ضربة الشتاء الأمريكية في أفغانستان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

وسط الجهود الأمريكية والباكستانية الهادفة للإعلان بصفة ثنائية عن عفو عام عن مقاتلي حركة طالبان، أو عمن يوصفون بالمعتدلين منهم عملاً من الطرفين على مساعدة واشنطن في خفض تعداد قواتها في أفغانستان، وبالتالي زيادتها في العراقº فإن القيادة العسكرية الأمريكية في كابول لم تغفل القيام باستعدادات أخرى لمواجهة احتمالات فشل هذه الجهود من خلال تسريب معلومات عن الاستعدادات للضربة الاستباقية الشتوية التي تنوي القوات الأمريكية القيام بها في أفغانستان، فقد أعلن الجنرال الأمريكي إيريك أولسون عن أن الآلاف من الجنود الأمريكيين يحضرون للضربة الشتوية ضد ما تبقى من مقاتلي حركة طالبان، بهدف تفريغ محتوى أي هجمات تخطط لها الحركة في الربيع القادم من أجل تخريب الانتخابات البرلمانية الأفغانية المقرر عقدها في أبريل 2005م.

فالولايات المتحدة تخشى من تصادف وقوع تلك الهجمات المحتملة مع انعقاد الانتخابات البرلمانية في المدن الأفغانية، وتقوم الضربة الاستباقية الأمريكية القادمة على مبدأ شن غارات ومداهمات ضد القادة المتمردين على سلطة الحكومة المركزية في كابولº على غرار الهجوم الذي شنته القوات الأمريكية مؤخراً على مدرسة دينية بمنطقة متاخمة للحدود الباكستانية، والتي أدت لمقتل أربعة من طلاب المدرسة، واعتقال مديرها وعدد من أبنائه، وأدت كذلك إلى قيام رؤساء القبائل في المنطقة بإغلاق الطريق الواصل بين مدينة جلال أباد الأفغانية ونقطة الحدود الباكستانية الرئيسة بين البلدين احتجاجاً على قتل الطلاب الدينيين، والذي تم بحجة الحرب ضد الإرهاب، وهو الأمر الذي جعل قيادة القوات الأمريكية تزعم بأن بين القتلى مقاتلين من جنسيات عربية لم تقم بتحديدها أو بتقديم الدليل على صحة تبريراتها هذه للقيام بمداهمة المدرسة الدينية التي يعتقد كثيرون بأنها تمت بغرض إخافة سكان المنطقة من مغبة معارضة سلطة الحكومة في كابل، أو نشر أي أفكار تخالف سياستها.

ويمكن أن تبدأ عمليات الضربة الشتوية الاستباقية في غضون أيام من انعقاد احتفالات تدشين رئاسة حامد كرزاي لأفغانستان، والتي عقدت في القصر الجمهوري بوسط العاصمة كابول، وهو القصر الذي يخضع لحراسة مشددة تشرف عليها بالإضافة للقوات الأجنبية شركة أمنية أمريكية لضمان عدم تعرض الرئيس كرزاي لأي مخاطر.

وقد تعمد القوات الأمريكية البالغ تعدادها 18000 جندي بأفغانستان إلى ضرب المخابئ الشتوية المحتملة لمقاتلي طالبان، والواقعة في الجبال الوعرة بالقرب من الحدود الباكستانية الأفغانية، ولكنها وبكل تأكيد لن تقترب من جبال تورا بورا مكان الاختباء السابق لبقايا أعضاء تنظيم القاعدة بعد سقوط نظام حكومة طالبان، والتي تخطط الحكومة الأفغانية لتحويلها إلى منطقة سياحية لاجتذاب السياح إليها، ولشرح الظروف التي أحاطت بالقصف الأمريكي الرهيب لجبال تورا بورا، والذي تم في إطار البحث عن الإرهابيين.

ومن المؤكد أن عمليات القصف الأمريكي خلال الضربة الاستباقية والمداهمات الملحقة بها لن تنشغل كثيراً بالتفريق بين ما هو إرهابي أو بريء، أو بين مقاتل وأعزل، أو رجل وطفل وامرأة، بل إنها ستحاول تطهير المنطقة بالطريقة التي تحلو لها، وبما يكفل تنفيذ الأهداف المتوخاة من تلك الضربات، وربما يدل اسم الضربة على ذلك حيث اسمتها القيادة العسكرية الأمريكية في أفغانستان بمسمى "الحرية الصاعقة"، والتي سيكون من شأنها صعق من يسوء حظه للدرجة التي تضعه الأقدار في طريقها.

وتمهيداً للعمليةº فإن (سفير الولايات المتحدة في كابل) زالمي خليل زاد يقوم بأداء مهامه بطريقة مشابهة لأداء المفوض السامي في مدة الانتداب البريطاني لفلسطين، ويطالب المقاتلين بالاستماع إلى رأي الحكمة الصادر عنه فقط، والاتصال بزعماء القبائل من أجل تسليم الأسلحة التي بحوزتهم، والعودة إلى بوتقة المجتمع الأفغاني، ويؤكد لهم أنه يتحدث معهم بدافع الخوف على مصلحتهم، ولكي لا يكونوا هدفاً للضربة الاستباقية، بل إنه يمعن في إسداء النصح من خلال التظاهر بأنه حجة في التعاليم الإسلامية عندما يوبخ هؤلاء المقاتلين قائلاً: بأن المقاومة التي لا طائل من وراءها، والتي يقومون بها تتعارض مع مصلحة أفغانستان، ومع تعاليم الإسلام كذلك.

هذه التصريحات وغيرها صدرت عن زالمي في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً في كابول، وحث المقاتلين الأفغان على الالتحام حول كرزاي، وتقديم الدعم له لكي ينجوا هم بجلدهم من العقاب الذي سيقع بهم لا محالة، وتظهر شفقته على هؤلاء المقاتلين جلية من خلال البوح لهم بأن أفغانستان قد دخلت عهداً جديداً بعد سقوط نظام طالبان، وأنه من غير المجدي لهم أن يظلوا أهدافاً سهلة مختبئة في الجبال وكهوفها، والعرض الذي يقدمه السفير الأمريكي مشوب بالغموض والتناقض، فهو يعرض على مقاتلي طالبان غصن الزيتون، والفوز بالنجاة من العقوبة والاستهداف إذا قاموا بإلقاء أسلحتهم، ولكنه وقبل أن يلتقط أنفاسه يسارع إلى القول بأن أولئك الذين ارتكبوا جرائم كبيرة لا ينطبق عليهم هذا العفو، وهو لم يحدد من هي الجهة المخولة بقياس حجم تلك الجرائم، والقول بأنها صغيرة أو كبيرة، خصوصاً وأن كلمة طالبان بحد ذاتها تعد في القاموس الأمريكي من أشنع الخطايا والذنوب، والرئيس كرزاي بدوره قد حرص كثيراً على القول في السابق بأن مقاتلي حركة طالبان الذين يلقون السلاح سوف يشملون بالعفو إذا نبذوا الإرهاب، وأبعدوا أنفسهم عن تنظيم القاعدة، كما أنه قد طالب أكثر من مرة بضم المعتدلين من حركة طالبان في العملية السياسية بأفغانستان، ولكن انعدام الثقة بين الجهتين قد أدت إلى رفض عاجل من عناصر حركة طالبان لهذا العرض.

وبعد ثلاثة أعوام من خروجهم من السلطة فإن هذه عناصر حركة طالبان لا تزال تشعر الآخرين بوجودها من خلال شن الهجمات المسلحة ضد قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في أفغانستان، وتختطف وتقتل العاملين الأجانب في برامج الهيئات الأجنبية العاملة في مشاريع إعادة الإعمار، وهم أقوى في الأجزاء الجنوبية والشرقية التي أصبحت موبوءة بالعنف عنهم في بقية أنحاء أفغانستان، فقد أدى انفجار قنبلة إلى مقتل جنود أمريكان في الأسبوع الماضي بإقليم أورزجان، وهي منطقة يزعم كثيرون بان المقاتلين ينتقلون بحرية بينها وبين باكستان، وقد أقامت القوات الأمريكية العديد من المعسكرات بالقرب من الحدود الباكستانية، أما القوات الأفغانية فهي الأخرى قد اتخذت مواقع لها على الطرق التي يعتقد بأن المقاتلين يسلكونها، وهي تخطط لزيادة التعاون مع القوات الباكستانية على الجانب الآخر من الحدود من أجل نصب الفخاخ للمقاتلين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الطرفين حول تنقلاتهم عبر الحدود.

والجنرال أولسن لا يخفي مخاوف قوات التحالف من احتمالات كون المقاتلين يخططون لشن هجمات ذات نوعية أشد وأقسى من سابقاتها، وخصوصاً خلال عملية تنصيب حامد كرزاي رئيساً لأفغانستان، وهي توقعات لم تحدث في هذه المناسبة التي مرت بصورة سلمية، ولكن ربما كانت القوات الأمريكية تخطط لضرب الأفغان على نحو يسبق تحقق توقعاتها بوقوع أي هجوم.

إن استمرارية الهجمات التي يشنها المقاتلون تعد إشعاراً خطيراً للقوات الأمريكية المتمركزة في أفغانستان بأن الأمور لم تستب لها على الرغم من كثافة القتل والدمار الذي ألحقته بالشعب الأفغاني بدون أن يكل ذلك من عزيمة المقاتلين، والذين يرجح المراقبون أنهم لن يتراجعوا بسهولة عن مواقفهم، ويستجيبوا لنداءات المصالحة والمشاركة السياسية وإلقاء السلاح، كما أن السلام الذي وعدت به الولايات المتحدة يعد أهم ما تفتقده أفغانستانº فالعاصمة كابل لم تعد آمنة على الرغم من التحصينات الكثيرة التي تتخذها القوات الأمريكية والقوات الأجنبية المتحالفة معها، ومن حين لآخر تصبح مساحات جديدة أخرى أقل أمناً في شرق وجنوب أفغانستان بفضل الامتداد المضطرد لأنشطة مقاتلي طالبان.

كما أن حكمتيار (رئيس وزراء أفغانستان السابق، والسياسي، وأمير الحرب) قد دعا الأفغان إلى شن الجهاد ضد القوات الأمريكية، وخاطب الأفغان قائلاً: بأنه يجب مهاجمة الأمريكانº لأنهم مستمرون في عدائهم للمسلمين في مختلف أنحاء العالم، ولأنهم يربطون بين ما تقوم به قواتهم في بلاد المسلمين وبين الحروب الصليبية التي أصبحت أمريكا تقودها في الألفية الثالثة، وحذر من أن المقاومة الإسلامية بأفغانستان سوف تستخدم أي أسلوب ممكن لمقاومة المحتلين، وقد تلجأ إلى أسلوب الاستشهاديين لتحقيق أهدافها، وإذا لم يتمكن المقاتلين من شن هجمات واسعة ومن منطقة واحدة فإنهم سيلجؤون لشن هجمات متفرقة، والمضحك المبكي أن وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تزود المجاهدين بالسلاح والمال في حربهم ضد السوفييت، وهي الآن تضع اسم أحد ألمع نجومهم وهو حكمتيار على قائمة المطلوبين لديها بحجة ارتكاب أعمال إرهابية.

وخلال حديثه إلى الرهائن الثلاثة الذين أفرج عنهم مؤخراً في أفغانستان فإن كوفي عنان (السكرتير العام للأمم المتحدة) قد أعرب عن شكوكه في أن يعم السلام أفغانستان، أو أن تتحسن أوضاعها الأمنية، فالكثير من طرق ومدن أفغانستان لا تزال بعيدة كل البعد عن متناول منظمات الإغاثة الإنسانية الدولية بسبب عدم انتهاء الاعتداءات التي يشنها مقاتلو طالبان.

ويتنامى اعتقاد راسخ بين من يعنيهم الأمر في أفغانستان بأنه من الضروري القيام بأكثر مما تم القيام به لوقف الهجمات اليومية على الجنود الأفغان والأجانب، وعلى عمال الإغاثة والإعمار الأجانب، ولكن السؤال هو من سيقوم بهذا الكثير المطلوب القيام به.

فالرئيس حامد كرزاي يحافظ على سلامته من خلال إطلالته على أفغانستان من فوق أكتاف الأمريكان، وقد يأتي الوقت الذي تغيب فيه هذه الأكتاف عن أفغانستان، وتترك كرزاي، وتنزله في العراء وحيداً بين من حرص على كسب عدائهم بكل السبل المتاحة لديه، وإلى متى ستبقى الأكتاف الأمريكية في أفغانستانº هذا سؤال يعتمد جوابه بشكل أساسي على طبيعة المصالح الأمريكية في ذلك البلد، والوسيلة التي ترى الولايات المتحدة أنه يمكنها من خلالها الحفاظ على تلك المصالحº وإذا كان ذلك يتطلب وجودها عسكرياً أم لا، ولا يعتمد بالضرورة على بقاء كرزاي سالماً معافى، والذي لا يمكنه البقاء كذلك إلا من خلال إحاطته دائماً بالجنود الأمريكان.

ومعروف تاريخياً أن أفغانستان بلد يصعب حكمه والسيطرة عليه، فإلى متى يستطيع كرزاي أن يحكم أفغانستان محاطاً بالقوات الأمريكية وكأنه واحداً منها؟ ولكي يجيب هو بنفسه على هذا السؤال فإن عليه أن يفتش عن الإجابة في صفحات التاريخ الأفغاني لعلها ترشده إلى الصعوبات التي قد تواجهه مستقبلاً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply