دلالات عملية باجرام وملامح فشل الاستراتيجية الأمريكية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

العملية العسكرية التي قامت بها حركة طالبان في أفغانستان صبيحة يوم الثلاثاء 27/2/2007, والتي استهدفت نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الذي لجأ إلى قاعدة باجرام العسكرية الأمريكية - أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان - للمبيت فيهاº خلّفت وراءها عدة دلالات على المستوى التكتيكي العسكري, كما أنها أعادت إلى الأذهان مجدداً التفكير في مستقبل الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان بعد خمس سنوات خلت من عمر الاحتلال الذي بدأ نهاية عام 2001م.

 

* دلالات العملية العسكرية في باجرام:

ثمة دلالات عدة حملتها في جعبتها تلك العملية العسكرية نذكر منها:

§  الدلالة الأولى:

قدرة حركة طالبان على الوصول لأقصى المعلومات سرية، والتغلغل في المستويات العليا في أجهزة الاستخبارات الباكستانية شديدة الصلة بنظيرتها الأمريكية, وكذلك الاستخبارات الأفغانية التي تخضع هي الأخرى بصورة أو أخرى للاستخبارات الأمريكية.

فلاشك في أن تحركات نائب الرئيس الأمريكي الذي أتى من باكستان مباشرة إلى أفغانستان في زيارة وصفت بالمفاجئة يتم تنسيقها على أعلى المستويات في أجهزة الاستخبارات المعنية, ورغم ذلك تمكنت الحركة من كشف مكان تشيني والوصول إليه.

وعند النظر سنجد أن تلك الاستخبارات - رغم ما لديها من تقنيات غاية في التعقيد والتقنية المتطورة - إلا أنها فشلت في التنبؤ بهذه العملية, كما أنها فشلت في النفاذ إلى حركة طالبان، ومعرفة تحركاتها وخططها المستقبلية, وقد ظهر ذلك جلياً في العملية العسكرية التي قادتها الحركة، واستولت خلالها على بلدة موسى قلعة.

كما فشلت تلك الأجهزة في الوصول إلى أماكن قادة طالبانº خاصة زعيمها الملا عمر، وقائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وساعده الأيمن أيمن الظواهري.

 

§     الدلالة الثانية:

مصداقية ما سبق أن أعلنته حركة طالبان من حشد المئات من الفدائيين في انتظار معركة الربيع القادمة التي قالت الحركة: إنها ستكون الحاسمة في مواجهه الاحتلال.

فلم يستغرق الإعداد لعملية باجرام وتنفيذها غير بضعة ساعات هي فترة بقاء تشيني في القاعدة شديدة التحصين, وهو ما يؤكد أن الحركة لديها مخزون حقيقي قادر على التخطيط والتنفيذ في بضع ساعات فقط.

 

§  الدلالة الثالثة:

أن الحركة قد وضعت الاحتلال وقواته في موقف ردود الفعل, وانتظار الحدث, وهو أمر ذو شأن في العمليات العسكرية التي تخوضها المقاومة ضد الاحتلال, إذ تبقى قوات الاحتلال أسيرة ردة الفعل, وهو ما يعيق بناء استراتيجية منفصلة, حتى وإن تمكنت من بنائها فلن تكون هناك مقدرة على تنفيذها.

 

§  الدلالة الرابعة:

الجرأة المتناهية التي تميزت بها الحركةº إذ إن استهداف نائب الرئيس الأمريكي، ومحاولة اصطياده في أفغانستانº عملية شديدة الخطورة, ولم يكن من السهل إذا نجحت أن تمر دون ردة فعل أمريكية عنيفة, وهو ما يطرح تساؤلاً عن رؤية الحركة لقدرتها على امتصاص الردود الأمريكية إذا تمكنت بالفعل من تصفية شخصية بوزن ديك تشيني.

 

* الاستراتيجية الأمريكية في مهب الريح:

عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر جعلت الولايات المتحدة من أفغانستان "قاعدة الإرهاب العالمية", وسوّقت هذا "الموديل" عبر وسائل الإعلام التي تملك ناصيتها, ومن ثم قادت تحالفاً لصد هذا الخطر المنبعث من "عالم الإرهاب" عن "العالم المتحضر".

واعتمدت في استراتيجيتها تلك على عدة محاورº أهمها:

أولاً: كسر شوكة طالبان العسكرية، وتنحيتها عن الحكمº حتى تفقد القاعدة الملاذ الآمن الذي تؤوي إليه، وتجعله منطلقاً لعملياتها ومفرخاً لعناصر "إرهابية" جديدة تشكل خطراً على ذلك العالم الذي وصفه الرئيس الأمريكي بالعالم الحر.

ثانياً: تنصيب مجموعة من الحلفاء تكل إليهم أمر تنفيذ سياستها و"تنظيف" البلاد من طالبان وحليفتها القاعدة, وتسوّق من خلالها لـ"أفغانستان الجديدة" تنعم بالديمقراطية والاستقرار على غرار ما طمحت إليه في العراق, وقد وجدت ضالتها المنشودة في حامد كرزاي وبعض أعوانه.

ثالثاً: تكوين شبكة أو تكتل إقليمي تكون مهمته الأساسية تجفيف منابع "الإرهاب"، واستئصال ما تبقى من عناصر حركة طالبان والقاعدة, وخنق تحركاتها في المناطق الحدودية, وكانت الحكومة الباكستانية بقيادة برفيز مشرف الخادم المطيع لهذه الاستراتيجية الأمريكية.

رابعاً: الاعتماد في مراحل متقدمة من الغزو على تحالف أوسع يخفف العبء عن النواة الأولى التي تشكلت عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 التي كانت القوات الأمريكية والبريطانية ركيزتها الأساسية, ومن ثم لجأت الولايات المتحدة إلى حلف الأطلسي (الناتو) ليقوم بهذه المهمة.

هذه المحاور الأربعة للاستراتيجية الأمريكية لمكافحة "الإرهاب" في أفغانستان نجد عند النظرة الأولى أنها قد تهاوت أو في طريقها إلى الانهيار, وبيان ذلك:

أولاً: حركة طالبان وبعد مرور خمس سنوات على تنحيتها عن الحكم استجمعت قوتها، وأحكمت استراتيجيتها العسكرية, وباتت يدها العليا في المعركة, وتمكنت من خلال عدة عمليات عسكرية من استعادة بعض المدن، وفرض سيطرتها عليها, فيما لم تتمكن القوات الأمريكية ولا حلف الناتو من صد الهجوم، أو استعادة المدن مرة أخرى.

وهجوم الربيع الذي تعد له حركة طالبان منذ عدة أشهر قابله في الجهة الأخرى نوع تخوف وانتظار لما قد تسفر عنه هذه الحملة, دون أن يتمكن حلف الناتو وقوات الاحتلال من وضع استراتيجية مضادة حتى الآن.

ثانياً: حكومة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي هي التي تخندقت، وأحاطت نفسها بشرنقة محكمة خوفاً من حركة طالبان التي كانت قاب قوسين في عدة مرات من تصفية كرزاي ورجالاته, ومن ثم فإن اليد المتنفذة حقيقة في أفغانستان ما زالت حتى الآن يد طالبان, وأصبحت الحكومة المنصبة والمدعومة أمريكياً معزولة عن الشعب, ولا تملك إلا أن تدير قصرها المحاصر بشق الأنفس, وغلت يدها عن التنفذ وبسط السيطرة على المدن الأفغانية, وهو ما اضطر كرزاي إلى طلب المصالحة والتفاوض مع الحركة لإنهاء العمليات العسكرية.

ثالثاً: التحالف الباكستاني - الأفغاني المصنوع لخنق الحركة وخندقتها اختنق هو من داخله, ودخل في صراع محموم حول من يتحمل المسئولية عن الفشل في مواجهة حركة طالبان, وتعدّى الأمر حدود الاتهامات إلى التشكيك في نوايا كل طرفº إذ اتهمت حكومة كرزاي على لسان وزير خارجيتها رانجين سبانتا باكستان بأن لها أطماعاً في أفغانستان تدفعها للتغاضي عن نشاط طالبان والقاعدة, وهو ما جعل باكستان تفكر جدياً في إقامة سور على الحدود بين البلدين لقطع الطريق أمام تلك الاتهامات الأفغانية.

بل والتحالف الباكستاني - الأمريكي هو الآخر في مهب الريح بعد الانتقادات المكثفة التي وجهتها الإدارة الأمريكية لباكستان, وأنها تتغاضى عن قواعد لتنظيم القاعدة وطالبان على الحدود مع أفغانستانº حيث خرجت الناطقة باسم الخارجية الباكستانية تسنيم أسلم عقب زيارة تشيني الأخيرة لتصرح بأن بلادها لن تقبل بأية إملاءات خارجية في كيفية التعامل مع الوضع الأمني في الحزام القبلي، في إشارة واضحة إلى مطالب تشيني التي جاء من أجلها إلى إسلام آباد.

كما أن الرئيس مشرف صرّح مباشرة بأن محاولات توجيه اللوم لباكستان غير عادلة وغير مبررة, وأشار إلى أن مكافحة تسلل طالبان مسئولية مشتركة بين القوات الأمريكية وقوات إيساف والقوات الأفغانية, وليست مسئولية باكستان وحدها.

رابعاً: حرصت معظم الدول التي قدمت جنوداً لدعم عمل الناتو في أفغانستان على أن تكون قواتها بعيدة عن العمل العسكري المباشر, أو الوجود في أماكن الصراع المشتعل في الجنوب الأفغاني, وهو ما أدى لنشوب نزاع داخلي، وتبادل للاتهامات بصورة مباشرة وعلنية جعل عمل الحلف قاب قوسين من الانهيار, حيث تعالت صيحات قواته من نذر الفشل البادية.

فقد حذر الجنرال بانتز كرادوك القائد العسكري بالحلف من أن دول الناتو تضع حياة جنودهم في أفغانستان في خطر، وتعرض العملية برمتها للفشل بسبب رفضها إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان لمواجهة طالبان, ووجهت وزيرة الخارجية البريطانية وكذلك الولايات المتحدة انتقادات مباشرة لدول الحلف التي ترفض إرسال قوات للجنوب الأفغاني المشتعل.

لقد فشلت الولايات المتحدة إذن على المستوى الاستراتيجي بمحاوره الأربعة في أفغانستان, فيما نجد أن حركة طالبان على العكس قد استجمعت قوتها، وأحكمت استراتيجيتها, وليس أمامها إلا انتظار الربيع الذي سيضع فيما يبدو النهاية الأليمة للاحتلال وقواته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply