التوسع لإسرائيل الديمقراطية للعرب


بسم الله الرحمن الرحيم

 

السفير / فكرتان طرحهما رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في الأسابيع الماضية عند حديثه عن الشرق الأوسط.

الأولى، هي أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هو الأكثر إلحاحاً في العالم اليوم. ولذا فإنه ينوي جعله الأولوية المطلقة في ولايته الثانية وسيحاول أن يقنع جورج بوش بفعل الشيء نفسه في ولايته الثانية. ولقد أشيع جو في بريطانيا عشية زيارة بلير إلى واشنطن أن الرجل سيستخدم ثقله من أجل أن يقنع حليفه الأطلسي بوجهة نظره. لا يبدو أن الزيارة حققت هدفها تماماً.

الثانية، هي أن نشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي أمر مستحب، وأنه يصلح لأن يكون واحداً من أهداف السياسات الغربية. قال بلير ما تقدم في معرض نفي التهمة عن نفسه من أن يكون واحداً من <<المحافظين الجدد>> الأميركيين. أوضح أنه يرى في نشر الديمقراطية <<عملاً تقدمياً>>.

يمكن الإطلالة، من هاتين الفكرتين، على المواقف التي يطوّرها <<المحافظون الجدد>> في الولايات المتحدة. ومع أخذ التنويعات بالاعتبار يمكن اختصار هذه المواقف كما يلي:

أولاً: إن المهمة الأكثر إلحاحاً في العالم، اليوم، هي إثبات أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هامشي جداً.

ثانياً: تأسيساً على هذه الهامشية لا لزوم لأي تدخل. وبما أن غياب ياسر عرفات يقدم وكأنه فتح نافذة فإن المطلوب إقفالها بسرعة. لم يكن عرفات في ذاته المشكلة. المشكلة هي في المطالب الفلسطينية، حتى في حدها الأدنى، التي تهدد أمن الديمقراطية الوحيدة والحليفة في الشرق الأوسط. وحتى لو لم تكن تهددها فإن الاهتمام بها يصرف النظر عمّا هو أكثر أهمية.

ثالثاً: إن عدم التدخل، وهذا يجب أن يكون واضحاً، هو، في العمق، دعوة إلى دعم ما يقوم به أرييل شارون. غير أن أي دعم للحاكم الإسرائيلي لا يتوجب عليه أن يصل إلى حدود استفزاز المستوطنين ومتطرفي المعسكر القومي الديني. إن التحالف بين أقصى اليمين الأميركي وأقصى اليمين الإسرائيلي يستحق الحماية، حتى لو كان أقصى اليمين الأميركي ذا شبهة (أو ماض) لا سامية. إن أفق العلاقة بين الطرفين مفتوح.

رابعاً: إذا كان النزاع العربي الإسرائيلي هامشياً فإن مشكلة العالم العربي هي التعثر والفشل والقمع وما ينجم عن ذلك من إيديولوجية إسلامية فاشية. لا حل لذلك إلا باستخدام الوسائل كلها، بما في ذلك العسكرية، لنشر الديمقراطية وفرضها وحمايتها. ويمر ذلك بمكافحة الإرهاب وأشكال المقاومة، وإخضاع الدول المارقة، وهزيمة إيديولوجيات الممانعة، والتصدي لانتشار أسلحة الدمار.

خامساً: كل تقديم للحلول الإقليمية على المهمات آنفة الذكر قد يعني إنشاء دولة فلسطينية إرهابية، كما يساوي تشجيع العرب والمسلمين على الإرهاب الذي يمكن أن يكافأ.

ليس أسهل من عقد مقارنات كثيرة. ففي أميركا، اليوم، وكقاعدة عامة، ينبع التأييد الأعمى لأقصى اليمين الإسرائيلي من البيئة نفسها التي ينبع منها <<التطلّب>> الديمقراطي. هذا سر شائع لا تفسير له إلا أن المقصود ب<<الديمقراطية>> استعادة لشعار <<المهمة الحضارية>> الذي استخدم في تبرير الحملات الكولونيالية. نعم ثمة مفارقة. غير أن التجربة تعلّم أن القصد من رفع لواء <<الديمقراطية>> صرف الأنظار عن مشاكل أخرى، وتوفير ذريعة من أجل إعادة هيكلة الوضع العربي في اتجاه

حسم موازين القوى وإنتاج أنظمة الطاعة الكاملة للمركز الإمبراطوري.

إن تمريناً بسيطاً يؤكد ما سبق. فلو أخذنا أسماء الكتّاب، والبحاثة، والمفكرين، والمؤسسات، والوسائل الإعلامية، ومراكز الأبحاث، لو أخذنا هذه الأسماء كلها سنصادف هذه الحقيقة القائلة بأن الأكثر <<صهيونية>> في الموقف من إسرائيل هو الأكثر <<ديمقراطية>> في الموقف من العرب. يسمون هذه الظاهرة <<الوضوح الأخلاقي>>، أو <<الحرب العالمية الرابعة>>، أو <<معركة الأجيال القادمة>>، لكنها مسميات تصب كلها في مجرى واحد.

أليس غريباً أن كل من هو أقل من هؤلاء حماساً ل<<الديمقراطية>> هو نفسه أقرب إلى سياسة بلير القائلة، عملياً، بأن درجة التدخل لفرض الحريات يجب أن تكون متوازية مع درجة التدخل لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ولو أنها غير متوازنة تماماً مع درجة التوازن في هذا التدخل.

إن هذه هي واحدة من مشكلات <<الليبرالية العربية الهجينة>>. تريد لنا أن نصدق السلعة الأميركية الزائفة المصدّرة إلينا وأن نتجاهل الحقيقة الأميركية الناصعة: الوطنية. فواشنطن إنما تبرّر نشر الديمقراطية بالمصلحة الوطنية الأميركية. نشر الديمقراطية أكذوبة. الوطنية الأميركية جديرة بأن تعلمنا دروساً كثيرة.

الليبراليون العرب يتجاهلون هذه الحقيقة. يصرون على قراءة منحرفة لها، وعلى انتقائية مبتذلة. يتهرّبون من الجواب عن السؤال المركزي: ما عنصر الجمع بين التأييد الأعمى للتوسعية الإسرائيلية وبين الحرص الأعمى على الديمقراطية العربية؟ ما السبب في هذه الرغبة العارمة بتعميم <<ثقافة السلام>> على حساب <<ثقافة العدالة>> أو <<ثقافة السلام العادل>>؟

إن فضيلة بلير، في هذا السياق، هي قدر من التماسك. لذا يسعه القول إن خطابه الديمقراطي للعرب تقدمي تمييزاً له عن خطاب <<المحافظين الجدد>>. خطابه يهتم بمشكلات المنطقة ولو أنه لا يربط كل شيء بها. خطابهم من موقع نقيض تماماً ولو تشارك الطرفان، لفظياً، في بعض الأهداف.

ليس ما تقدم دفاعاً عن بلير. إنه، بداية، مدخل إلى سجال مع <<الليبراليين العرب>>. وهو، ثانياً، تمييز ضروري من أجل تفكيك خديعة الدعوة الديمقراطية التي يروّج لها اليمين الأميركي الأقصى.

أما رئيس الوزراء البريطاني فله حساب آخر. فهو وإن بدا متمسكاً بما يطالب به فلسطينياً فإنما يفعل ذلك من موقع المتراجع تحت الضغط الأميركي الإسرائيلي. إن موقفه، اليوم، متخلف عمّا كانت عليه حصيلة الموقف الأوروبي قبل سنوات. لقد بات يوزع مسؤوليات الأزمة بشكل غير عادل، ويلقي على الفلسطينيين الأعباء الرئيسية للخروج منها. ومع أنه يعلن التمسك ب<<خريطة الطريق>> فإنه يوافق على <<خطة الفصل>> التي تدفنها أملاً منه، وهو أمل غير موثوق، بأن تفتح <<الخطة>> الباب أمام <<الخريطة>> فتفتح هذه بدورها الباب أمام مفاوضات وضع نهائي غامضة النتائج.

ليس سراً أن إسرائيل وأميركا تمسكان بمفاصل الانتقال من محطة إلى أخرى، وليس سراً أن بلير لم يقنعنا كثيراً بوزنه في واشنطن.

يبقى أن لبلير فوائد عديدة بينها أنه يخدم جيداً كوسيلة سجالية مع <<الليبراليين العرب>>. يمكنه أن يكون مرشدهم إلى وعي نقدي للسياسة الأميركية، أي للسياسة التي ينسبون إليها، وهماً، الرغبة في تحرير العرب من القضية الفلسطينية، ومن أي همّ وطني أو قومي، مدخلاً إلى جنة الديمقراطية الموعودة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply