بين يدي عشر ذي الحجة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الخطبة الأولى:

 أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك و-تعالى-، وتداركوا بالتوبة النصوح ما فرطتم فيه وأضعتم، إن الله تبارك و-تعالى- جلت قدرته وحكمته قد خلقكم لعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، فاسلكوا مسالك الاعتبار وانتظروا قبل أن لا ينفع الإنذار، وتذكروا قول الناصح الأمين "يا قَومِ إِنَّمَا هَـذِهِ الحَيَاةُ الدٌّنيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِي دَارُ القَـرَارِ"(غافر:39)

ما لكم عباد الله لا تتعظون بموت الأقران، ولا تتذكرون مواعظ القرآن، والزمان يسير بكم سيراً خفيفاً، ولسان العبر يتلو عليكم الأخبار كل يوم حديثاً، ألا وإنكم في استقبال عشر أقسم الله بلياليها بالكتاب، فأين المسارعون إلى صيامها وقيامها والمتسابقون إلى الأعمال الصالحة واغتنامها، أما آن لكم أن تعملوا بمقتضى الإيمان، أما آن لكم أن تردوا بالصدقات والإحسان موارد الغفران، أما آن لكم أن تقيدوا الأقدام عن الآثام، أما لكم أن تكفوا عما لا يحل من الحرام، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى لله عليه وسلم- قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام فقالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء))[1]، فيستحب فيها الإكثار من العبادات كذكر الله -تعالى- والصلاة والصيام والصدقة، وقد كان سلفكم الصالح رضوان الله عليهم يعظمون ثلاث عشرات: عشر ذي الحجة، والأواخر من شهر رمضان، والعشر الأول من شهر الله المحرم[2]، ودل على استحباب كثرة الذكر في هذه الأيام العشر قول الله -تبارك وتعالى-: "لّيَشهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَّعلُومَـاتٍ,"[الحج:38]، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر من ذي الحجة ومن أيام العشر يوم عرفة، وهو يوم عيد عند أهل الموقف، أكمل الله -تبارك وتعالى- به الدين، وأنزل قوله -عز وجل-: "اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلاَمَ دِيناً"[المائدة:3]، وهو يوم مغرفة للذنوب والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء))(3).

ويستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده))[4]، ويستحب لأهل الموقف الإفطار لأنهم ضيوف الرحمن، والكريم لا يجيع أضيافه.

أيها المؤمنون: في الوقت الذي أوشكت فيه أمريكا وبريطانيا على الانتهاء من استعداداتهما العسكرية وحشد قواتهما البرية والبحرية في مياه المحيط العربي وفي القواعد الأمريكية الموجودة في أكثر من دولة عربية وإسلامية محيطة بالعراق تمهيداً لشن هجوم وحشي بربري للسيطرة على العراق واقتسامه ونهب ثرواته، وإيجاد موطئ قدم لضرب دول مجاورة معادية للسياسة الأمريكية، في هذا الوقت يجد العراق الشقيق نفسه وحيداً في مواجهة الهجمة الصليبية الحاقدة التي تتزعمها الإدارة الأمريكية، بعد أن خيب الأشقاء العرب ظنهم في محنتهم من خلال مؤتمر وزراء خارجية دول عربية وإسلامية عقد في استنبول الأسبوع الماضي، ولا غرابة في ذلك، فالدول التي شاركت في هذا المؤتمر بعضها يوجد في أراضيها قواعد عسكرية، وبعضها الآخر يقيم علاقات استراتيجية، وآخرين لهم علاقات دبلوماسية، فمن البدهي أن تصدر القرارات ذراً للرماد في العيون ولرفع العتب بعد أن أحرجت هذه الدول من مواقف جادة في رفضها للعدوان الأمريكي كفرنسا وألمانيا والصين.

والأنكى من ذلك أن القرارات صدرت محذرة العراق بضرورة الالتزام بقرار ما يسمى مجلس الأمن لنزع أسلحة الدمار الشامل.

إن غياب دولة الإسلام جعل من دول الكفر قوة تتكالب من خلالها على أمتنا، إن إسلامنا العظيم وأمتنا الإسلامية ودولة الإسلام كانت ترد الصاع صاعين لكل من يحاول أن يستبيح حرمات المسلمين أو يعتدي على أراضيهم أو يمس كرامتهم أو ينهب ثرواتهم.

تناسى زعماؤكم في هذه الأيام صرخة المعتصم، وتناسوا صرخة السلطان قطز، تناسى زعماء العرب اليوم الانتصارات العظيمة التي حققها سلفنا الصالح في اليرموك والقادسية وحطين، لماذا هذا الوهن يا مسلمون! لماذا هذا الذل والهوان والمسكنة والتبعية! ألم يسمع زعماء الأمة عن التقارير التي تتحدث عن آثار العدوان الأمريكي الغاشم على العراق والويلات التي ستلحق بالشعب العراقي المسلم! ألا يستحق الشعب العراقي المسلم من الأمة وقفة جادة بدل الحديث من أنه قد فات الأوان وأن ضرب العراق أصبح مجرد وقت!

أيها المسلمون، ليس حالنا بأفضل حال من العراق الصامد، فها هي حرب التصفية والقتل وهدم المنازل بشكل لم يعهد التاريخ له مثيلاً، كل ذلك ضد شعبنا الفلسطيني المسلم في الضفة الغربية وقطاع غزة دون هوادة أو رحمة.

وها هي الانتخابات الإسرائيلية قد أسفرت عن فوز اليمين المتطرف وبروز أحزاب يمينية متطرفة أخرى، رغم قناعاتنا وتأكيداتنا السابقة أن الأحزاب الإسرائيلية على اختلاف مسمياتها تنطلق من مفهوم معادٍ, للإسلام والمسلمين، وأن استمرار فوزهم فيه دعوة صريحة لاستمرار الاحتلال وتهويد الأرض وطمس الهوية الإسلامية ومزيد الشقاء والمعاناة لشعبنا الفلسطيني، لك الله يا شعب العراق، لك الله يا شعب فلسطين، لكم الله في وقت عز فيه الرجال، لكم الله في وقت انغمس فيه حكامكم في الشهوات والملذات والدنيا الفانية.

اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين.

عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك و-تعالى-، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وجعل لكل أمة منسكاً وأجلاً مسمى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه الذين آتيتهم من لدنك علماً.

أما بعد: اعلموا يا عباد الله أننا الآن في حالة هي من أمس الأوقات إلى أن نصطلح مع الله، أن نعود إلى الله -تبارك وتعالى-، إلى صاحب القوة والعظمة، فأحوالنا لا ترضي الله، انتشر الفساد في مجتمعنا، صار المال بين الناس يسلب سلباً وينهب نهباً، منعنا الزكاة، ونظرنا إليها على أنها خسارة، أكلنا الأمانات، وساءت المعاملات بين الولد ووالديه وبخاصة عقب زواجه، ماذا حدث في هذه الأيام! يطيع الرجل زوجته، ويعق والديه، يكرم الرجل مخافة شره، ترف وإسراف وتبذير، شرب للخمر ولعب للقمار وسماع لآلات الطرب والمعازف والموسيقى، رشاوى تفتك بالمجتمع، نساء كاسيات عاريات.

كم حذرنا من فساد الشباب والبنات، في المدارس شباب لا يعرفون الله، علماء لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، كيف سيكتب لنا النصر وأحوالنا كما ترون، أحوالنا يرثى لها، وبنفس الوقت نريد النصر، فإذا أردتم النصر يا عباد الله فعودوا إلى الله، عودوا إلى كتابه، وطبقوا أحكامه، فقد تكفل الله -عز وجل- بنصركم فقال -سبحانه-: وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنينَ[الروم:47]، يقول الله -عز وجل- في محكم التنـزيل: "فَكُلاًّ أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِباً وَمِنهُم مَّن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَّن خَسَفنَا بِهِ الأرضَ وَمِنهُم مَّن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ"(العنكبوت:40).

انظروا أيها المؤمنون لهذا النص الكريم، هذا المثل الإلهي في سورة العنكبوت، وهل هناك أضعف من خيوط العنكبوت؟ لماذا لم تذكر هذه الآية في سورة أخرى من سور القرآن؟ لماذا لم تذكر في سورة الأنفال أو سورة القتال مثلاً؟ إن الله ذكر هذه المصارع في سورة العنكبوت بالذات ليعلن للبشرية جميعاً أن الذي يعتمد على الله لا تهمه أي قوة مهما بلغ حجمها لأن الله يملك قوة لا تضارعها قوة، أما الذي يتوكل على غير الله فقد اعتمد على خيوط العنكبوت "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَولِيَاء كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَت بَيتاً وَإِنَّ أَوهَنَ البُيُوتِ لَبَيتُ العَنكَبُوتِ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ"[العنكبوت:41]، كل من يعتمد على غير الله فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً.

ولذلك فإن نبي الله موسى -عليه السلام- قال لله: يا رب ماذا تقول للعبد إذا قال: يا رب، وهو راكع؟ قال له مولانا -تبارك وتعالى-: أقول له: لبيك يا عبدي، قال موسى: فإذا قال العبد: يا رب وهو ساجد؟ قال الله: أقول له: لبيك يا عبدي، قال له موسى: فإذا قال: يا رب وهو عاصٍ,؟ قال الله -عز وجل-: لبيك لبيك لبيك يا عبدي، يا موسى ما أحبني من أحب المال، وما أحبني من أحب الدنيا، يا موسى ما خافني من خاف الخلق، وما توكل علي من خاف فوات الرزق، وعزتي وجلالي ما توكل علي عبد إلا كفيته، وبيدي مفاتح الملك والملكوت، وما اعتمد علي عبد إلا أدخلته الجنة وكفيته كل مهمة، ومن اعتصم بغيري أُسخط الأرض من تحته وقطعته الأسباب من فوقه، ولا أبالي كيف أهلكته.

يا موسى خمس كلمات ختمت لك بهن التوراة، إن عملت بهن نفعك العلم كله: الأولى: كن واثقاً من رزق مضمون لك ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تنفد أبداً.

الثانية: لا تخف ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني دائم لا يزول أبداً.

الثالثة: لا ترى عيب غيرك ما دام فيك عيب، والمرء لا يخلو من عيب أبداً.

الرابعة: لا تدع محاربة الشيطان ما دامت روحك في بدنك، فإنه لا يدع محاربتك أبداً.

الخامسة: لا تأمن من مكري حتى ترى نفسك في الجنة، وفي الجنة أصاب آدم ما أصاب فلا تأمن مكري أبداً.

اسمعوا ماذا قال موسى -عليه السلام- لبني إسرائيل قال لهم: يا بني إسرائيل سيأتي عليكم زمان تقاتلون قوماً وتنصرون عليهم، واعلموا أنكم لا تنصرون لأنكم صلحاء، بل أنتم يومئذ مفسدون، ولكنكم تنصرون عليهم لأنهم سيكونون أشد منكم فساداً، إن الله -تعالى- جعل الأتقياء فإذا لم يكن هناك أتقياء فإن نصر الله يكون للأقوياء(5).

ونحن اليوم وللأسف الشديد لا تقوى ولا قوة، ولذلك ضاعت الأرض بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وضيعنا كل شيء لأننا نحارب الله، كفوا عن حرب الله فإن الله قادر عليكم "أَءمِنتُم مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَم أَمِنتُم مّن فِى السَّمَاء أَن يُرسِلَ عَلَيكُم حَـاصِباً فَسَتَعلَمُونَ كَيفَ نَذِيرِ وَلَقَد كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَكَيفَ كَانَ نكِيرِ" [الملك:16-18[.

كفوا عن معصية الله يا أيتها الآذان التي تكره سماع الحق، ويا أيتها القلوب الحاقدة على الإسلام والمسلمين اعلموا أن الله شديد العقاب، تذكروا أن الله أهلك من هو أشد منكم قوة وأكثر جمعاً، كفاكم غطرسة واستكباراً في الأرض، تذكروا أن الله قد أهلك أبرهة الأشرم وجنوده، أهلكهم بسرب من سلاح إلهي، لم يكن هذا السرب من طراز الطيران الروسي ولا الأمريكي ولا الفرنسي إنما كان من صنع الله الذي يقول للشيء كُن فَيَكُونُ[البقرة: 117]، ماذا كان يحمل ذلك السلاح يومها، لم يكن يحمل القنابل الذرية ولا النووية ولا الهيدروجينية ولا الأسلحة البيئية ولا الأسلحة الكيماوية، إنما كان يحمل قنابل صنعت في نار جهنم، جرت إلى أرض المعركة. من الذي كان يقودها يومئذ؟ من هم الطيارون الذين قادوا هذه الأسراب؟ وفي أي الكليات تخرجوا؟ سبحان الله كيف يصفى الحساب مع كل جبار عنيد.

سبحانك يا الله، يوم قال فرعون يوم قال للناس: "أَنَا رَبٌّكُمُ الأَعلَى[النازعات:24]، ويوم قال: "أَلَيسَ لِي مُلكُ مِصرَ وَهَـذِهِ الأَنهَـارُ تَجرِى مِن تَحتِى"[الزخرف:51]، فماذا أرسلت له عندما قال ذلك؟ كيف جعلت الأنهار تجري من فوقه! لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

أيها المؤمنون، أما آن للقلوب أن تخشع، أما آن للآذان أن تسمع، أما آن للعيون أن تدمع، أما آن للأجساد أن تسجد لله وتركع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[1] أخرجه البخاري في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (969).

[2] تعظيم عشر رمضان وعشر ذي الحجة ثابت ومعلوم، وأما عشر محرم فلا دليل عليه، وقد أمرنا بصيام التاسع والعاشر منه.

[3] أخرجه مسلم في: الحج، باب: فضل الحج والعمرة (1348).

[4] أخرجـه مسلم في: الصيام (1162).

[5] لم أجد الأثر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply