الرد على حكماء الهزيمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أصبح من الجلي الآن أن الشروط التي حملتها إدارة بوش للدول العربية بعد العدوان على العراق واحتلاله (سبق وبُلّغت قبل ذلك) قد سقطت في الفلوجة والنجف وكربلاء، بل إن أهداف الحرب على العراق واحتلاله فشلت.

وذهبت كل توقعات الإدارة الأمريكية لعراق ما بعد الاحتلال بدداً، ولم يبقَ منها غير اليسير الذي يراد أن يكبر من خلال وسائل أخرى غير الحرب والإملاء.

ينطبق هذا على الشروط الأمريكية (قائمة الإملاءات) التي قدّمت للدول العربية، كما ينطبق على الموضوع الفلسطيني أكثر حيث بات من الواضح أن كل ما يحدث في القطاع منذ ثلاثة أشهر - في الأقل - قد فقد هدفه السياسي الأساسي، وأصبح محكوماً بروح الانتقام والتدمير والغيظ، مما سيفاقم أزمة شارون والاحتلال (الجيش الإسرائيلي) ولا يحلّها.

صحيح أن الثمن الذي سيُدفع عالٍ, جداً سواء كان بفقدان الشهداء القادة الشيخ أحمد ياسين ود. عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب والكوادر، أم بمئات الشهداء والجرحى من الناس العاديين، أم بالدمار الهائل الذي تعرضت له رفح وبخاصة حيّ تل السلطان وحيّ البرازيل، وصحيح أن الجرح في قلوب الفلسطينيين والعرب والمسلمين صار أعمق، والغضب أشدّ اشتعالاً، إلا أن ما يجري لا مفرّ منه ما دام العدو هو المشروع الصهيوني، وما دام مناصروه من الدول الكبرى لا يستطيعون أن يردّوه مهزوماً أمام المقاومة والانتفاضة والشعب الفلسطيني، وهو ما أعطاه إجازة ليرتكب كل ما عرفته رفح، وقبلها غزةº من جرائم حرب وسفك دماء ودمار، ومع ذلك فإن قرار الهزيمة اتخذ على شكل انسحاب من طرف واحد دون قيد أو شرط، كما أن قرار انسحاب القوات الأمريكية وضع على أجندة العراق، كما غدت قائمة الإملاءات الأمريكية على الدول العربية مطروحة على الطاولة، وكانت قبل بضعة أشهر غير قابلة للتفاوض (إما أخذها كلّها وإما فلا).

هنا يأتي دور (الحكماء) الذين ابتلعوا ألسنتهم قبل الوصول إلى تلك النتيجة تاركين المجال لبوش وشارون ليحققا أهداف هجمتهما، لكن عندما انكسرت الهجمة، وبدت في الأفق إشارات هزيمة في فلسطين والعراق جاء دور (الحكماء) الذين يريدون إنقاذ الوضع، وبالتحديد إنقاذ شارون وبوش تحت حجة الخوف من الفوضى ومن الإرهاب في حالة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، أو تنفيذ شارون لخطة الانسحاب من قطاع غزة بلا قيد أو شرط.

وبكلمة أخرى حرمان الشعبين الفلسطيني والعراقي من الانتصار عبر مساومة تتنازل فيها أمريكا عن (العُشر) وتستبقي التسعة أعشار، علماً أنها كانت خاسرة تماماً، فيا للحكمة، ويا لإنقاذ الوضع.

ومن هنا فإن من يتابع التعليقات والتصريحات التي عجّت بها أجهزة الإعلام يجد أن صوت أولئك (الحكماء) أخذ يعلو كأنهم هم الذين قاتلوا في الفلوجة والنجف وكربلاء، أو هم الذين كانوا في قلب الانتفاضة والمقاومة والصمود في فلسطين، أو هم الذين كانوا يضغطون ضدّ تلبية الدول العربية لقائمة الشروط الأمريكية، ولهذا توجّب الرد عليهم، وضرورة التعبئة في هذه المرحلة ضد الاستجابة لهذه (الحكمة) التي يمكنها أن ترمي طوق نجاة مؤقت لأمريكا، لكنها ستزيد من أزمة الوضع، وترفع من وتيرة الشهداء والدمار، لأن من غير المعقول كما من غير الممكن أن يحقق بوش وشارون من خلال (حكمتهم) ما لم يحققاه من خلال الصاروخ والدبابة، وليعودا سيرتهما الأولى من جديد وفي أسرع الآجال، وهؤلاء الحكماء يستندون إلى ما يلي:

أولاً: أن نظرية وقوع العراق في الفوضى، وتحوّله إلى مسرح للإرهاب إذا انسحبت القوات الأمريكية ليست صحيحة، وإن بدت في الظاهر منطقية، فالفوضى خرجت بسبب وجود الاحتلال الأمريكي، وإذا صحّ أن القوى التي ارتكبت أعمالاً إجرامية إرهابية في العراق مثل: زرع القنابل، أو إطلاق قذائف على الحشود في عاشوراء، أو ارتكبت جرائم الاغتيالات، أو ضربت ضدّ مراكز الشرطة، أو هيئة الأمم أو السفاراتº هي من التنظيمات المشار إليها بالإرهابيةº فحتى هذه جاء بها احتلال العراق، وسمح بها مناخ الإرهاب الذي مارسه الاحتلال ولم يزل، ابتداء بالقتل والاعتداءات، والنهب وتدمير الدولة، ومروراً بالقصف العشوائي والقنص كما حدث في الفلوجة والنجف وكربلاء وبغداد والأنبار، وانتهاء (ليس بمعنى النهاية) بالجريمة المروعة التي ارتكبت بحق عرس في قرية القائم.

هذا ناهيك عن الفضائح الأمريكية في سجون ومراكز الاعتقال ومثالها سجن أبو غريب، وهذه بالصورة والصوت.

علماً أن تضخيم دور تلك القوى إن وُجدت حقيقة (لأن الأعمال المشار إليها تدخل في دائرة الشبهات التي تصل إلى الموساد ) يكذبه ما تكشفت عنه معارك الفلوجة والنجف وكربلاء، مما يؤكد أن القوى التي وراء المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال الأمريكي على اختلاف توجهاتها نابعة من الشعب العراقي، وملتزمة بخط سياسي لا علاقة له من قريب أو بعيد بما تعبّر عنه البيانات الصادرة عن تنظيم (القاعدة)، أو عن الزرقاوي، أو أسماء أخرى مشابهة، كما أن الإشارة إلى المتطوعين العرب وأعدادهم أبطلت صدقيتها الفلوجة ناهيك عن الأنبار والموصل والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة وبغداد، فالشعب وممثلوه وأبناؤه كانوا المقاومة (بكل أشكالها التي يجيزها الشرع).

وباختصار نحن أمام فزاعة كاذبة، وتقدير موقف وهمي، هذا إذا أحسنّا الظن، علماً أن ثمة خشية من أن يكون الدافع وراء التخويف من انسحاب قوات الاحتلال من العراق هو الخوف من الشعب العراقي، ومن تمكّنه من بناء عراق بعيد عن الهيمنة الأمريكية، وبقيادة قوى ممثلة حقاً لغالبية الشعب، وهذه هي الضمانة الفعلية لحماية العراق من أن يصبح مرتعاً للإرهاب والفوضى، وهذان (الإرهاب والفوضى) لا يترعرعان إلا في المياه العكرة التي نموذجها كل حوض تحركه العصا الأمريكية والصهيونية.

أما حجة الفوضى والإرهاب فكيف يمكن أن تطبق على قطاع غزة في حالة انسحاب القوات الإسرائيلية مهزومة منه وبلا قيد أو شرط، فمن جهة لم تعرف تجربة انتفاضة الأقصى والمقاومة في فلسطين ذلك النمط من التنظيمات التي تتبنّى عمليات من طراز 11 أيلول / سبتمبر 2001 في أمريكا، أو 11 آذار/مارس في إسبانيا، أو تفجيرات عاشوراء في العراق، أو الاغتيالات بسبب المواقف السياسية أو الانتقام (أو لأي سبب كان)، فالقوى التي سترث الاحتلال في فلسطين معروفة، ولا يستطيع أحد أن يتهمها بأنها ستجعل من الأراضي التي ينسحب منها الاحتلال مرتعاً للإرهاب أو الفوضى.

ومن ثم فإن الذين يريدون أن يدعموا (حكمتهم) بفزاعة الإرهاب والفوضى في حالة نزول هزيمة بقوات الاحتلالين في العراق وفلسطين إنما يقيمونها على أرجل خشبية لا تقوى على الصمود حين يُردّ عليها بقراءة الواقع كما هو.

ثانياً: الحجة الأخرى تنطلق من أن الإدارة الأمريكية في مأزق، وهي مستعدة للتراجع جزئياً (وهذا عظيم جداً وفرصة!)، وقد حوّلت ملف العراق وفلسطين والشرق الأوسط الكبير (ملف الدول العربية) من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى وزير الخارجية كولن باول (وهذه فرصة!)، ولهذا فإن الحكمة تقضي بضرورة اغتنام هذا التحول (الهام) الذي كشف عنه عدم استخدام الفيتو الأمريكي ضد قرار مجلس الأمن الذي طالب الدولة العبرية باحترام التزاماتها الدولية في رفح، أو كما تكشف قبولها بوساطة الأخضر الإبراهيمي في العراق.

حسناً: ما المطلوب؟ (الحكمة) تقتضي وقف المقاومة والانتفاضة والتسليم بتهدئة كل شيء على ضوء خطة شارون في فلسطين، والسير وفقاً لاقتراحات الإبراهيمي في العراق، أما على مستوى لبنان وسوريا فمن الممكن التقدّم بتنازلات لا تجعل الأمريكيين يتمسكون بكل شروطهم، فيكفي في كل الحالات أن يتمسكوا بتسعة أعشارها ويتنازلوا عن العشر للإبراهيمي ولمجلس الأمن وللدول العربية المعنية حتى تتحقق الصفقة الرابحة، وتلكم الحكمة في هذه المرحلة التي تواجه فيها إدارة بوش المأزق الخانق.

وإذا كان هناك من سيقول إن بوش سيعود سيرته الأولى بمجرد خروجه من المأزق وإعادة انتخابه، فإن الحكمة تقتضي أن نكسب هذه اللحظة الآن ويبنى عليها بعد ذلك، وبهذا يكون منطق أولئك (الحكماء) هبط بهم إلى الدرك الأسفل عندما يلخصون (الحكمة) السياسية بإنجاز وهمي وخاسر ومؤقت، خوفاً من النتائج غير المحسوبة لهزيمة الاحتلالين، أو لفشل سياسات بوش (الشرق أوسطية).

من هنا فإن التقدير الصحيح للموقف والذي يقول إن الظرف الراهن فلسطينياً وعراقياً وعربياً وإقليمياً، ورأياً عاماً عالمياً، وفي مقابله الظرف الخانق الذي يواجهه بوش، فشل عسكري وسياسي في العراق وفلسطين، وفضائح يندى لها الجبين، وعدم قدرة على تفاهم حقيقي مع حلفاء يريدون إنقاذه من نفسه، ويخافون عليه من هزيمته، إلى جانب أزمة داخلية حيث اهتزت شعبيته، وارتفعت أسهم منافسه، ثم مأزق حليفه شارون الذي إذا واصل ارتكاب جرائم الحرب عمّق مأزقه، وخرّب على بوش أكثر، وإذا تراجع كانت هزيمة مجلجلة، ولهذا فإن الحكمة الحقيقية تقتضي عكس تلك (الحكمة) المزيّفة ألا ينقذ بوش وشارون من الهزيمة، وعدم الخوف من النتائج من خلال التهويل بفزاعة الفوضى والإرهاب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply