الشعر - حقيقته - وسائل البراعة فيه - الارتياح له - تحلي العلماء به - التجديد فيه4/5


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في العلماء من يلذ استطلاع الحقائق إلى حد أن يستغرق أوقاته في البحث العلمي ويرغب عن أن يصرف في صناعة الشعر أو تذوّق بلاغته ولو ساعة من شهر، حكى المقري، أنه أنشد بحضرة العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، قول ابن الرومي:

 

أفنى وأعمى ذا الطبيب  بطبه *** وبـكُحلة الأحياء  والبصراء

فإذا مررت رأيت من عميانه *** جـمعاً عـلى أمـواته قرّاء

قال: فاستعادني الأبيات، حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، ثم قال: أظننت أنني استحسنت الشعر؟ إنما تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرأون على المقابر، فإني كنت أرى ذلك حديث العهد، فاستفدت التاريخ.

وفي العلماء من يأخذ الشعر البارع بمجامع قلبه، ويجد في نفسه قوةً على نظمه، فيضرب مع الشعراء بسهم، ليزين عمله بهذا الفن الجميل، وسبقُ الشعراء المتجردين للشعر وحده في هذه الحلبة، لا يثني العلماء عن تعاطيهº نظراً إلى أنه فن من فنون الأدب الجميلة، وقد يتخذ وسيلة إلى جلب خير أو دفع أذى.

والتاريخ يحدثنا أن في أعلام العربية من كانوا يجيدون صناعة القريض، كابن دريد، الذي كانوا يصفونه بأنه أعلم الشعراء وأشعر العلماء، ومن مختارات شعره الأبيات العينية التي يقول فيها:

 

ومـن لـم يزعه لبه وحياؤه *** فليس له من شيب فوديه وازع

ومثل الإمام النحوي أبي الحسين علي بن أحمد بن حمدون، ومن جيد شعره:

تـناءت ديـار قـد ألفت وجيرةٌ *** فـهل لي إلى عهد الوصال إيابُ

وفـارقت أوطاني ولم أبلغ المنى *** ودون مـرادي أبـحر وهضاب

مضى زمني والشيب حل بمغرقي *** وأبـعد شـيء أن يُـردَّ شـباب

ويحدثنا أن في رجال الفقه من يجيد التخيل، ويحسن صياغة الكلام المنظوم، كالقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي الذي قال فيه أبو العلاء المعري:

 

والمالكي ابن نصر زار في سفر *** بـلادنا فـحمدنا النأي والسفرا

إذا تـفقه أحـيا مـالكاً جـدلاً *** ويـنشر الملك الضليل إن شعرا

ومن نظم هذا القاضي:

متى تصل العطاش إلى ارتواء *** إذا اسـتقت البحار من  الركايا

ومن يثن الأصاغر عن مراد *** وقـد جلس الأكابر في الزوايا

وإنَّ تـرفّع الـوضعاء يوما *** على الرفعاء من إحدى  البلايا

إذا استوت الأصاغر والأعالي *** فـقد طـابت مـنادمة المنايا

 

 ويحدثنا بأن في علماء الحديث من يجيد صنع الشعر، مثل الحافظ سليمان بن موسى الكلاعي، فإن له من الشعر ما يشبه أن يكون عربياًً مطبوعاً، ومما قال:

 

أحـن إلى نجد ومن حل في نجد *** وماذا الذي يغني حنيني أو يجدي

وقـد أوطـنوها وادعين  وخلفوا *** مُـحِبَّهَمُ رهـن الصبابة والوجد

وضاقت عليّ الأرض حتى كأنها *** وشاح بخضر أو سوار على زند

ونجد للقاضي عياض، وهو من علماء الحديث والفقه شعراً ذاهباً في التخييل إلى حد بعيد ومما قال:

انـظر إلى الزرع  وخاماته *** تحكي وقد ماست أمام الرياح

كـتيبة خـضراء  مهزومة *** شـقائق النعمان فيها جراح

 

ويحدثنا أن في علماء المنطق والرياضيات من يصنع صوراً خيالية، ويبرزها في ألفاظ عذبة رقيقة، مثل أبي بكر بن الصائغ الأندلسي، ومن نظمه البديع قوله:

 

ضربوا الخيام على أقاحي روضة *** خـطر الـنسيم بـها ففاح عبيرا

وتـركت قـلبي سار بن حمولهم *** دامـي الـكلوم يسوق تلك العيرا

لا والـذي جعل الغصون معاطفا *** لـهمُ وصـاغ من الأقاح ثغورا

مـا مر بي ريح الصبا من بعدهم *** إلا شـهقت لـه فـعاد  سـعيرا

يبرع بعض العلماء في الشعر، ولكن فحول الشعراء من غير العلماء يكون جيد أشعارهم أكثر، ونَفَسهم في الشعر أطول، وقرائحهم إلى المعاني الغربية أسرع.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply