الهياج النسوي العلماني


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أطالع الصحيفة اليومية الكبرى في مصر وأمر عليها بسرعة إلى أن انتبهت إلى كثرة الأخبار والموضوعات المطولة التي تتعلق من زاوية أو أخرى بما يطلق عليه شأن المرأة.

وسرعان ما أدركت أنه لم يكن لي حق في الانتباه لأن هذه الظاهرة تتسم بها الجريدة بشكل يومي، وتشاركها صحف أخرى، ويزيد عليها التليفزيون الرسمي أضعافاً مضاعفة إلى حد أنه يمكن أن يطلق عليه تلفزيون المرأة بلا منافس، وبعد دقائق كنت أدير مؤشر التليفزيون على قنوات فضائية فلفت نظري قناة إخبارية تابعة لبلد عربي كبير، فوجدت تركيزاً عجيباً على العنصر النسائي، وأخبار المرأة، ومشاكل وقضايا المرأة، وحضور قسم كبير من الضيوف من النساء، ولم يكن السبب في هذه الظاهرة النسائية شهر مارس وما يعج به من أيام وأعياد واحتفالات للمرأة، وإنما كانت هذه ظاهرة مستمرة منذ فترة، وبالطبع هناك أسباب مباشرة لهذا الحضور أو الهياج النسوي.

ففي الحالة المصرية يستشعر الإعلام منذ سنوات طويلة أن هناك توجهاً تغريبياً في أعلى المستويات يلح على طرح ما يسمى بقضية المرأة، وفرضها بكل أبعادها على الساحة العامة، تحقيقاً لأغراض متعددة منها ضمان الزعامة لشخصيات نسائية معينة، وتبريراً لانشغالها بالسياسة، وصنع القرار دون أن يكون لها منصب أو وضع رسمي يرخص لهذا النشاط الواسع الذي وصل إلى حد إصدار القرارات المهمة، وتوجيه كبار المسئولين، وإصدار الأوامر إليهم.

ومن ناحية أخرى كان الاهتمام المبالغ فيه بل والهستيري بقضايا أو مسألة المرأة وسيلة ذكية لإغراق الرأي العام وإلهائه عن قضايا أخرى حيوية تهم المجتمع ككل مثل: قضايا الحرية السياسية، والسلطة، والأزمات الاقتصادية، والفساد المالي، والسيطرة لفئات طفيلية أو للأجانب إلى آخره.

ومن الناحية الثالثة مثّل الاهتمام الجارف المفتعل بمسألة المرأة وسيلة للتقرب من الدول الغربية صاحبة النفوذ والتي يهمها أن يسود التغريب في المجتمعات الإسلامية كوسيلة لربط هذه المجتمعات بالغرب، باعتبارها مجتمعات متغربة معلمنة.

ومن هنا حرص البعض ممن يريدون التبعية للغرب حفاظاً على مواقعهم السلطوية على أن يبرزوا هذه القضية المفتعلة بأسلوب مبالغ فيه كوسيلة لإعلام الغرب بحسن النية في توجيه دفة البلاد إلى التوجهات التي يريدها الغرب.

ومن الناحية الرابعة كان طرح القضية أو المسألة النسائية بهذا الإغراق تعبيراً عن سيطرة نخبة من العلمانيين التغريبيين على مجريات الأمور الثقافية والإعلامية والاجتماعية في مصر، وطرحت هذه النخبة قضية المرأة كعنوان لها وشعار، ليس إيماناً منها بتلك القضية أو بحقوق المرأة أو عناية بمشاكل النساء، بل باعتبارها المنفذ والمبرر الذي يمكن استعماله لطرح العديد من القضايا التي تصب باتجاه العلمنة والتغريب بكامل شئون المجتمع، فمن خلال الحديث عن قضايا المرأة مثلاً يصب الاهتمام على إلغاء أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية لتحل محلها قوانين مستمدة من الممارسات والقيم الغربية في هذا المجال، كما يمكن إسقاط القيم الإسلامية الأخلاقية التي تحكم السلوك الشخصي والأسرة، وإحلال قيم علمانية ومتغربة محلها.

ومن خلال طروحات قضايا المرأة من المنظور النسوي وعبر مسائل النوع ومن خلال فلسفات ما بعد الحداثة والتشكيكية يمكن تعريض أسس الدين نفسه والعقيدة والوحي ومفاهيم الفطرة والطبيعة الإنسانية إلى الشكوك والشبهات بما يهز الثقة بالإيمان، ويفتح الباب للانجراف أمام موجات تمتد من الإلحاد إلى الشذوذ والانحراف الجنسي، إلى التحلل من التقاليد العريقة.

وهكذا فإن الإغراق المصطنع والمفروض للإعلام والساحة العامة بقضية أو قضايا النسوية لا ينطلق من اعتبارات بريئة مثل: اللهفة على حل مشاكل النساء، ورفع مستواهن الاجتماعيº بقدر ما ينطلق من حزمة من الاعتبارات تتراوح - كما قلت - من تملق طروحات الزعامة عند بعض الشخصيات النسائية، إلى إعمال سياسات العلمنة والتغريب والتبعية، وإلى تمكين نخب علمانية متغربة من السيطرة على مجريات الأمور في الساحة العامة، وليس أدل على ذلك الشعور من أن تلك الطروحات تتسم بنبرة عنصرية استعلائية ترى أن معالجة قضايا المرأة أياً كانت لا يمر إلا عبر قهر الرجال، وعبر تغيير صبغة المجتمعات العربية من الإسلام إلى المذاهب الفكرية والقيمية الغربية.

فنحن لسنا أمام معالجة المشكلة أو قضية داخل إطار عقيدة وثقافة المجتمع العربي المسلم، وإنما نحن أمام محاولة نسف إطار وعقيدة وثقافة هذا المجتمع وتدميرها، وإحلال الثقافة الغربية محلها، وهذه المحاولة تستخدم قضية المرأة كذريعة ليس إلا لتنفيذ هذا المشروع التغريبي العلماني الكبير، وإلا.. فأين الاهتمام عندما تعرضت سيدات عاملات ومثقفات لاعتداءات أمنية من بلطجية تابعين للحزب الحاكم خلال الانتخابات المصرية على مدى العام الماضي، وأين الاهتمام بالمرأة عندما تعرضت الآلاف أو عشرات الآلاف من النساء المصريات إلى عسف السياسات الحكومية التي حكمت عشوائياً بالقضاء على التربية المنزلية للدواجن التي كن يعتمدن عليها، كما قضت على صناعة الدواجن التي كان لهن نصيب كبير فيها، وليس أدل على هذا الدافع الخبيث وراء الطروحات المبالغ فيها لقضية المرأة من تلك القناة الإخبارية الفضائية التي جعلت جل اهتمامها بالمرأة لا لشيء إلا لأن البلد الذي تتبعه يتعرض للابتزاز الغربي الوقح من جانب تلك القضية من خلال شبهات تثار حول وضع المرأة هناك، وبدلاً من الرد على هذا الابتزاز بما يستحقه من الإهمال أو التوضيح الموضوعي لحقيقة مواقف الإسلام من هذه الشبهات جاء الرد غير الموفق من خلال أسلوب بدائي يظن أن مجرد غمر مساحة البرامج بالنساء هو خير معالجة لتلك الشبهات، رغم أن أي شخص يمكن أن يرد بأن الأمر كله مصطنع، ولذلك فهو لا يمثل معالجة حقيقية للاتهامات بتحقير شأن المرأة، لكن الأهم من هذا هو أن أسلوب الرضوخ للضغوط، ومحاولة الدفاع الساذج عن الذات بهذه الطريقة تدل على تغلغل اتجاه التبعية، والإحساس بالدونية أمام الغرب.

وهنا نجد دليلاً آخر على عدم صدق الطروحات المسرفة لقضية المرأة، وتحول هذه الطروحات من معالجة قضايا ومشاكل النساء بواقعية، وفي إطار تعاليم الإسلام وعقيدة المجتمع وثقافتهº إلى أدوات وأساليب لتحقيق أغراض وسياسات أخرى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply