ألبانيا المسكينة .. تداعت الأكلة إلى قصعتها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في عام 1994 قابلت رجلاً في حوالي الخمسين من عمره في محافظة إشكودرا في شمال ألبانيا، ولفت نظري أن الرجل يحفظ بعض سور القرآن الكريم وكان هذا أمرًا نادرًا في ألبانيا في ذلك الوقت بعد قليل من سقوط الشيوعية الطاغية فيها.كنا في رمضان وسألته: كيف كان رمضان في أيام الشيوعية؟!

 

تحدث الرجل عن مآسٍ, بشعة عاصرها المسلمون تحت الحكم الشيوعي، وكان مما أخبرني به أن رجال الأمن كانوا يمرون على السكان 'المشتبه في صيامهم' في رمضان ويكشفون على عيونهم وأجفانهم فلو وجدوها رطبة تركوهم وإن وجدوها جافة أتوا بخرطوم ووضعوه في فم المتهم وأجبروه على شرب الماء.

وقال: إن بعض المسلمين كانوا يتحايلون فيضع أحدهم قربة ماء ويربطها على بطنه حتى تظل بشرته رطبة. وكانوا يتتبعون أي بيت يُرَى به إضاءة خلال وقت السحر في شهر رمضان وكانوا يقتحمون على العجائز والشيوخ المعروفين بمواظبتهم على الصوم في بيوتهم نهارًا ويطعموهم بالقوة.

 

تقع ألبانيا في جنوب شرق أوروبا وتعداد سكانها 3. 5 مليون نسمة، وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي يمثل المسلمون بها الأغلبية. وحسب الإحصائيات الرسمية فإن المسلمين يمثلون 70% من عدد السكان بينما يمثل الأرثوذكس نسبة 20%، ثم الكاثوليك في المرتبة الثالثة بنسبة 10%، وتؤكد بعض الإحصائيات غير الرسمية أن النسبة الحقيقية للمسلمين تصل إلى أكثر من 80%.

 

وبرغم هذه الهوية الإسلامية فإن رئيس البلاد الحالي 'ألفرد مويسيوي' أرثوذكسي ولا يبالي بمشاعر شعبه وقد أثار ضجة الشهر الماضي عندما ألقى كلمة أمام طلاب جامعة أكسفورد البريطانية خلال مشاركته في مؤتمر دولي عن التسامح في 9 نوفمبر 2005 عن موضوع 'التسامح الديني في عادات الشعب الألباني' وقال فيها: 'إن مسلمي ألبانيا في الواقع يحتضنون العقيدة المسيحية داخلهم وأن 5 قرون من عمر الإسلام في ألبانيا لا تكفي لمسح 15 قرنًا من عمر المسيحية بها'.

وأضاف: 'التسامح الديني المعروف عند الألبان لم يأتِ مع دخول الإسلام في ألبانياº وإنما كان متواجدًا منذ انتشار المسيحية في ألبانيا'.

وعن تدين الألبان ذكر في كلمته أن 'الألبان في الأصل غير متدينين لأنهم يقدسون أشياء أخرى مثل الجبال يقيمون لها الأعياد والقرابين'.

 

وبرغم حملات الاستنكار الشعبية الضخمة التي قادتها المشيخة الإسلامية الألبانية فإن الرجل لم يتراجع عن إهاناته لشعبه، بل وردّ على الاعتراضات الشعبية خلال لقاء عقده مع سليم موتشي رئيس المشيخة الإسلامية الألبانية الأحد 20 نوفمبر 2005 بأن تصريحاته هذه 'حقائق تاريخية لا يمكن التراجع عنها'.

 

إن هذه الأحداث تعكس الحالة العصيبة التي تعيشها ألبانيا الآن والتي تكالبت فيها أعداء الإسلام للنيل من هذا البلد المسلم ومن الممكن رصد أحداث عديدة خلال هذا العام فقط تبين فداحة ما يحدث في غفلة من المسلمين وعلى مرأى ومسمع من أوروبا التي تفزع لاضطهاد الأقليات المسيحية في بلاد المسلمين بينما تغض الطرف عن انتهاكات واضطهاد للأغلبية المسلمة في ألبانيا، ومن هذه الأحداث:

 

· تم نصب صلبان ضخمة جدا بارتفاع 20 مترًا على التلال بمحافظة أشكودرا الشمالية، وبعد احتجاجات المسلمين نفت الكنيسة مسئوليتها عن تعليق هذه الصلبان بل ونفت علمها بالأمر.

 

· قامت الكنيسة الكاثوليكية بالتعاون مع وزارة الثقافة وهيئة الآثار بمحافظة إشكودرا أيضًا بمشروع لتحويل مسجد أثري مغلق لكنيسة كاثوليكية، مستفيدة بدعم مالي قادم من السفارة الأمريكية لترميم المبنى على اعتبار أنه كان كنيسة قبل بناء المسجد بعدة قرون. إلا أن المشيخة الإسلامية أظهرت الأوراق التي تثبت ملكيتها للمسجد.

 

· حاول المسلمون مرارًا بناء مسجد كبير في وسط العاصمة دون جدوى، وحتى حين تقدموا بطلب لبناء مسجد على أرض وقف إسلامي تابعة للمشيخة بجوار البرلمان رفضت الحكومة بحجة أن هذه الأرض ستخصص لإنشاء حديقة عامة. ويحدث هذا في الوقت الذي سمحت فيه الحكومة ببناء كنيسة كاثوليكية ضخمة على نصف أرض ملعب رياضي بوسط العاصمة.

 

· وقريب من هذا أيضًا رفض الحكومات المتعاقبة لطلبات المشيخة المتكررة ببناء جامعة إسلامية بينما وافقت على بناء خلال عام 2004 على إنشاء جامعة كاثوليكية لتكون الجامعة المسيحية الثانية بعد الجامعة الأرثوذكسية التي بنيت في 1996.

 

· تكتظ وسائل الإعلام الألبانية بدعوات صريحة إلى عودة الألبان لأصولهم المسيحية التي كانوا عليها قبل دخولهم الإسلام. وتنشر عشرات الجمعيات التنصيرية الأوروبية والأمريكية بالمساعدات العينية مستغلة حالة الفقر التي يعاني منها أكثر الألبانيين وتساعد من يتنصر منهم في الهجرة للبلدان المجاورة خاصة إيطاليا ومنذ تولي بابا روما الجديد - البابا بنديكت السادس عشر - رئاسة الفاتيكان أولى عناية خاصة بألبانيا، حيث أرسل إلى الآن ثلاثة من القساوسة الإيطاليين للإقامة الدائمة، ورعاية الكاثوليك.

 

إن هذه وغيرها من الأحداث تكشف حملة منظمة لسلخ هذا البلد المسلم عن دينه وقد تداعت الأكلة الأوروبيون إلى قصعة ألبانيا ينهشون منها ويقتطعون من دين شعبها. وقد لاحظت فعلاً ذلك في تلك الزيارة منذ أكثر من عشر سنوات وقد رأيت معنا في الطائرة الصغيرة التي أقلتنا من أثينا باليونان إلى تيرانا عاصمة ألبانيا، رأيت ثلاثة من القساوسة اليونانيين واندهشت لهذا العدد في ذلك الوقت، وزالت دهشتي بعد ذلك عندما رأيت عشرات الجماعات التنصيرية التي أتت من كل حدب وصوب. وقد التقيت ببعضهم في جامعة تيرانا ودار بيننا حوار طويل ظهر بعده أنهم بسطاء لا يعرفون إلا قشورًا حتى عن دينهم، وفي ذلك اللقاء وعدوا ألا يتعرضوا للمسلمين مرة ثانية وأن يطلعوا على بعض الكتب الإسلامية، وأحسبهم كانوا صادقين.

 

لا ينبغي التهوين من حملات التغريب والتنصير التي يتعرض لها إخواننا الألبان ولكن في نفس الوقت يجب ألا تهتز ثقتنا في قوة الحق إذا عرضناه على هؤلاء المسلمين، وأن نتأكد أن سبب 'نجاح' هذه الحملات هو ضعف دين أهل البلاد لا غير.

 

من القصص العجيبة التي رأيتها في تيرانا، في أحد المدارس وجدت أربعة من الصبية يحفظون قصار السور من القرآن الكريم ولما تكلمت معهم عرفت أنهم أيضًا صائمون في رمضان و كان هذا كذلك أمرًا نادرًا في ذلك الوقت وأنهم يصلون، ولما رأوا دهشتي الشديدة أخبروني أن أحد الدعاة من كوسوفو زار مدرستهم ورغبهم في طاعة الله - تعالى- وأعطاهم كتيبًا بعنوان 'فقه الحال' وأنهم اتفقوا فيما بينهم أن يحفظوا هذا الكتاب وينفذوه، وقد كان. وقد طالعت فيما بعد هذا الكتيب الجميل وهو عبارة عن مختصر لكل ما يحتاجه المسلم لدينه كحد أدنى. فيه شهادة التوحيد وشرح مبسط لها، ثم قصار سور القرآن ومكتوبة أيضًا بحروف لغتهم بحيث يستطيعون قراءتها بالعربية وشرح مبسط للوضوء وصفة الصلاة وأحكام صيام رمضان والزكاة والحج. وكل هذا في حدود 50 صفحة فقط .

 

الانطباع العام أن أهل ألبانيا أهل حضارة وقد لمست في شبابها وأطفالها ذكاءً حادًا واستعدادًا فطريًا للدين.

وإن صبر بعضهم على البطش والتنكيل مقابل تمسكهم بإسلامهم صنع قصصًا أقرب للأساطير وحكايات ألف ليلة غير أنها قصص وقعت وسطرتها آلام وجراح مسلمي ألبانيا.

بعضهم ذاق التعذيب في السجون لأكثر من عشرين سنة مثل الشيخ المجاهد صبري كوتشي مفتى ألبانيا السابق والذي أودع السجن في عنفوان عطائه وكان في الخامسة والأربعين من عمره بعد صدامه مع السلطات الشيوعية الجائرة وخرج من السجن في عام 1989 شيخًا مجهدًا منهكًا في الخامسة والستين من عمره، ولم يمنعه ذلك من أن ينهض مرة أخرى ويقود حركة إصلاح واسعة رافقت سقوط الشيوعية.

 

التقيت بأحد الوزراء في أول حكومة بعد الشيوعية حكومة الدكتور صالح بريشه وحكى لي ذلك الوزير أنه ظل سنوات طويلة يصلى سرًا ويغلق على نفسه باب غرفته أو مكتبه بالمفتاح أثناء الصلاة وأنه أخفى ذلك حتى عن ابنته الوحيدة، ولما لاحظ صدمتي أخبرني أنه كان يخشى أن تبلغ ابنته عنه السلطات.

 

إن الأوضاع الحالية تنذر بمخاطر كبيرة بأن تتآكل ألبانيا وتذوب هويتها الإسلامية الضعيفة أصلاً، وقد سبق بالفعل في التاريخ القريب بعد استقلال ألبانيا عن الحكم العثماني التركي في عام 1912 أن قامت دول الغرب في مؤتمر السفراء بلندن عام 1913 بتقسيم معظم أراضيها لحساب الدول المجاورة فأعطت إقليم تشاميرية الألباني الجنوبي لليونان، وإقليم كوسوفا الألباني الشمالي لصربيا، وأجزاء من الحدود الشرقية لمقدونيا، وجزءًا آخر من الأراضي الألبانية الشمالية الغربية للجبل الأسود، مما أخرج أكثر من نصف الشعب الألباني خارج حدود دولة ألبانيا الأم.

 

إن الظروف الدولية الآن ربما لا تسمح بهذا التدخل السافر المعلن ولكن المخططات الجارية قد تؤدى لنفس النتيجة. إن الشعوب المسلمة دائمًا متيقظة للأخطار الخارجية، لكنها أقل حذرًا ووعيًا إذا جاءت التهديدات من داخلها وعبر مواطنيها الذين رضعوا التغريب في حياتهم. وقد عانت ألبانيا قبل ذلك من هجمة شرسة ضد الإسلام قادها ملكهم أحمد زوجو الذي تولى حكم ألبانيا في عام 1928م وقاد حملة شعواء لتغريب المجتمع الألباني المسلم، ومحاولة فصله عن ثقافته وتراثه الإسلامي عن طريق كوادره التي كان بيدها مقاليد الأمور في البلاد، وواصلوا أنشطتهم الثقافية والتعليمية للابتعاد عن الشرق والاقتداء بالغرب. وقام ذلك الرجل تعاونه زوجته المجرية الكاثوليكية - في عام 1937 بإصدار أول قانون يمنع الحجاب في ألبانيا، وكان هو أول من قام بتنفيذ ذلك القانون على نفسه عن طريق أخته التي خلعت الحجاب، وانطلقت تطلب من النساء الاقتداء بها.

كما تم فرض غرامة مالية على كل النساء غير الملتزمات بهذا القانون مع إعطاء الشرطة الألبانية الحق في نزعه بالقوة في الشارع.

لهذا، فإن العناية بالمسلمين الألبان أنفسهم ضرورة قصوى وهي أفضل سبيل لصد هذه الفتن العمياء التي تعصف بتلك البلاد. هناك العديد من المنظمات و الجمعيات الإسلامية التي لها جهود محمودة في العناية بمسلمي ألبانيا، لكن هذه الجهود وحدها لا تفي بالمطلوب خاصة بعد أن تقلصت وألغيت تراخيص بعضها بعد أحداث 11 سبتمبر.

هل نستطيع نحن أنت وأنا - أن نفعل شيئًا لمساندة إخوة لنا في الإسلام؟!

نعم..

 

يمكننا إن شاء الله وخاصة في الجوانب التي نعرفها ونجيدها:

1. يمكننا أن ينتشر بعضنا في مواقع المنتديات الألبانية التي تتعامل باللغة الإنجليزية ونتعارف عليهم و ندعوهم إلى الله ونعرفهم ببساطة بمبادئ ديننا الحنيف.

2. يمكننا أن ننشئ موقعا مخصصًا لهذا الهدف، منتدى مثلاً باسم Islam4Albania أو غيره ونشرف عليه ويعتني بالتعليم والدعوة وبناء جسور بيننا وبينهم من الصداقة والمودة التي هي مفاتيح القلوب. وفي مصر عشرات من الطلاب الألبان في الأزهر يمكننا الاتصال بهم وترغيبهم في هذه الجهود.

3. يمكننا أن نتابع أخبارهم ونتفاعل معها ونكتب عنها ونساهم في زيادة الوعي بها ونتعاطف وندعو لهم في سجودنا وفي أوقات السحر وفي كل مناسبات وأوقات الإجابة.

هذه أفكار عملية، وربما عند بعضنا أفكار أخرى أنفع وأجدى، المهم أن نكون عمليين وإيجابيين، وأرجو من كل من يهتم بهذا الأمر أن يعرض هنا ما يمكنه عمله ونتشاور فيه والله المستعان.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply