الاتحاد الأوروبي ضد الخلق!


بسم الله الرحمن الرحيم

في تطور كاشف عن الكثير، وكشف تهافت الموقف العلمانيº أعلن الاتحاد الأوروبي ومن خلال البرلمان الأوروبي عن قرار بمنع تدريس مادة تسمى "الخليقة والتدبير العاقل" في إطار مناهج الدراسة بمدارس الدول العضوة في الاتحاد، مع السماح فقط بتدريس هذه الفكرة أو الموضوع ضمن مقررات مادة الدين في المدارس التي تدرس هذه المادة أي مادة "الدين".

وموضوع "الخليقة والتدبير العاقل" هو موضوع طرحه على مجال النقاش فيما يتعلق بالدراسة في المدارس بأمريكا أولاً، ثم في أوروبا بعد ذلك، المؤمنون بالدين، وأن الله هو الذي خلق الكون والأرض، والإنسان وسائر المخلوقات، وهم يعارضون ويدحضون فكرة داروين حول النشوء والتطور للأجناس والأنواع الحية، ويرون أنها على وجه الخصوص قاصرة عن تفسير العديد من الظواهر لاسيما في مجال الحيوانات ذات التركيب المعقد في وظائفها الحيوية وفي مقدمتها المخ.

وعادة ما يتم التعبير عن هذا الكم والتوجه الفكري الداحض للداروينية بمفهوم "التدبير العاقل" أي أن هناك قوة خالقة ومدبرة تقف وراء الخلق، وترعاه وتوجهه، وليس الطبيعة أو الصدفة، أو قوانين المادة، ومبدأ البقاء للأقوى أو الأصلح كما تذهب التيارات المادية والداروينية، وتشاطرها في ذلك الآراء الإلحادية.

وقد راجت هذه الفكرة في الولايات المتحدة منذ الثمانينات، ووصل الأمر إلى حد إدخالها كمقرر دراسي في العديد من المدارس والجامعات الخاصة في بعض الولايات إلى أن بدأت أصوات علمانية تلمح في ذلك التطور تفوق الكنائس والتيارات الصليبية سواء الأصولية أو اليمينية، ومن هنا عملت هذه الأصوات على شن هجوم مضاد تمثل في رفع قضايا أمام المحاكم العليا بتلك الولايات، ثم في المحكمة العليا الأمريكية ذاتها استناداً إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة.

وانتهى الأمر في عام 2005م عندما أصدرت المحكمة العليا قراراً بمنع تدريس هذه المادة ضمن مقررات مواد هذه العلوم باعتبارها ليست علماً مثل الدارونية، وما تفرع عنها من دراسات، وإنما هي نوع من الرأي الديني المستند إلى الكتاب المقدس وبعض تفسيراته.

وبعد عامين وصلت الأمور في الاتحاد الأوروبي إلى نفس الوضع الذي وصلت إليه في أمريكا، وأول ما يتبادر إلى الذهن عند النظر في هذه المواقف هو أن الحديث حول حرية الفكر والتعبير والتعددية في مجال التعليم ومقرراته ينتهي فجأة عندما يتعلق الأمر بشيء يعد من مقدسات الثقافة الغربية، مثلما هي الحال مع أساطير الصهيونية التي أضيفت إليها - الآن على مايبدو - الداروينيةº لتقف إلى جانب أساطير تفوق الثقافة الأوروبية الأخرى.

والغرب نفسه يعمل في الوقت الراهن على إحداث تغييرات في مناهج الدراسية في الدول العربية تحت اسم العقلانية ودعم الوحدة الوطنية والتعددية، وتزعم هذه التعديلات أن رائدها هو مبدأ حرية الفكر والعقل، والتعبير والتعددية، لكن الغرب في ذات الوقت يهدر هذه المبادئ التي يبشر بها وسط غيره عندما ينكر على تيار علمي له حجج وآراء تدعمها أسانيد علمية مسمى العلم، ويحجبه عن الطلبة في المدارس في الوقت نفسه الذي يعمل فيه وبقوة النفوذ على فرض أفكار ومناهج ومواقف على الطلبة في العالم العربي هي ضد دينهم وعقيدتهم بحجة الحرية الفكرية والعقلية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالغرب حين يرفض تدريس مادة الخلق في مدارسه لا يعمل في الحقيقة على تقوية موقف الداروينية، بل يظهرها على أنها فكرة ضعيفة لا تحتمل المنافسة الفكرية، أو الحجج المضادة، بحيث يتحتم حمايتها بقوة الإقصاء لغيرها من الأفكار التي تنافسها أو ترفضها.

والواقع أن هذا التصرف يناقض المفهوم والمنهج العلمي نفسه الذي يقوم على الحجاج، وحرية طرح الآراء، ويحول الداروينية بذلك إلى عقيدة مقدسة غيبية تحتاج إلى الحماية من الآراء العقلية التي تناقشها أو تدحضها، وهكذا فبينما ترفض فكرة الخلق والتدبير هناك على أنها مجرد عقيدة غيبية لا مجال لها في مواد العلوم العقلانية التي تمثلها الداروينيةº نجد أن الاتجاه الراهن والعامل على حماية الداروينية عن طريق الإقصاء للغير، وتصويرها على أنها هي وحدها دون غيرها العلم الصحيح، مع رفض مناقشة أية آراء مناقضة، يؤدي في الحقيقة إلى تحويلها إلى عقيدة دينية غيبية تحمى بنفس الطريقة التي كانت تحمي بها العقيدة الكنسية في العصور الوسطى في الغرب.

كذلك ينم هذا الاتجاه في الحقيقة عن شعور العلمانية - ومن ورائها الاتجاهات اللادينية والالحادية - بالضعف إزاء نهضة الفكر الديني هناك مثلما يشعرون بالفزع من تيارات الإسلام في بلاده، ويصفونها بالإرهاب.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply