مذاهب أهل العلم في صيام ستة شوال


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الإكثار من النوافل يجبر الفرض ويحبِّب الرب في العبد، سيما السنن الرواتب، وصيام الهواجر، والصدقة التي تطفئ غضب الرب: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه".

أول ما يحاسب به العبد بعد موته الصلاة، فإن صلحت فقد فاز وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ثم ينادي المولى -عز وجل-: هل لعبدي من نوافل ليتم به ما انتقص من صلاته، وهكذا سائر الأعمال، كما أخبر الصادق المصدوق.

فينبغي أن يكون لكل مسلم نصيب من ذلك قل أم كثر يداوم عليه ويسارع بالامتثال إليه، لينال أجر ذلك في السفر والحضر، والصحة والمرض: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم"، كما ورد بذلك الخبر، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمة، وصح عن عائشة -رضي الله عنها- ترفعه: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، وليس هناك عمل قليل مع القبول، ولا كثير مع الرد والنكول.

وبعد..

فثواب الحسنة الحسنة بعدها، من ذلك إرشاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته بصيام ستة أيام من شوال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".

لقد اختلف أهل العلم في صيام هذه الستة من شوال، في حكمها، وكيفية صيامها، وتتابعها وتفرقها، ونحو ذلك، فما مذاهب أهل العلم في ذلك؟ وما دليل كل فريق؟ وما هو الراجح من تلكم الأقوال؟ هذا ما نريد بيانه في تلك العجالة، والله الموفق للصواب، والهادي إلى سواء الصراط، فنقول:

حكم صيام ستة شوال:

ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:

يستحب صيامها، وهذا مذهب الجمهور: الشافعي، وأحمد، وداود، وابن المبارك، وغيرهم.

يستحب إخفاء صيامها، أثِر ذلك عن مالك.

يكره صيامها حتى لا يتصل ذلك بالصيام الواجب وهو رمضان، وذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومالك.

 

أدلة المستحبين لصيامها من غير قيد ولا شرط:

استدل القائلون باستحباب صيام ستة شوال بالآتي:

بحديث أبي أيوب السابق يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عند مسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"، وقال الإمام أحمد: "هو من ثلاثة أوجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-".

روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان، شهر بعشرة أشهر، وصام ستة أيام من الفطر وذلك تمام سنة".

وهذا القول هو القول الراجح الذي يؤيده الدليل.

 

أدلة الكارهين لصيام ستة شوال:

استدل الكارهون لصيام ستة شوال، وهم مالك وأبو حنيفة ومن وافقهما، وعلل مالك ذلك بشيئين هما:

أنه لم ير أحداً من أهل الفقه يصومها.

أنه لم يبلغه عن أحد من السلف.

قال مالك في الموطأ: (وصوم ستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم في وقته كانوا يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان أهل الجفاء والجهالة ما ليس منه، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك).

وهذا قول مردود، وأجاب أهل العلم المستحبون لصيامه بأن السنة ثابتة في ذلك، ولا يمكن أن تترك سنة صحيحة لهذه التوهمات.

وعلل أبو حنيفة كراهته لصيامها مخافة التشبه بأهل الكتاب في زيادة ما أوجبه الله عليهم من الصيام، والرد عليه كالرد على مالك.

 

أقوال أهل العلم في ذلك:

قال النووي: (قال أصحابنا: يستحب صوم ستة أيام من شوال لهذا الحديث.. وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد وداود، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره صومها.

إلى أن قال: وأما قول مالك فلم أر أحداً يصومها فليس بحجة في الكراهة، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لا يضر، وقولهم لأنه قد يخفى ذلك فيعتقد وجوبه ضعيف لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم على قوله أن يكره صوم يوم عرفة، وعاشوراء، وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد).

وقال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار، والشعبي، وميمون بن مهران، وبه قال الشافعي، وكرهه مالك، وقال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه).

قال خليل في مختصره: (وكره أي مالك البيض كستة من شوال).

قال الحطاب في شرح مختصر خليل: (فكره مالك -رحمه الله- ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه عند أهل الجهالة والجفاء، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها.

إلى أن قال: وقال الشبيبي: إنما كرهها مالك مخافة أن تلحق برمضان، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها، واستحب صيامها في غير شوال لحصول المقصود من تضاعف أيامها وأيام رمضان حتى تبلغ عدة الأيام).

وقال ابن رجب الحنبلي: (فاستحب صيام ستة أيام من شوال أكثر العلماء، روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما-، وطاوس، والشعبي، وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأنكر ذلك آخرون.

روي عن الحسن البصري أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها ولعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها، وأنه لا يكتفي بصيام رمضان عنها في الوجوب، وظاهر كلامه يدل على هذا، وكرهها الثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وعلل أصحابهما ذلك بمشابهة أهل الكتاب، يعنون في الزيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليس منه، وأكثر المتأخرين من مشايخنا قالوا: لا بأس به، وعللوا بأن الفضل قد حصل بفطر العيد حكي ذلك عن صاحب "الكافي" منهم، وكان ابن مهدي عبد الرحمن لا يأمر ولا ينهى عنها، وكرهها أيضاً مالك.. وقد قيل إنه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه).8

 

صفة صيام ستة شوال:

الذين استحبوا صيامها وهم الجمهور وهو الراجح اختلفوا في صفة صومها متفرقة ومجتمعة، بعد العيد مباشرة أم يؤخر ذلك على أقوال، هي:

يستحب صيامها من أول الشهر بعد العيد متتابعة، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، واستدلوا بحديث فيه ضعف: "من صام ستة أيام من الفطر متتابعة، فكأنما صام السنة".

لا فرق بين تتابعها وتفرقها في الشهر كله، وهذا مذهب وكيع وأحمد.

لا تصام بعد العيد مباشرة، فإنها أيام أكل وشرب، ولكن بعد ذلك، وهذا قول عطاء.

القول الراجح والله أعلم أن الأمر فيه سعة، فمن صامها بعد العيد مباشرة فله ذلك، ومن أخرها فله ذلك، ومن تابع بينها فله ذلك، ومن فرَّق بينها فله ذلك، وإن كان التعجيل والتتابع أفضل.

قال النووي: (قالوا: ويستحب أن يصومها متتابعة في أول شوال، فإن فرقها أو أخرها عن أول شوال جاز، وكان فاعلاً لأصل هذه السنة لعموم الحديث وإطلاقه، وبه قال أحمد وداود).

وقال الترمذي: (واستحب ابن المبارك أن يكون ستة أيام من أول الشهر، وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقة فهو جائز).

وقال ابن قدامة: (وإذا ثبت هذا أي صيامها فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة، في أول الشهر أوفي آخره، لأن الحديث ورد بها مطلقاً من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوماً، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوماً، وهي السَّنة كلها، فإذا وُجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا معنى يحصل مع التفريق، والله أعلم). 12

وقال ابن رجب: (وأكثر العلمـاء على أنه لا يكـره صيام ثاني يوم الفطر، ودل عليه حديث عمران بن الحصين: "إذا أفطرتَ فصم"13). 14

 

من كان عليه قضاء قدمه على ستة شوال:

من كان عليه قضاء فليعجل بقضائه، وعليه أن لا يقدم صيام ستة شوال عليه، ولو شغل قضاؤه شوال كله، فدين الله أحق بالأداء، وإذا مات العبد سئل عن القضاء إذا فرَّط فيه ولم يُسأل عن ستة شوال، بل الأجر في صيام ستة شوال مترتب على إتمام رمضان.

روي عن أم سلمة أنها كانت تقول لأهلها: من كان عليه رمضان فليصمه الغد من الفطر.

 

قضاء ستة شوال لمن لم يستطع صيامها في شوال أو غيره:

من لم يتمكن من صيام ستة شوال في شوال، لقضاء أو غيره، فله إن شاء أن يقضي ذلك في غيره من الشهور، خاصة إن كان مواظباً على صيامها قياساً على قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصيام بعض الأيام البيض والاثنين والخميس في شعبان، وعملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، الحديث.

والله الموفق للخيرات، وله الحمد في جميع الحالات، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعباد، في الحياة وبعد الممات.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

علة كراهة صيام ست من شوال عند المالكية

-

احمد الدردير

06:14:50 2020-05-25

الإمام مالك رضي الله عنه كان عنده عمل أهل المدينة مقدم على احاديث الاحاد وهو مصدر تفرد به الإمام مالك رضي الله عنه عن بقية الفقهاء الآخرون