الحداثة وما بعد الحداثة .. من المركز إلى إسقاط المركز ( 1 - 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

"... فالحداثة بهذا المعنى: حالةٌ انطلقت من فكرة أن الإنسان هو (مركز) الكون وسيده، وأنه لا يحتاج إلا إلى عقله فقط، في فهم الحياة، ودراسة الواقع، وإدارة المجتمع، والتمييز بين النافع والضار، دون الرجوع إلى وحي أو غيب.."

تسلل إلى معجمنا الثقافي كثيرٌ من المصطلحات الفلسفية التي أنتجتها العقلية الأوربية، والتي كان لها الأثر الكبير في تشكٌّل الثقافة العربية المعاصرة، وفي بناء المفاهيم المعرفية في خطابنا التعليمي، متمظهراً في العلوم الإنسانية بأقسامها المتنوعة: اللغة، والأدب، والفن، والتاريخ، والنفس، والاجتماع، والسياسة، إضافةً إلى الدين والفلسفة.

ولعل من المعرفة المستهلكة الاعتراف بأنَّ استقبال النخب الثقافية في عالمنا العربي لتلك المصطلحاتº كان استقبالاً (استهلاكيا تبعيِّا) دون تفحَّصٍ, ونقدº مع إهمال المرجعية العقدية والتغافل عن الخصوصية التاريخية والثقافية، مما كان له الأثر البالغ في الانفصام الحاد الذي أصيبت به العقلية العربية المعاصرة، وسبباً في تفشي ظاهرة ما يسمى بـ (أزمة المثقف) و (اغتراب المثقف) و (تمرد المثقف) ونحو ذلك من الشعارات التي انتشرت في واقعنا الثقافي والتي تخفي وراءها مشاعر التيه والضياع والفوضى الفكرية.

ومن أكثر هذه المصطلحات جدلاً ولغطاً، وأوسعها وأخطرها على الإطلاق هو مصطلح (الحداثة) وإفرازه الجديد (ما بعد الحداثة).

ومن المفيد قبل الخوض في هذا الموضوع أن نعرِّف - أو نحاول أن نعرِّف! - مصطلح الحداثة أولاً، لكي ندرك القضايا والمفاهيم المتعلقة به والكامنة وراءه. ولكي نحاول أن نفهم مصطلح (ما بعد الحداثة) والذي هو مرتبط بفهم (الحداثة)، سواء قلنا بأن ما بعد الحداثة امتداد للحداثة كما يرى البعض، أو أنها ردة فعل عليها كما يرى البعض الآخر.

ابتداءًº يحسن بنا أن نشير إلى أن الباحث وهو يبحث ويجمع ويطالع حول ما كتب في مصطلح (الحداثة)º يلفت انتباه الشكوى الدائمة من صعوبة هذا المصطلح وغموضه عند أهله ومنتجيهº فضلاً عن المستقبِل والمتلقي عندنا في الواقع العربي، وهذا الاستهلال يكاد أن يكون استهلالاً رسمياً عند كل كاتب يشرح هذا المصطلح.

يقول (ديفيد هارفي) أحد كبار منظري ما بعد الحداثة:

"لطالما استغلق علينا معنى الحداثة والتبس، لذلك فإنَّ ردَّ الفعل المعروف باسم (ما بعد الحداثة) يظل هو الآخر مستغلقاً وبكيفية مضاعفة" [1].

ويقول الباحث المغربي علي وطفة:

"مفهوم الحداثة يأخذ مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة، وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه" [2].

ويقول رضوان زيادة:

"إذا كانت الحداثة تدخل ضمن المفاهيم المستعصية على التعريف والتحديد، الرافضة لكل نمذجة، والمصنفة بعدم القابلية والقدرة على قبض مفهوم ناجز وجاهز لها، فإن ما بعد الحداثة وعطفاً على ذلك، ليس أقلَّ من وصفها بأنها هيولي أو أميبا ليس باستطاعة أحد أن يمسك بتعريف لها" [3].

وهذا المعنى هو ما يؤكده علي حرب، حين يصف الحداثة بطريقته السيلانية التفكيكية المعهودة في كتاباته، فيقول:

"هذه سمة الحداثة في الأصل: كل تعريفٍ, لهاº يقعُ خلفها أو ما قبلها أو يشكل انقلاباً ضدها، من هنا لا يمكن الكلام عليها إلا على نحوٍ, إشكالي تفقد معه المقولات أمنها المعرفي لكي تنفتح على ما هو نسبي... فالحداثة تجربة لا تكتمل ومشروع هو دوماً قيد التأسيس" [4].

والكلام في هذا المعنى كثير، ليس هدفنا استقصاؤه. إنما المقصود أن نعلم أن الحداثة عند منتجيها - فضلاً عن المتلقي - عبارةٌ عن مفهومٍ, غامض، مستعصٍ, على الإمساك، رافضٍ, للتعريف الناجز.

وهنا من حق القارئ أن يتساءل: لماذا هذا الغموض حول مصطلح الحداثة، وهو مصطلح يكاد أن يكون مبتذلاً عند عامة المثقفين؟

والحقيقة أن لهذا الغموض أسباب عديدة ومتنوعة، لعلَّ من أهمها - في تصوري - سببان:

الأول: أن الحداثة في أصلها كانت حدثاً تاريخياً وحالة اجتماعية سبقت ظهور المصطلح، فمؤرخو الحداثة يجعلون عصر النهضة / القرن السادس عشر هو انبثاق فجر الحداثة وعلى وجه الخصوص مع ديكارت وبيكون وغاليليو، وأما مصطلح الحداثة فيرى كثيرٌ من المؤرخين أن أول من أورده كمصطلح هو (بولدلير) في عام (1849)، ومنهم من يرى أنَّ أول استخدام له في الثقافة الإنجليزية كان في عام (1927) في كتاب (مخطط أو مسح لشعر الحداثة) لمؤلفه جريفز و رايدنج، ومنهم من يرى غير ذلك، وعموماً فإنَّ المصطلح لم يكن مشاعاً قبل منتصف القرن (التاسع عشر).

فإذا كان واقع الحداثة سابق لمصطلح الحداثة، لأن الحداثة عبارة عن نشاط وفعل وحراك، وليست فكرةً مجردة أو موضوعاً له معالمه المحددة، فحينها تحويل ذلك الواقع إلى مصطلح فلسفي مجرَّد، لا يكون إلا على ملاحظة المظاهر والقوانين التي تحكم ذلك الواقع والذي سمي بعد ذلك بالحداثة، فيأتي التعريف بصورٍ, مترددة بسبب اختلاف المظاهر، ونسبية ملاحظة تجليها في ذلك الواقع من مؤرخ إلى مؤرخٍ, آخر، وحينها تحصل عند البعض الإشكالية والغموض.

الثاني: أنَّ الجو الفلسفي الذي جرى فيه تحديد مفهوم مصطلح الحداثة (بدايات منتصف القرن الماضي)º كان جوَّاً متأثراً بالنزعة العدمية والشكِّية المنتشرة في أوربا حينذاك إضافةً إلى ظهور المناهج النقدية والتحليلية مع ظهور علم اللسانيات الحديث وانبثاق البنيوية والسيمياء وفلسفة التأويل (الهيرمنيوطيقا الجديدة). هذا الجو بمفرزاته الفكرية كان سبباً في انتشار ما يسمى بـ (سيلان وميوعة المصطلحات الفلسفية المعاصرة) مما أدى إلى غموض مضامينها، وصعوبة الإمساك بها.

وتستطيع أن تعتبر ذلك في كثير من المصطلحات الفلسفية المعاصرة، كالبنيوية، والتأويلية، والتفكيكية، والإبستيميولوجيا، والأركيولوجيا، والحداثة، وما بعد الحداثة، ونحو ذلك.

ولكن - مع هذه الصعوبة والغموض - إلا أنه لا مفر لأي دارسٍ, أو باحث من محاولة تعريف الحداثة حتى وإن كان التعريف ملتفاً ببعض الإشكالات، وهذه المحاولات مع تعددها وكثرتها ترجع - في نظري - إلى بُعدين: بعد تاريخي، وبعد فلسفي.

فأما من يعرفها من بعدها التاريخي، فيرى بأن الحداثة: "حقبة تاريخية متواصلة تمتد على مدى خمسة قرون، بدءاً من القرن السادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، ثم حركة الأنوار والثورة الفرنسية، تليهما الثورة الصناعية، فالثورة التقنية، ثم ثورة المعلومات" [5].

ومنهم من يجعل ابتدائها بعصر الأنوار (القرن الثامن عشر) إلى عصرنا هذا ولذا فهي مرادفة لمصطلح التنوير. أو يجعلها متعلقة بعصر الأنوار فقط ولا تتعداه (هابرماس) [6].

وأما من يعرف الحداثة من بعدها الفلسفي، فيرى بأنها: "مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور المجتمع بتطوير اقتصاده وأنماط حياته وتفكيره وتعبيراته المتنوعة" [7]. فهي إذن ليست عملية محددة تنبثق دفعة واحدة وإنما عمليات تراكمية متتالية.

ومنهم من يرى بأنها "ممارسة السيادات الثلاث: السيادة على الطبيعة، والسيادة على المجتمع، والسيادة على الذات، وذلك عن طريق العلم والتقنية".

ومنهم من يقول بأنها: "محو القدسية على العالم".

أو يرى بأنها: "العقلنة".

أو: "قطع الصلة بالتراث" [8].

وهناك تعريفات أخرى لا تبتعد كثيراً عن هذه المعاني.

ومما يجدر الإشارة إليه أن مصطلح الحداثة (Modernity) يختلف عن مصطلح التحديث (Modernization) في اللغتين الإنجليزية والفرنسية. فالحداثة (Modernity): موقف فلسفي عقلي تجاه مسألة المعرفة، وأما التحديث (Modernization) فهو: عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات دون إحداث تغيير عقلي أو ذهني للإنسان تجاه الكون والعالم. فالتحـديث هو مظــاهر الحــداثة وقشــورها، وأما الحــداثة فهـي أعمــق من ذلك [9].

وهناك تعريفات للحداثة ارتبطت بالحقل الأدبي، حيث إنَّ النقاد الأدبيين مازالوا يحددون ميلاد الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين، ويجعلونها (أي الحداثة) مجموعة من الثورات التي حطمت الاتجاه الواقعي والرومانسي واتجهت نحو الإغراق في الرمزية من خلال الاتجاهات الانطباعية والتعبيرية والسريالية والوجودية [10]. وإذا كان مصطلح الحداثة بالفعل قد نشأ ضمن الحقل الأدبي، فلا يعني ذلك أنه ظل مقتصراً عليهº بل استُثمِر ووظِّف في حقول معرفية أخرى كالاجتماع والسياسة والتحليل النفسي والألسنية والاقتصاد واللاهوت، ليشير بعد ذلك إلى حقبة فلسفية معينة لها مبادئها وخصائصها. ولهذا فارتباط (الحداثة) بالحقل الأدبي فقطº ليس له - الآن - ما يبرره.

- 2 -

إذا تأملنا في كتابات الفلاسفة والمفكرين حول مصطلح الحداثة نجد أنها مع شدة تنوّعها واختلاف منطلقاتها تؤكد أن الحداثة ترتكز على فكرة معينة تكاد أن تكون هي (بنية الحداثة) التي تنتظم عناصرها على أساسها. هذه الفكرة هي (مركزية الإنسان) التي تقول: إن الإنسان محور الكون وسيِّد العالم وهو مرجع كل شيء.

فالحداثة - إذن - بهذا المعنى: حالةٌ انطلقت من فكرة أن الإنسان هو (مركز) الكون وسيده، وأنه لا يحتاج إلا إلى عقله فقط، في فهم الحياة، ودراسة الواقع، وإدارة المجتمع، والتمييز بين النافع والضار، دون الرجوع إلى وحي أو غيب.

بمعنى آخرº أن ظهور الحداثة الأوربية قامت على أساس "أن العالم الحسي يحـوي داخلـه ما يكفي لتفسيره وأن عقــل الإنسـان قـادر على الوصـول إلى المعرفـة التي تنيـر له كـل شيء، ويستطيع أن يفـهم واقعه وذاته ويولِّد منظومات أخلاقه دون الحاجة إلى معرفة تأتيه من غير العالم الحسي (الوحي!)" [11].

وهذه الفكرة هي ما تسمى بالنزعة (الإنسانية / الإنسية) (هيومانيزم Humanisme) التي ظهرت في أوربا في عصر النهضة بداية القرن السادس عشر أو منتصف القرن الخامس عشر، وبظهور هذه النزعة يؤرخ الأوربيون بداية ظهور الحداثة.

وقد كانت هذه النزعة الإنسانية ردة فعل لما كانت عليه أوربا من الظلم وسحق الإنسان وسلبه الإرادة وتجميد عقله وإغلاق جميع منافذ الفكر، الوضع الذي كانت تفرضه الكنيسة حينذاك. ولما كانت ردة الفعل - غالباً - في عالم الأفكار لا تؤدي إلا إلى فعلٍ, عكسي غير معتدل ولا منضبطº كذلك ردة فعل الإنسية الأوربية، لم تكن انفصالاً عن الواقع الذي كان سبباً في سحق كرامتها فحسبº وإنما انفصالاً عن كل ما يمت إلى الدين بصلة.

صحيح أن بدايات التنوير لم تكن بتلك الحديِّة خاصة في منتصف القرن الخامس عشر، فإن أغلب دعاة الإنسانية في ذلك الوقت كانوا من رجال الدين (الإصلاحيين) من أمثال: (إيراسموس)، و(توماس مور)، و(مارتن لوثر). إلا أن الأمر قد تطور بعد ذلك وخرج عن نطاقه، وكان ذلك واضحاً في القرن الثـامن عشر، العصـر (الذهبي!) للتنويـر الذي برزت فيه رؤية (استنـاريـة) شاملـة للكـون أطلـق عليها عالم الاجتماع الألمـاني ماكس فيبر اصطـلاح (ديانة عالمية world religion).

وهذا الذي ينبغي أن يتنبه له القارئ الكريم، وهو أن النزعة الإنسانية في عصر الأنوار كانت بمثابة ديانة جديدة، بمعنى أنها مذهب متكامل يزود الإنسان برؤية شاملة للكون، فهي تحاول أن تجيب عن معظم - إن لم يكن كل - الأسئلة المباشرة والجزئية الخاصة بتفاصيل حياته، وكذلك عن الأسئلة النهائية والكلية المتعلقة بأسباب وجوده ومسار حياته ومآله، كما تزِّوده بأنساق معرفية وجمالية وأخلاقية يدير من خلالها حياته، أي أنها بالفعل (ديانة عالمية متكاملة).

وقد انبثق عن هذه (الديانة الجديدة!) عدة مبادئ، هي بمثابة الأسس التي تقوم عليها الحداثة، والملامح التي ترسم صورتها النهائية. لعل أبرزها وأخطرها: مبدأ (العقلانية)، ومبدأ (النقد)، ومبدأ (التقدم)، ومبدأ (الفردية).

أما مبدأ العقلانية: فهو الأس الأول الذي تستند إليه الحداثة الغربية، بل هو الحامل الفلسفي لمشروع الحداثة كما يؤكد آلان تورين في كتابه (نقد الحداثة)[13]، ويقوم هذا المبدأ على فرضيتين:

(الأولى) أن العقل يعقل كل شيء، بمعني: إخضاع الدين والعالم وجميع مؤسسات المجتمع وسلوكات الإنسان ومورثات التاريخ كلها إلى مبادئ العقلانية. (الثانية): استقلال العقل بنفسه في دراسة تلك القضايا، ونزع الوصاية عنه، وعدم حاجته إلى (الوحي!).

ولا يخفى على القارئ الكريم التطرف الظاهر في هذا المبدأ، ولست هنا بصدد مناقشته فإن المقام لا يتسع لذلك، لكن ينبغي أن أشير إلى أن مشكلة العقلانية لم تكن في الدعوة إلى إعمال العقل والاعتراف بقيمته ودوره الأساس في مسألة المعرفة، فهذا أمرٌ دعت إليه عامة الأنبياء، ومقرر بوضوح في كتاب الله - تعالى -، إنما المشكلة تتركز في تحديد مفهوم هذا (العقل)، فمفهوم العقل حين يرد في النصوص الفلسفية الغربية وكذلك العربية عادةً ما يعني بـ(العقل المادي) فقط، وهو عقل لا يعمل إلا في حيِّز التجربة والخبرة الحسية فقط، ولذا فهو محكوم بحدودها، غير قادر على التجاوز، وحينها تصبح القضايا الغيبية والكلية والقيم الروحية خارجة عن نطاق هذا العقل المادي (الحداثي).

هذا العقل وهو ما يعرف الآن بـ (العقل الأداتي) (Instrumentl reason) ما هو إلا "عقل شكلي يلتزم بالإجراءات دون هدفٍ, أو غاية، أي عقل يوظِّف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات" [14]، ولذا فهو عقل تكنوقراط محايد لا يصدر أحكاما أخلاقية ولا يلتزم بالقيم الدينية = هذا المفهوم للعقل المادي / الأداتي وهو الذي تأسست عليه العقلانية المعاصرة، أوقع الفكر الأوربي في مآزق كبيرة يصرَّح بها الآن كبار فلاسفتهم، ويكفي أن ننظر في خطاب مدرسة (فرانكفورت) حتى ندرك إلى أي حدٍّ, أوصلهم هذا المبدأ [15]، والذي جعل (هابرماس) وهو الوريث الشرعي لهذه المدرسة الفكرية أن يدعو إلى عودة الحداثة إلى عصر الأنوار وتجاوز الواقع العبثي الذي تعيشه الفلسـفة الغربية المعاصرة [16]، ولعل (هابرماس) لم يتنبه إلى أن هذا الواقع العبثي الذي تعيشه الفلسفة الغربية ما هو إلا نتاج حداثة الأنوار ذاتها التي أخطأت في تحديد مفهوم العقل وتقدير إمكاناته.

المبدأ الثاني: (النقد): ويقوم على فرضيتين:

(الأولى): حتمية النقد، بمعنى أن طريق المعرفة اليقينية لا يمكن أن يتحصَّل عليها الإنسان إلا من خلال إعمال النقد، وهذه الفرضية منبثقة من فكرة (الشك المنهجي) التي أعلنها ديكارت الملقب بـ (أبي الحداثة).

(الثانية): شمول النقد، وهي تعني: أن كل شيء يقبل النقد ولو كان مقدَّساً، وذلك أن النقد في حدِّ ذاته قيمة بغض النظر عن الغاية وطبيعة الموضوع، فحينها لا يكون للدين ولا للقيم والأخلاق حصانة من تسليط معاول النقد.

وقد كانت النتيجة الحتمية لهذه الحتمية: الوقوع في قبضة الصيرورة النقدية الكاسحة والمدمرة، والتي لا تقف عند حدٍّ, معين ولا تراعي المسلمات اليقينية، والعلوم الأولية الفطرية، حتى انتهى بها الأمر إلى ما يعيشه الآن الفكر الأوربي من تشرذم وتشظي ومن ثمَّ العدمية والفوضى واللاشيء، مما ينبئ بانهيار الحضارة الغربية!.

المبدأ الثالث: (التقدم)، وهو روح الحداثة ولبٌّها، ويشكِّل مفتاحاً رئيسياً لحركة الحداثة، فبعد أن أصبح الإنسان سيِّد الكونº فلن يكون أمام خياراته حواجز، أو تقف أمام طموحاته عقبات، فخطَّ التقدم لابد أن يسير قدماً إلى الأمام بلا توقف، مادام أن رغبات الإنسان لا تتوقف[17]. وهذا المبدأ يقوم على فرضيتين:

الأولى: أن التقدم قانون طبيعي، ولذا فهو حتمي، ليس للإنسان فيه إرادة، والمقصود بالتقدم هنا، (التقدم الخطي) للتاريخ، الذي يفترض أن الزمن الحالي أفضل من الزمن الماضي، وأن الزمن القادم بالضرورة أفضل من الزمن الحالي. وهذه الجبرية التقدمية هي في الأصل منبثقة من النظرية التطورية الداروينية، القائمة على فكرة التطور والارتقاء المستمر من خلال انتخاب الأنواع. وعليها يكون القديم ليس صالحاً بالضرورة، أيَّاً كان ذلك القديم، والحديث صالح بالضرورة أيِّاً كان ذلك الحديث، ولهذا كان التقدم المبدع في مفهوم الحداثة الغربية هو التقدم المنفصل عن كل الأفكار الموروثة مطلقاً.

وهذا الفكرة باطلة في الأصل، "ذلك أن هذا الانفصال المطلق يستحيل تطبيقه عملياً، فلا يستطيع الإنسان أن يجعل من نفسه صفحة بيضاء نقية يخط فيها ما يشاء ابتداءً، مهما زعم بعضهم إمكان تصور هذا الحال، وحتى أولئك (الغربيون) الذين قطعوا صلتهم بالماضي وبتراثه وانحصروا بجملتهم في الحاضر واندفعوا بقوة نحو المستقبلº لم يسعهم إلا أن يتوسلوا بعناصر جلية أو خفية من تراثهم القريب أو البعيد في إنجاز إبداع تقدمهم، شعروا أم لم يشعروا"[18].

هذا الوهم الكبير اعترف به أخيراً علي حرب - أحد كهنة الحداثة في عالمنا العربي - حيث يقول:

التحديث والتغيير أن بإمكانهم إحداث قطيعة جذرية مع الماضيº اجتماعية أو معرفية أو أنطولوجية، ما هو إلا وهم كبير يسيطر على عقول الحداثيين العرب الذين تحفل خطاباتهم بقاموس كامل من المصطلحات الدالة على القطيعة التامة كالتقويض والتدمير، أو الدكِّ والنسف، أو الجبِّ والاستئصال، أو التصفية والإبادة، وسواها من الاستعارات الخادعة في قراءة العلاقة بين الماضي والحاضر أو بين الحاضر والمستقبل. والحقيقة أن وهم الانقطاع هو من أشدِّ الأوهام تظليلاًº ذلك أن الإنسان أكان فرداً أم جماعة، لا يمكنه الانفصال عن ماضيه انفصالاً تاماً، ثمة عائق انطولوجي يحول بينه وبين هذا القطع الجذري، هو اللغة والذاكرة والتراث، وكل ذلك يشكِّل معطىً لا يمكن تصفيته" [19].

الفرضية الثانية لمبدأ التقدم: أنَّ التقدم مقصود لذاته، فيكون غاية ومطلبا بغض النظر عن أهدافه ونتائجه، وتظهر هنا التبعية الفكرية في خطبانا الثقافي عند استخدام لكلمة (التقدم)، فشعار: "هيا لنلحق بركب التقدم والمدنية"، الذي أصمَّ به دعاة التغريب آذننا خلال العقود الماضية، كان في واقع الأمر يقوم على أساس أن التقدم مقصود لذاته دون اعتبار الهدف والغاية.

وقد شكَّل هذا المفهوم للتقدم المجرَّد عن الأهداف والغايات النبيلة = حالة كارثية في الفكر الأوربي وكذلك في واقعنا العربي، ذلك أن فكرة التقدم في الأصل لا تنطلق إلا من خلال الإجابات على الأسئلة النهائية التي تواجه الإنسان: من أنا؟ وما الهدف من الوجود في هذا الكون؟ أهو عبادة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسب المنظور الإسلامي، أم هو الإنتاج والاستهلاك وتحقيق الربح واللذة، حسب المنظور الهيوماني الإنساني الغربي. على إثر هذه الإجابة، ينجلي من خلالها الهدف الذي يحدد مفهوم التقدم.

المبدأ الثالث: (الفردية)، وهو من مولَّدات النزعة الإنسانية، أو من مظاهر تطرف النزعة الإنسانية، فإن الحركة الإنسية من خلال إيغالها في ترسيخ الذاتية انتهى بها الأمر إلى القول بأن الفرد هو أساس القيم وهو الذي يقرر مصير نفسه، وهو الذي يصنع حياته، والآخرين والمجتمع بالنسبة إليه ليسوا إلا وسيلة لتحقيق سعادته فحسب وازدهار ذاته فقط.

وإذا تأملنا في كلمة (الفرد) وجدنها كلمة جامدة محايدة لا تعني أي قيمة، بخلاف كلمة (الإنسان) التي تتضمن التكريم الإلهي على سائر المخلوقات بمميزات اختص بها، فالنزوع إلى تقديس الإنسان على أنه (فرد) لا على أنه إنسان هو معنى من معاني الداروينية التي أسقطت عن الإنسان كرامته والغاية التي من أجلها خلق.

ولعل الظواهر الاجتماعية والأخلاقية التي أفرزها هذا المبدأ في المجتمعات الغربية تكفينا في بيان بطلانه وفساده، فتآكل الأسرة الغربية وتفككها، وانكفاء الإنسان إلى ذاته وانشغاله بتحقيق أغراضه فقط، وتظخيم مبدأ التعاقد الذي يحكم العلاقات بين الأفراد بدلاً من التراحم والتآنس، ونسبية القيم وانصهار الأخلاق، والتركيز على الاستهلاك وإشباع اللذة، وانتشار السعار الجنسي، والشذوذ الفكري والديني (من السادية إلى عبدة الشيطان) = كل تلك المظاهر وغيرها ما هي إلا مفرزات للفكر الفرداني الذي يكاد أن يكون عاملاً رئيسياً في انهيار الحضارة الأوربية.

 

 

تلك هي المبادئ الأساسية لمشروع (الحداثة) والتي انبثقت بعدما تم إزاحة الكنيسة عن (المركز) وتم إحلال (الإنسان) مركزاً جديداً، يتم من خلاله تفسير العالم والحياة.

 

-----------------------------------------------------

[1] محمد الشيخ وياسر الطائي: (مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة)، ص (1)، دار الطليعة، بيروت، 1996.

[2] علي وطفة، (مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة)، مجلة فكر ونقد، العدد (35).

[3] رضوان زيادة: (صدى الحداثة - ما بعد الحداثة في زمنها القادم)، ص (17)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 23.

[4] على حرب: (الممنوع والممتنع نقد الذات المفكِّرة)، ص (246)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 25.

[5] انظر: طه عبدالرحمن، (روح الحداثة) ص (23). وعلي وطفة، (مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة) مجلة فكر ونقد.

[6] المصدر السابق.

[7] فتحي التريكي، (فلسفة الحداثة)، ص (25).

8] انظر: طه عبدالرحمن، (روح الحداثة) ص (23).

9] انظر: وعلي وطفة، (مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة) مجلة فكر ونقد.

[10]انظر: ميجان الرويلي و سعد البازعي، (دليل الناقد الأدبي)، ص (24).

11] انظر: عبد الوهاب المسيري: (دراسات معرفية في الحداثة الغربية) ص (25).

[12] انظر: عبدا لوهاب المسيري: (الحداثة ومابعد الحداثة) سلسلة حوارات لقرن جديد، ص (18)، دار الفكر، دمشق.

[13] بواسطة رضوان زيادة: (صدى الحداثة)، ص (35).

[14] عبد الوهاب المسيري: (الفلسفة المادة وتفكيك الإنسان) ص (87)، دار الفكر، دمشق.

[15] انظر: إبراهيم الحيدري: (مردسة فرانكفورت محاولة في التعريف)، مجلة أبواب، العدد 17، ص (99).

[16] هابرماس: (الحداثة مشروع ناقص)، مجلة الفكر المعاصر، العدد 39، ص (43).

17] رضوان زيادة: (صدى الحداثة - ما بعد الحداثة في زمنها القادم)، ص (36).

[18] طه عبد الرحمن:(روح الحداثة)، ص (30).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply