الفيل (إن للبيت رباً يحميه)·

 

------------------------------------------------

* الهوامش

1- مجلة مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم (السعودية) ع 32 مارس 1995 ·

2- سعد شعبان (الفضاء عصرنا) الهيئة المصرية للكتاب - 2000 ص187 ·

3- مجلة العلوم (مؤسسة التقدم العلمي) الكويت- ع6 /7يوليو 2004 ص 43 ·

4- سعد شعبان (نافذة على الفضاء) الهيئة المصرية للكتاب - 1993 ص 409 5- سعد شعبان (المرجع السابق) ص 411 ·

6 - سعد شعبان (أعماق الكون) مكتبة الفلاح - الكويت - ط4 -ص 163 ·

7 - سعد شعبان (حدث في الفضاء) الهيئة المصرية للكتاب - 1993 - ص 385 ·

8 - سعد شعبان (أعماق الكون) المرجع السابق ص 24 ·

9 - سعد شعبان (حدث في الفضاء) مرجع سابق - ص 388 ·

10 - سعد شعبان مرجع سابق - ص 389 ·

11 - محمد مطر (مجلة العلم) أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا - القاهرة ع 341 - فبراير 2005 - ص 42 ·

12 - الشرق الأوسط - لندن - في 30 ديسمبر 2004 ·

13- سعد شعبان (حدث في الفضاء) مرجع سابق - ص 284 ·

14- الشرق الأوسط - لندن في 2005/4/2 ·

15 - حسنين مخلوف - صفوة البيان لمعاني القرآن - دولة الإمارات - 1981 ·

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply