ادعوهم لآبائهم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله، شرع فأحكم وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وبعد: لقد نقلت الفضائيات كلامًا ممجوجًا، وصراخًا ممقوتًا فحواه المطالبة بأن ينسب الأبناء إلى أمهاتهم وينادون بذلك على قوارع طرقهم، بأن يكتب ذلك في شهادات ميلادهم، وأن يكتب اسم الأم قبل اسم الأب، وأنها الأحق بصحبة الابن، ومثل هذا العبث ما هو إلا خطوة على الطريق المظلم الذي يريد أعداء الدين للمسلمين أن يسلكوه حتى يدمروا لهم ما بقي من آثار الأسرة وأطلال القوامة، وحتى يقننوا شيوع الفاحشة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وبادئ ذي بدء فإن القرآن قد حسم هذه المسألة وكذلك السنة المطهرة، ولهما - القرآن والسنة - القول الفصل في ذلك. القرآن يأمر بالانتساب للآباء: قال - تعالى -: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 5]. وقال ابن كثير: وهذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر - تبارك وتعالى - برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن زيد بن حارثة - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}، وقال أيضا عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال أبو بكرة - رضي الله عنه -: قال الله - عز وجل -: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} ، فأنا ممن لا يعرف أبوه وأنا من إخوانكم في الدين، قال أبي - أي عبد الرحمن-: والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه، وقال في قوله - تعالى -: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، وقال: وفي القرآن المنسوخ: «فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم».

وأخرج الإمام أحمد عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إن الله - تعالى - بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل معه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، ثم قال: قد كنا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. [ابن كثير 2/631- 633 بتصرف]

وهذا كتاب الله المحكم يأمر بأن ينسب الابن إلى أبيه الحقيقي إذا كان معلوما، وإن كان مجهولا فهو أخ لنا في الدين ومولى، والقرآن المنسوخ تلاوته وبقي حكمه يأمر بعدم الرغبة عن الآباء إلى الأمهات أو غير الأمهات، وأن هذا كفر، ويوافق القرآن الثابت تلاوة وحكما. وكذلك قوله - تعالى -: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34) إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } [آل عمران: 33- 35]. فهذه امرأة عمران هي التي نذرت، وقبل الله منها النذر، وأنبتها نباتا حسنا، وجعل كافلها نبيا من أنبيائه، وجعلها آية من آيات الله، قال - تعالى -: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50]، ومع كل هذا الفضل لامرأة عمران وذريتها لم ينسب القرآن مريم إلى أمها التي نذرتها قربانا إلى الله، ولكن نسبها إلى أبيها عمران، قال تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12].

ودليل ثالث من القرآن قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34].

قال ابن كثير: أي الرجل قيم على المرأة وهو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت، {بما فضل الله بعضهم على بعض}أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظمº لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». [ابن كثير 1/675]

والحالة الوحيدة التي ورد فيها ذكر الرجل منسوبا لأمه هو ذكر اسم رسول الله عيسى - عليه السلام -، ولا دخل لمخلوق في هذا الاسمº لأن الذي سماه ورتب له هذا الاسم هو الله - سبحانه - حيث قال: { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45]، وحكمة هذه التسمية ما ذكره القرآن أيضا: {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} [مريم: 20، 21]. وقد ذكر الله - تعالى - قول مريم العذراء - عليها السلام -: {ولم أك بغيا} ، وصدقت.

 

السنة تأمر بالانتساب للآباء:

 أخرج الشيخان من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام». فذكر ذلك لأبي بكرة، فقال: وأنا سمعته أذناي ووعاه قلبي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [متفق عليه]

ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر». [متفق عليه]

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو  يعلمه - إلا كفر بالله، ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار». [البخاري 3508]

وعن واثلة بن الأسقع قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله ما لم يقل». [البخاري 3509]

قال ابن حجر: المراد من استحل ذلك مع علمه بالتحريم، والمراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد ذلك على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلا شبيها بفعل أهل الكفر. [فتح الباري 6/624]

قلت: إذا نسب الرجل إلى رجل غير أبيه وهو يعلم ذلك كان هذا على أقل تقدير كفرا بالنعمة ومن أعظم الكذب والفرى، فكيف إذا نسب إلى امرأة؟

وبالإضافة إلى ما ورد في القرآن الكريم من نسبة مريم - عليها السلام - إلى أبيها ورد بالسنة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت

عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على الناس كفضل الثريد على سائر الطعام». [البخاري 3769]

وبوب النووي في كتابه «رياض الصالحين» بابا سماه باب تحريم انتساب الإنسان إلى غير أبيه وتوليه غير مواليه وذكر الحديثين السابقين، وقال العلامة ابن عثيمين في شرحه لهما: فإن الإنسان يجب عليه أن ينتسب إلى أهل

أبيه، جده، جد أبيه، وما أشبه ذلك، ولا يحل له أن ينتسب إلى غير أبيه، وأما إذا انتمى الإنسان إلى جده وأبي جده وهو مشهور ومعروف دون أن ينتفي من أبيه فلا بأس بهذا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»، مع أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فعبد المطلب جده ولكنه قال ذلك

في غزوة حنين لأن عبد المطلب أشهر من أبيه عبد الله وهو عند قريش في المكانة العليا. [شرح رياض الصالحين 4/331]

وورد بالسنة أيضا في حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح فيصعدون بها فلا يمرون بها - يعني على ملأ من الملائكة - إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، وكذلك روح الكافر قالوا عنها: ما هذه الروح الخبيثة فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا. [الحديث بتمامه في صحيح الترغيب والترهيب 3558]

والشاهد منه قول الملائكة فلان ابن فلان، وليس فلان ابن فلانة، وفيها أيضا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: لما بلغ صفية أن حفصة - رضي الله عنها - قالت بنت يهودي فبكت، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي، فقال: «ما يبكيك؟ ». قالت: قالت لي حفصة بنت عمر: إني ابنة يهودي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك». ثم قال: «اتق الله يا حفصة». [أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح]

والشاهد من الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسب أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي إلى الأب الأعلى وهو هارون - عليه السلام - والعم الأعلى وهو موسى - عليه السلام -، وأنها تحت النبي الخاتم- عليه الصلاة والسلام - ولم ينسبها لوالديها اليهوديين.

فالتحول من أب إلى جد ومن جد إلى جد، لكن لا يكون بحال من أب إلى امرأة، والله من وراء القصد.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply