العيد والأضحية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم يغفر لكم، وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.

 

عباد الله: في هذه الساعة المباركة يجتمع الحجيج في صعيد عرفات، وما هي إلا لحظات ويدخل وقت الظهر، ويبدأ وقت الوقوف فترى الجموع من الحجيج وقد تذللوا لله خالقهم، وقفوا لمناجاته وسؤاله وقد انطرحوا بين يديه سائلين مستغفرين، فلا ترى إلا الوجوه الخاشعة والأيدي المرتفعة والعبرات المسبلة، ولا تسمع إلا أنات المنيبين وزفرات التائبين وابتهالات المستعطفين، رفعوا أكفهم لمولاهم، وسألوه بلا واسطة ولا معين، وأفاضوا في سؤال ربهم من صلاح الدنيا والدين، وطلب عاقبة المتقين، فيا سعدهم، وهنيئاً لهم شهود هذا الموقف العظيم.

 

اللهم يا رحمن يا رحيم تقبل من الحجيج دعاءهم وأعمالهم وحقق مرادهم، وأعنهم على أمور مناسكهم واخلف علينا بخير وأشركنا معهم في الأجر، فكم من مسلم عزم على الحج وتمناه، ولكن منعه العذر، ورجا من الله الخلف والأجر.

 

عباد الله، لئن كنا ممن لم يحظ بالحج وأداء المناسك، فإن الله - سبحانه - وهو الكريم الرحمن الحكيم المنان واسع العطاء ومجزل الإحسان، قد شرع لنا من العبادات والأعمال الصالحة في هذه الأيام ما تقر به أعين المؤمنين وتسلو به أفئدة المتقين.

 

فنحن اليوم في يوم عرفة، هذا اليوم العظيم والمشهد الكريم الذي سئل النبي – صلى الله عليه وسلم - عن صيامه فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) مسلم.

 

فأكثروا رحمكم الله من الاستغفار والتوبة والذكر والتكبير في هذا اليوم ولا سيما في آخر ساعة منه فقد اجتمع في هذا اليوم شرفان، فهو يوم عرفة ويوم الجمعة، وقد علمتم أن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه.

 

أما يوم غد فإنه من أفضل أيام العام بل قال بعض العلماء: إنه أفضل الأيام على الإطلاق لقوله: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر)) أبو داود بسند جيد، وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد ويذبحون أضاحيهم ويكبرون ويحمدون.

 

فحق لهذا اليوم أن تكون له مزيته وشرفه، فلنحمد الله على هذه النعمة ولنجدد الشكر له - جل وعلا -، واعلموا رحمكم الله أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في هذا اليوم وفي يوم العيد وأيام التشريق، فهي أيام ذكر وشكر كما قال - سبحانه -: "وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالحَجّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ, يَأتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ, لّيَشهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَّعلُومَـاتٍ, عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الأنعَامِ" [الحج: 27، 28]، ولقوله - سبحانه -: "وَاذكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ, مَّعدُوداتٍ," [البقرة: 203]، ولم يرد للتكبير صفة محددة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، لكن روي عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: الله أكبر الله، أكبر الله أكبر كبيراً.

 

ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره.

 

أما العيد والفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس قال: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم - ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: ((قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر ويوم الفطر)) أحمد وأبو داود والنسائي.

 

قال بعض أهل العلم ـ أحمد البنا الساعاتي ـ: لأن يومي الفطر والنحر بتشريع الله - تعالى -واختياره لخلقه، ولأنهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما الحج والصيام، وفيهما يغفر الله للحجاج والصائمين وينشر رحمته على جميع خلقه الطائعين، أما سائر الأعياد فإنما هي باختيار الناس ووضع حكمائهم وكبرائهم. ولذا فإنه ليس للمسلمين إلا هذان العيدان ومن أحدث غيرهما فقد شاق الله ورسوله.

 

ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال.

 

وذهب جمع من المحققين إلى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: صلاة العيد واجبة على الأعيان، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير. ا. هـ.

 

ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: صلاة العيد فرض عين على الرجال على القول الراجح من أقوال أهل العلمº لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمر بها وواظب عليها حتى أمر النساء العواتق وذوات الخدور والحيض بالخروج إليها وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى. ا. هـ.

 

أما سماع الخطبة في العيد فهو مستحب غير واجب، لما ورد عن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) أبو داود والنسائي وهو صحيح.

 

ويستحب في عيد الأضحى أن لا يأكل إلا بعد صلاة العيد ليأكل من أضحيته، وهذا هديه، قال ابن القيم: وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته.

 

ويستحب للمصلي يوم العيد أن يأتي من طريق ويعود من طريق آخر اقتداءاً بالنبي – صلى الله عليه وسلم - فعن جابر قال: (كان النبي – صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق) البخاري.

 

ويستحب له الخروج ماشياً إن تيسر، ويكثر من التكبير حتى يحضر الإمام.

 

عباد الله: أيام العيد ليست أيام لهو ولعب وغفلة، بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة ولا يعرف لها حداً، ومن تلك العبادات التي يحبها الله - تعالى -ويرضاها صلة الأرحام وزيارة الأقارب وترك التباغض والتحاسد، والعطف على المساكين والأيتام، وإدخال السرور على الأهل والعيال، ومواساة الفقراء وتفقد المحتاجين من الأقارب والجيران.

 

ومن شعائر يوم العيد ذبح الأضاحي تقرباً إلى الله - عز وجل - لقوله - سبحانه -: "فَصَلّ لِرَبّكَ وَانحَر" [الكوثر: 2]، وذبح الهدايا والأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة ومن العبادات المشروعة في كل الملل، يقول - سبحانه -: "وَلِكُلّ أُمَّةٍ, جَعَلنَا مَنسَكًا لّيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الانعَـامِ" [الحج: 34]، قال ابن كثير - رحمه الله -: يخبر - تعالى -أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. ويقول - سبحانه -: "وَالبُدنَ جَعَلنَـاهَا لَكُم مّن شَعَـائِرِ اللَّهِ لَكُم فِيهَا خَيرٌ فَاذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا القَـانِعَ وَالمُعتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرنَـاهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ" [الحج: 36]، فقد امتن - سبحانه - على عباده بما خلق لهم من البدن وبهيمة الأنعام وجعلها من شعائره.

 

ثم بين - سبحانه - الحكمة من ذبح الأضاحي والهدايا بقوله: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُم لِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَبَشّرِ المُحسِنِينَ" [الحج: 37]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "يقول - تعالى -: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فإنه - تعالى -هو الغني عما سواه، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها، فقال - تعالى -: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا"ا. هـ.

 

وقال السعدي - رحمه الله -: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب والنية الصالحة، ولهذا قال: "وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم"، ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشر الذي لا لُب فيه، والجسد الذي لا روح فيه. ا.هـ.

 

ولذا كان على المسلم أن يستشعر في ذبح الأضاحي التقرب والإخلاص لله - تعالى -بعيداً عن الرياء والسمعة والمباهاة، وامتثالاً لقوله - سبحانه -: "قُل إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَاي وَمَمَاتِي للَّهِ رَبّ العَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ" [الأنعام: 163].

 

ثم ليعلم إنه بذبحه الأضاحي يؤدي شعيرة من شعائر الله التي يجب تعظيمها واحترامها لقوله - سبحانه -: "وَمَن يُعَظّم شَعَـائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ" [الحج: 32]، وقوله - سبحانه -: "وَمَن يُعَظّم حُرُمَـاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ" [الحج: 30]، ففي تعظيم أحكام الله وحرماته الثواب الجزيل والخير في الدنيا والآخرة، ومن تعظيمها محبة أدائها واستشعار العبودية فيها وعدم التثاقل أو التهاون بها، ومن ذلك العناية بتنفيذ الوصايا التي أوصى بها من سلف من الآباء والأجداد والأقارب، فيجب على الوصي العناية بها وأداؤها كما أوصى بها أربابها والحذر من التبديل والتغيير فيها لقوله - سبحانه -: "فَمَن بَدَّلَهُ بَعدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 181].

 

وذبح الأضحية مشروع بإجماع العلماء، وصرح البعض منهم بوجوبها على القادر، وجمهور العلماء على أنها سنة مؤكدة يكره للقادر تركها.

 

وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، حتى ولو زاد عن قيمتها، وذلك لأن الذبح وإراقة الدم مقصود، فهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال - سبحانه -: "فَصَلّ لِرَبّكَ وَانحَر"، وعليه عمل النبي والمسلمين، ولو كانت الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.

 

وقد ذكر أهل العلم إن الأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافاً لما يظنه البعض من العامة من أن الأضحية خاصة بالأموات، أما لو ضحى عن الأموات تبرعاً منه أو أشركهم معه في أضحيته، فهو جائز.

 

أما الأضاحي الموصى بها فيجب تنفيذها دون تبديل أو تغيير.

 

وللأضحية شروط لا بد من توفرها، منها السلامة من العيوب التي وردت في السنة، وقد بين العلماء هذه العيوب مفصلة، ومن شروطها أن يكون الذبح في الوقت المحدد له، وهو من انتهاء صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر، والمقام لا يسع للتفصيل في ذلك.

 

فلنتق الله أيها المؤمنون، ولنعظم شعائر الله كما أمرنا، ففي تعظيمها الخير والتقوى.

 

اللهم مُنَّ علينا بقبول الأعمال ووفقنا للصالح من الأقوال والأفعال وارزقنا التوبة والاستعداد ليوم المآل إنك أنت العزيز الحكيم المتعال.

 

الخطبة الثانية:

 أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون، فمن اتقى الله - تعالى -نجا، ومن التجأ إليه فاز.

 

عباد الله، إن كان لعشر ذي الحجة من الفضل ما قد علمتم فإن لأيام التشريق فضلها ومكانتها، فهي الأيام المعدودات التي أمرنا بذكر الله فيها كما قال - سبحانه -: "وَاذكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ, مَّعدُوداتٍ," كما رواه البخاري عن ابن عباس، وهي من المواسم الفاضلة والأيام العظيمة كما قال النبي: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)) مسلم.

 

وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم العيد، وقد ورد النهي عن صيامها، فينبغي لنا اغتنامها بالذكر والتكبير، وأن لا نقتصر على الأكل والشرب فحسب، وما أجمل أن يتعاهد المسلم حق ربه وأن يكثر من ذكره في جميع أوقاته ولا ينسى ذلك حال تمتعه بالأكل والشرب والنزهة.

 

وعوداً على بدء نسأل الله - سبحانه - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ييسر للحجيج حجهم، وأن يشملنا معهم بمنه وكرمه ومغفرته وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين، كما نسأله - سبحانه - أن لا يحرمنا من فضله فهو - سبحانه - أهل الفضل والإحسان يقبل اليسير من العمل الصالح ويتجاوز عن الكثير من الخطايا والذنوب، اللهم تقبل ضحايانا وقرابيننا واجعلها لوجهك خالصة، اللهم اجعلنا لك من الذاكرين ولنعمك من الشاكرين ولجناتك من الداخلين، اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا، والطف بأمة نبيك محمد، فقد أحاطت بها الكروب وأحدقت بها الخطوب وتداعى عليها كل كافر حاقد ومنافق غلوب، فاللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى نفوسنا طرفة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply