الهيمنة أم البقاء.. كتاب يفضح واشنطن


بسم الله الرحمن الرحيم

مؤلف هذا الكتاب شخصية فريدة في ذاتها كما هي فريدة في أفكارهاº فهو يُصنّف ضمن أهم ثلاث شخصيات ثقافية على قيد الحياة في هذا القرن، عرّفه أذيال واشنطن بأنه "المنشق" على السياسة الأمريكية، ووصفه آخرون بمن يكره ذاته، بينما اعتبرته محطة (CNN) الإخبارية "أهم نُقّاد السياسة الأمريكية" إنه (ناعوم تشومسكي) الذي وُلد سنة 1928 في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة لعائلة من المهاجرين الروس، ويُعدّ أهم عالم لغويات معاصر، وأحد أكثر العلماء تأثيراً في علم اللغويات الحديث.

ولعل كتابه (الهيمنة أم البقاء) يُعدّ من أهم مؤلفاته على الإطلاق، والذي يتناول قضايا السياسات الأمريكية، ويستخدم فيه أسلوب التحليل العميق في الكشف عن السعي الأمريكي نحو السيطرة على العالم، ضاربة عرض الحائط بالمبادئ والقيم الإنسانية، كما يتطرق إلى الأهداف الحقيقية لإدارة بوش من وراء غزو العراق، وخفايا العلاقات الإسرائيلية - الأمريكية، وممارسة أمريكا لإرهاب الدولة من أجل إخضاع أنظمتها لسيطرتها.

 

استبداد خلف قناع الديمقراطية!

ويورد الكتاب في الفصل الأول مقولة (دارفست ماير) وهو من كبار أعلام البيولوجيا الذي يؤكد أن تاريخ الحياة على الأرض يدحض الزعم القائل بأنه خير لك أن تكون ذكياً من أن تكون غبياً، وذلك بالرجوع إلى النجاحات البيولوجية على الأقل، فالخنافس والبكتيريا أنجح من البشر بكثير من جهة البقاء على قيد الحياة، وذلك يشير إلى أن البشر استخدموا ذكاءهم لتدمير أنفسهم وأرضهم على امتداد تاريخهم، بحيث يجعل من ذلك خطأ بيولوجياً بتعديهم على البيئة الحاضنة للحياة.

ثم يؤكد الكاتب أن عام 2003 تضمّن الكثير من المخاوف الواقعية التي لها ما يسوّغها بشأن بقاء الجنس البشري على قيد الحياة، ملقياً باللوم على إدارة بوش التي عمدت إلى عرقلة جهود منظمة الأمم المتحدة الرامية إلى حظر عسكرة الفضاء الخارجي، وهو خطر جسيم يتهدد البقاء، كما أنها وضعت حداً نهائياً للمفاوضات الدولية لدرء الحرب البيولوجية، ومضت إلى ضمان حتمية الهجوم على العراق على الرغم من المعارضة الشعبية، ومن تحذير منظمات الإغاثة ذات الخبرة الواسعة في ظروف العراق من هذا الغزو الذي قد يعجل بكارثة إنسانية.

كذلك مضى الرئيس بوش ومساعدوه في تقويض المساعي الدولية الهادفة إلى تقليص الأخطار التي تكتنف البيئة والمسلم بأنها أخطار جسيمة، وأشار الكاتب إلى أنه في مستهل عام 2003 كشفت الدراسات أن الخوف من الولايات المتحدة قد بلغ ذرى عالية جداً في جميع أنحاء العالم، مشمولاً بارتياب شديد من قيادتها السياسية، ونبذها لأبسط حقوق الإنسان، وازدرائها للديمقراطية بشكل لم يسبق له مثيل، ثم يعهد الكاتب بأسلوبه التحليلي العميق إلى كشف الأساليب الاستبدادية التي تختفي وراء قناع الديمقراطية الذي تلبسه أنظمة دول كبرى مثل أمريكا وبريطانيا.

 

هيمنة بقوة السلاح!!

وينتقل نعوم تشومسكي في الفصل الثاني للحديث عن الاستراتيجية الامبريالية الكبرى للولايات المتحدة التي تمثلت في إعلانها عام 2002 عن نيتها للحفاظ على هيمنتها كأقوى دولة في التاريخ من خلال التهديد بالقوة المسلحة أو باستعمالها فعلاً.

كما تؤكد هذه الاستراتيجية حق الولايات المتحدة في اللجوء إلى شن حرب وقائية مخالفة للقانون الدولي، وتندرج في جرائم الحرب، ويقر بعض المدافعين عن الاستراتيجية الأمريكية أنها تتعارض بشكل فظ مع القانون الدولي، لكنهم لا يرون في ذلك أي ضرر لاعتبار أن هذا القانون حسب رأيهم لا يعدو أن يكون كلاماً فارغاً.

وقد أوضحت واشنطن خلال حملتها ضد العراق أنها ستتجاهل مجلس الأمن، ولن تتقيد بميثاق الأمم المتحدة، كذلك نصحت القيادة الاستراتيجية بوجوب أن تحتفظ الولايات المتحدة بحق الأولوية في استعمال الأسلحة النووية، وأن التسابق إلى امتلاك الأسلحة التدميرية الشاملة حتى بين قوى صغيرة ليزيد من حجم المشكلة المهلكة، ثم أصبح هناك سعي أمريكي للهيمنة على الفضاء لكي تتمتع بالحصانة والمنعة، وأن تعمل على ضمان حدود معينة لأي ممارسة سيادية من جانب دول قد تعوق مخططاتها العالمية.

وقد جرى تعديل هذه المخططات على مر السنين للتعامل مع التحولات، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الذي عزز وسائل العنف بشكل مطّرد دفع الجنس البشري المهدد بالانقراض إلى شفير الكارثة.

 

حرب تفتقد المصداقية:

ثم يتناول الكاتب تطبيقات هذه الاستراتيجية على الوضع العراقي الذي تمثل في إظهار العراق ورئيسه صدام حسين كمصدر للشر، وإقناع الجمهور بامتلاكه لأسلحة دمار شامل، وحشد حملات دعائية لتسويغ الحرب على العراق، وكان من الواضح منذ الوصلة الأولى للحملات الدعائية أنها تفتقر للمصداقية، وقد عارضت عمليات التفتيش على الأسلحةº لأنها خشيت ألاّ تؤدي إلى شيء.

ومضى بوش وأعوانه في إطلاق التحذيرات المخيفة حول خطر صدام حسين الداهم على الأمم المتحدة وعلى جيرانه، وارتباطاته بما يصفونهم بـ"الإرهابيين الدوليين"، ملمحين دون مواربة إلى تورطه في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وفي غضون أسابيع صار 60% من الأمريكيين يعدون صدام حسين خطراً مباشراً على أمريكا، وكان من الواضح أن هدف أمريكا هو تنصيب النظام الذي تراه في العراق، حتى لو نزع صدام حسين سلاحه تماماً، واختفى هو وجماعته، وقد أعلم (ارنست أري فلايشير) الناطق باسم البيت الأبيض الصحفيين بهذا الهدف قبل ضرب العراق.

وحين أخفقت بعد احتلالها للعراق في العثور على أسلحة دمار شامل انتقل موقف إدارة بوش من الحديث عن اليقين المطلق بوجود هذه الأسلحة إلى الحديث عن الاتهامات الأمريكية، يسوّغها اكتشاف أجهزة من الجائز استخدامها لإنتاج تلك الأسلحة، مع أنه من الوجهة العملية لا يوجد بلد ما إلاّ ويملك الإمكانية والقدرة على تصنيع أسلحة الدمار الشامل.

 

تهجّم على الشعوب:

ويستعرض الكاتب هجمات الولايات المتحدة على دول لتغيير أنظمة الحكم فيها مثل: نيكاراغوا وليبيا وبنما بادعاءات أنها تشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي مستخدمة فيه أسلوب "الإرهاب الدولي".

ولم تقم هذه الدول بالرد على الهجمات الأمريكية بعمل تفجيرات في ولاياتها، أو عمل اغتيالات سياسية، بل لجأت دولة مثل نيكاراغوا إلى المحكمة الدولية كي تسعفها، وفي عام 1986 أصدرت المحكمة قراراً لمصلحة نيكاراغوا، وأدانت واشنطن على استعمالها غير المشروع للقوة، وأمرتها بدفع تعويضات وصلت قيمتها إلى (17) مليار دولار، واستطاعت أمريكا السيطرة من جديد على نيكاراغوا، وجعلتها تتخلى عن مطالبتها بالتعويضات.

ويذكر الكاتب أن رقم (17) مليار دولار هو نفس المبلغ الذي دفعه العراق إلى الأفراد والشركات تعويضاً عن غزوه للكويت، كما أن عدد قتلى الاجتياح العراق كان جزءاً ضئيلاً من قتلى الاجتياح الأمريكي لنيكاراغوا وإسرائيل للبنان عام 1982، ولم تكن هناك أي تعويضات، لكن الكاتب يشير إلى التعريف الأمريكي السياسي للإرهاب بأنه مكافحة التمرد حتى لو مارست هي نفسها الإرهاب لتحقيق هدفها، والتعاريف الرسمية للإرهاب لا تجيب عن كل سؤال بدقة، ولا ترسم حدوداً واضحة بين الإرهاب الدولي والعدوان أو بين الإرهاب والمقاومة.

 

الأهداف الخفية لسياسة واشنطن:

ويتناول الكاتب أحداث كوسوفو التي أظهرت أن الولايات المتحدة قد تدخلت بروح الحمية الخلقية لحماية السكان الكوسوفيين من عمليات القمع الصربي لهم، إلاّ أن الحقيقة هي أن هذا التدخل من أمريكا وحلفائها من الحلف الأطلسي لم يكن استجابة إنسانية لعمليات التطهير العراقي، بل لقطع الطريق على الأخطار التي تهدد حلف شمالي الأطلسي والقوة الأمريكية من رجل تحداها مثل ميلوسيفيتش، وإن قصف صربيا كان عبرة لأي دولة أوروبية قد يتبادر إليها أنها مستثناه من قواعد حقبة ما بعد الحرب الباردة، ولتأكيد هيمنة الولايات المتحدة في أوروبا، وإجهاض أي محاولة لخروجها عن السيطرة الأمريكية، والدليل على ذلك أنه بعد أربع سنوات فقدت كوسوفو أي اهتمام من قبل أمريكا - وأوروبا على الرغم من أن نصف سكان هذا الإقليم يرتعون اليوم في البؤس.

هذه الشواهد يسوقها الكاتب ليدل على أن مواقف الإدارة الأمريكية وحلفائها لا تنبع من أهداف إنسانية خلقية كما يظهر في الشعارات بل لغرض فرض هيمنتها، فمثلاً عندما عارضت تركيا أوامر واشنطن عام 2003 في رفض السماح بشن هجوم على العراق بدأنا نقرأ عن سجلات تركيا المروعة في تعذيب وقتل الأكراد، على الرغم من أنها كانت تتم بمساعدات أمريكية، ويشير الكاتب إلى أن الصيغة الدارجة لرسالة ما تسمى بالدول المتحضرة المستنيرة مفادها أن الحاجة إلى الاستعمار ماسة اليوم مثلما كانت في القرن التاسع عشر لحمل مبادئ النظام والحرية العدالة إلى باقي أنحاء العالم، والتي تعيد الغرب إلى شريعة الغاب للتحكم بمصير الدول وشعوبها.

 

الأزمنة الخطرة:

وفي الفصل الرابع الذي يسميه الكاتب الأزمنة الخطرة للإشارة إلى المخاوف الحقيقية التي تهدد الجنس البشري من جراء سياسات الإدارة الأمريكية، ويتناول جوانب من تاريخ الشخصيات التي وظّفتها إدارة بوش في تسويق الحملة المعلنة على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر، ومن بينها (جون نيغروبونتي) الذي كان يدير السفارة الأمريكية في هندوراس يوم كانت القاعدة الرئيسة للهجمات المسلحة على نيكاراغوا، وقد وقع عليه الاختيار أن يكون المشرف على الجانب الدبلوماسي للمرحلة الراهنة من الحرب على الإرهاب داخل أروقة الأمم المتحدة، أما الجانب العسكري فيديره رامسفيلد الذي كان موفد ريجان للشرق الأوسط خلال فترة من أسوأ الفترات، كما انتُدب لإرساء علاقات امتن مع صدام حسين، أما كولن باول الذي قام بدور المعتدل في الإدارة الأمريكية فقد عمل مستشاراً للأمن القومي إبان المرحلة النهائية من مراحل الإرهاب والأعمال الوحشية مقوضاً دعائم الدبلوماسية في عقد الثمانينيات في أمريكا الوسطى، ومسانداً نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقية.

ويقول الكاتب الآن تختفي الجرائم على أيدي المنتصرين بالطريقة المعهودة، إلاّ أنها لا تذهب طي النسيان لدى الضحاياº ففي الوقت الذي أدان الباناميون بدورهم هجمات الحادي عشر من سبتمبر إلاّ أنهم تذكروا موت الناس الفقراء عندما هاجمتهم الولايات المتحدة في سياق ما يُسمّى بالقضية العادلة.

وربما تؤكد هذه الذكريات مستوى التأييد المتدني للقصف الأمريكي لأفغانستان، ففي أمريكا اللاتينية حيث التجربة الطولى عهداً مع العنف الأمريكي كان التأييد في أدنى درجاتهº لأنهم يتذكرون أن الحكومة الأمريكية هي أحد أكبر رواد الإرهاب ورُعاته!!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply