مشاريع الإصلاح الأمريكي .. الخطر القادم


بسم الله الرحمن الرحيم

 

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والفارقة في التاريخ الأمريكي على الأقل، عرف العالم الإسلامي أجندة أمريكية دفع ثمنها كنوع من الثأر اليميني المحافظ من الضربة التي وجهت لهم على حين غرة، ورغم أن عقلاء كثيرين في أمريكا والغرب دفعوا بعدوانية السياسة الخارجية الأمريكية والتي أرادت أن تفرض ثمن الهجمة علي العالم الإسلامي كله، رغم أن من قام بها هم عصبة محددة يختلف القطاع الواسع من العالم الإسلامي مع رؤاهم وأفكارهم، لكن التوتر المحموم للنخبة الأصولية اليمينية المحافظة الحاكمة في البيت الأبيض جعلهم يشنون حربين كبيرين علي العالم الإسلامي في أفغانستان وفي العراق واكتوي بنيران هذه الحرب غير المبررة والأخلاقية ولا يزال مدنيون ومواطنون لا ناقة لهم ولا جمل في المواجهة التي شنتها العصبة الحاكمة في البيت الأبيض كنوع من الانتقام المدفوع بمحاولة إعادة الاعتبار وفرض الهيمنة علي العالم، وتلوثت الأجندة الأمريكية بروح مغامرة ذات طابع أصولي إنجيلي متطرف خرج على كل ما كانت أمريكا تفخر به وتبشر وهو احترام العدالة والقانون وقيم الحرية والمساواة، ولازالت المكارثية الأمريكية تفعل فعلها الذي بدت فيه التقاليد الأمريكية منتهكة كما حدث في معتقل جوانتانامو وأبي غريب، الأجندة الأمريكية كانت معبأة بأفكار أيديولوجية تري أن الثقافة الإسلامية ذات طابع صلب لا يمكن اختراقه وهو ما يعبر عن الجمود وإنتاج العنف في هذه المنطقة من العالم التي بدت وكأنها تقاوم العولمة والعدوان الثقافي علي قيمها المنبثقة من الإسلام، بدت الأجندة الأمريكية الجديدة وهي تحاول تطويع الحضارة الإسلامية إلي شروط هذه الأجندة فيما يمكن أن نصفه دون تجاوز بأنه غزة ثقافية حضارية كبيرة مدعومة بقوة السلاح ومراكز الفكر والأبحاث المتخصصة في التعامل مع العالم الإسلامي، فرأينا الحديث عن تغيير مناهج التعليم الديني حتى لا تنتج أصوليين يهاجمون أمريكا في عقر دارها رغم أن أيا ممن شاركوا في حدث سبتمبر لم يكونوا خريجي مدارس دينية، ورأينا الحديث عن المرأة المسلمة وضرورة تمكينها فيما عرف بتمكين المرأة، والتمكين هنا معناه دفع المرأة للاستجابة للمطالب الثقافية الأمريكية بحيث تغلب قراراها الفردي علي مصلحة أسرتها، أي أن التمكين يقصد زرع الطابع الفردي في نفس المرأة المسلمة بحيث تصبح بلا مرجعية مقدسة دينية، وإنما مرجعيتها تكون لهواها ونزقها ومصلحتها، بحيث تحيا بلا هدف ولا معني سوي الاستجابة لرغباتها الخاصة ونزواتها النفسية الجامحة التي لا تحدها حدود فيكون هواها هو معبودها، والأمر نفسه مع الأطفال الصغار من البنات خاصة حيث استخدم مصطلح التمكين لهن أيضا ومعناه باختصار هو نزع القداسة عن سلوك الأطفال لبناء علاقات مفتوحة بلا حدود ولا ضوابط ولا قيود وهذا لعمر الله تدمير للحضارة الإنسانية جمعاء وتدمير لمعنى الاستخلاف والحياة معا.

من يتابع الدعوات الأمريكية للإصلاح عليه أن يتابع دعوات الإصلاح الأوروبية التي خربت الدولة العثمانية حتى حولتها من دولة ذات مرجعية إسلامية إلى دولة مرجعيتها علمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر فيما عرف بفترة التنظيمات الخيرية

وسمعنا مما جاء في المقرر الأمريكي للعالم الإسلامي تشجيع التيارات الصوفية والابتداعية التي توسع من المشتركات مع الحضارة الغربية حيت تجعل الدين مكانه دور العبادة وتنزع من القيم الإسلامية طابع الخصوصية التي تجعل من المسلمين أمة واحدة بينهم حقوق وواجبات كأمة، ومن هنا كانت السهام موجهة لمفهوم الولاء والتضامن بين المسلمين كأمة وصرنا بإزاء التلاعب في القيم والمفاهيم العقدية والحضارية والأساس الذي قام عليه الوجود الإسلامي ذاته، وفي التحليل النهائي فإن الأجندة الأمريكية لا تريد صوتا مسموعا للإسلام غير تلك التي تقره هي وتريده.

 

أهداف الحوار الأمريكي مع الحركة الإسلامية:

يرفض المسلمون الهجمة الأمريكية علي حرمات مقدساتهم وشاعت موجة كراهية عاتية للولايات المتحدة الأمريكية جعلت الأمريكان يتساءلون لماذا يكرهوننا، ومن ثم بدا للاستراتيجيين الأمريكان أن الوسيلة الأفضل لتطويع العالم الإسلامي هي دعاوى الإصلاح السياسية وليست الدينية، ومن ثم سمعنا عن تغيير النظم السياسية التي تراها أمريكا مستبدة وإشاعة قيم الديموقراطية بمفهومها الغربي في العالم الإسلامي، ومن خلال التعمق الأمريكي في فهم أحوال العالم الإسلامي ذهبت النخبة الاستراتيجية الأمريكية إلي أن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي والعربي لا يمكن بدون القوي الإسلامية باعتبارها التيار الرئيسي الجامح والفعال والمقبول جماهيريا لدي الناس، ومن هنا كانت فكرة الحوار مع الإسلاميين، بل وقبول وصولهم إلي السلطة في بلدانهم، لأن خطر استمرار النظم المستبدة القائمة هو أشد وطأة علي الأمن القومي الأمريكي من قبول الإسلاميين في السلطة، ومن هنا كانت دعوات أمريكا علي لسان أكبر المسئولين فيها للحوار مع الإسلاميين والقوي التي وصفتها بالاعتدال في العالم الإسلامي والعربي بحيث لا تهدد هذه القوي المصالح الأمريكية والغربية وتعترف وتقبل بقواعد اللعبة السياسية الديموقراطية، ويكاد هذا الموضوع يكون هو أهم القضايا المطروحة على أجندة السياسة العربية سواء بالنسبة للنظم السياسية أو الحركات الإسلامية المعتدلة، وهو ما يشير إلى أن العامل الإسلامي أصبح أحد أهم مدخلات تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، وهنا تكمن المشكلة التي نود أن نشير إلي خطرها وهي أن السياسة الأمريكية تريد أن تورط الحركات الإسلامية في تنفيذ الأجندة الأمريكية عبر السماح لها بالمشاركة في السلطة أو حتى الانفراد بها، فبدلا من الاعتماد علي النظم العلمانية لماذا لا نجعل الإسلاميون هم أنفسهم الذين يقومون بتنفيذ المطالب الأمريكية أي بيد الإسلاميين نحارب الإسلام وهنا مكمن الخطر الكبير، بل الفتنة الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية، والمتابع لمجمل ما نشر من تقارير ودراسات غربية حول الظاهرة الإسلامية يلاحظ بوضوح محاولة نقل الصدام الحضاري داخل الحالة الإسلامية فبدلا من أن يكون الصراع بين الإسلام والغرب يكون الصراع والصدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها بل وداخل الحالة الإسلامية ومنذ كتاب الفرصة السانحة لريتشارد نيكسون " وهو منشور قبل أحداث سبتمبر نجد الحديث عن الإسلام التقليدي والإسلام السياسي والإسلام الأصولي والإسلام السلفي والإسلام المعتدل والإسلام المتشدد والجهادي، فهم يرون الظاهرة الإسلامية من منظور تفتيتها وتجزئتها وغرس عوامل الصراع والنزاع داخل أطرافها رغم أن الجميع يشملهم مفهوم الإسلام والجماعة والأمة طالما أنهم يلتزمون بقواعد الفهم للكتاب والسنة كما فهمها سلف هذه الأمة وخيرها وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، فالمحاولة الأمريكية الجديدة من الإصلاح والحوار مع الإسلاميين اليوم هي بغرض توريط الحركة الإسلامية ذاتها في تحقيق أهداف الأجندة الأمريكية ومن أجل بذر بذور الصراع والشقاق داخل الحالة الإسلامية، ومن ثم فالحركة الإسلامية تواجه لحظة خطر حقيقية نري أنها تفرض الوعي بالمخاطر الماحقة التي تجعل الهدف من الوجود الإسلامي لهذه الحركات في الميزان، فالحركة الإسلامية بالأساس هي حركة للأمة ومعبرة عن ضميرها ووجودها بالأساس قائم علي الدعوة إلي الدين الصحيح وتذكير الناس بالتمسك بدينهم " فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك علي صراط مستقيم " وحين يتعارض هذا المقصد الرئيسي مع الحوار الأمريكي أو حتى الوصول إلي السلطة فإن الحركة الإسلامية عليها التمسك بدعوتها ووظيفتها التي أعطتها شرعية وجودها " ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " وقوله تعالي " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "، ومن يقرأ تقرير مؤسسة راند يعرف كيف يفكر الأمريكيون تجاه الحركة الإسلامية وتجاه العالم الإسلامي، فاللحظة الحاضرة هي لحظة فتنة وخطر تستدعي أقصي روح من الوعي والتثبت والتثبيت "وَلَولا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً”الإسراء:( 74)

 

معالم الخطر القادم:

موضوع بحثي للدكتوراه في العلوم السياسية هو تركيا وحزب الرفاه والدولة العثمانية ومن يحاول معرفة الخطر الذي تواجه الحركة الإسلامية من جراء دعوات الإصلاح الأمريكية عليه أن يقرأ بعمق محاولات الإصلاح في الدولة العثمانية وهو الإصلاح المؤسسي داخل الدولة للحاق بالغرب، ومن يتصفح ما جرى من تحولات داخل دولة الخلافة منذ أواخر القرن الثامن عشر كأنه يقرأ الحاضر، فمثلا علي سبيل المثال معظم وصفات الإصلاح التي قدمت للدولة العثمانية كانت تقدم من الفرنسيين في إطار الصراع الفرنسي مع بقية القوي الأوربية خاصة بريطانيا وروسيا.

 

وكانت الدولة تستخدم كأداة لنشر أفكار الثورة الفرنسية، وظلت الدولة مع زيادة ضعفها وارتهانها لمشاريع التفتيت الغربية تستجيب لأجندة الإصلاح الغربية بحيث كان محور نشاط الدول الغربية المعادية للدولة العثمانية والطامعة فيها هو مطالبتها بأجندة إصلاحية لتحديثها وإدماجها في المنظومة الغربية وشيئاً فشيئاً كانت الدولة تمعن في اللحاق بأجندة الإصلاح الأوروبية حتى جاءت نخبة علمانية جديدة هي التي قادت إلي تخريب الدولة والانقلاب علي السلطان عبد الحميد وبعضهم كان عميلا للإنجليز كمدحت باشا.

 

وظن بعضهم أن الإصلاح الدستوري والعمل البرلماني سينقذ الدولة وفق الصيغة الغربية ولكنه كان سبباً في تجزئتها وتفتيتها، وبعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 خربت النخبة العلمانية الجديدة الدولة وهزمت في الحرب الأولي ثم اختتمت بكمال أتاتورك الذي أسقط الخلافة وأعلن علمانية الدولة التركية وأحدث انقلابا مروعا في حياة دولة الخلافة لا يزال المسلمون يعيشون آثاره حتى اليوم.

 

من يتابع الدعوات الأمريكية للإصلاح عليه أن يتابع دعوات الإصلاح الأوروبية التي خربت الدولة العثمانية حتى حولتها من دولة ذات مرجعية إسلامية إلى دولة مرجعيتها علمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر فيما عرف بفترة التنظيمات الخيرية، إن العقل الأداتي الغربي هداه شيطانه إلي التفكير بتغيير قواعد اللعبة من وجهة نظره بنزع المقاومة والتحدي عن الأمة في مواجهة مشاريعه بجعل من ينفذونها هم من المسلمين أنفسهم، وإذا كانت حربه ضد العالم الإسلامي تمت بأيدي علمانية من أبناء العالم الإسلامي فها هو يسعى لخطوة خطيرة وشيطانية وهي استخدام الإسلاميين أنفسهم لتحقيق مآربه وأهدافه، فليحذر قادة الحركات الإسلاميين وعموم العاملين في حقل العمل الإسلامي من خطر اللحظة الأمريكية القادمة وليتمسكوا بثوابتهم وقواعدهم وقيمهم ولا ينجرفوا لمخاطر الألعاب السياسية ويدركوا أنهم دعاة إلى الله وأنهم موقعون عن الله ومعبرون عن الأمة وهم دعاة المقاومة والرباط والصمود والمواجهة وإلا فالخطر القادم وهو حركة إسلامية بلا معالم ولا ثوابت ولا مرجعيات وحينها تجري علينا سنن الله الكونية فيما نطلق عليه جدل الاستبدال والتغيير "وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم" (محمد: من الآية38).

 

فالله حفظ هذه الأمة بالذكر ولم يجعل حفظها وفعلها وحيويتها مرهونة بإمام أو جماعة أو طائفة أو ملة وستبقي سنة الله جارية فيها لا تتبدل ولا تتغير "إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply