الانتفاضة الأفغانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

انسياب حال الغضب في شوارع كابول اليوم نتاج حادث ارتطام سيارة عسكرية أمريكية بأخرى مدنية ما أسفر عن قتيل و 6 جرحى بحسب بيان الجيش الأمريكي, وتفاعل الشباب الأفغاني مع الحادثة برجم سيارات الاحتلال الأمريكي، وحرق سيارات الشرطة الأفغانية, ومن ثم إحراق تلفزيون آريانا الأفغاني الخاص، وتسيد حالة من السلب والنهب في أرجاء غرب العاصمة الأفغانية, واقتحام البرلمان الأفغاني من قبل المتظاهرين بما أدى لمقتل نحو 30 شاباً أفغانياً، وجرح العشرات بحسب مصادر صحفية بسبب الرد الأمريكي والأمني الأفغاني العنيف على المتظاهرين، كل هذا إنما يعني أن حادث الارتطام كان بمثابة النقطة التي أفاضت كأس الغضب الأفغاني من دولة الاحتلال وأذنابها.

ما بثته القنوات الفضائية هذا اليوم شابه إلى حد بعيد ما كانت تبثه القنوات التلفزيونية الأرضية في العام 1987 وما تلاه من شوارع غزة والضفة حينما كان فتية فلسطين يرجمون قوات الاحتلال الصهيونية, فيما عرف بالانتفاضة الأولى.

الذاكرة أكدت وقتها أن المعاجم السياسية لم تجد تعبيراً انجليزياً يطابق هذا الفعل الشبابي المسمى عربياً "انتفاضة"، فلم تجد بداً من تسميته "intifada", ذاك أنه فعل لم يسبق للغرب أن لاقاه بهذا الحضور النضالي الطاغي بشكل يومي ومستمر ولعدة سنوات يقتصر فيها على رجم الحجارة.. هذه وفقط.

من المبكر جداً أن نصم هذا الغضب المتأجج في منطقة خيرخانة بشمال العاصمة الأفغانية بالانتفاضة, لكننا مع ذلك ندرك أن هدوءه هذه المرة أو إخماده إلى أجل لا يعني إلا مزيداً من سخوء الأقدام الأمريكية في رمال الصحراء الأفغانية المتحركة.

النضال المقاوم للوجود الأمريكي يتركز في الجنوب الأفغاني وشرقه, حيث تواصل كتائب حركة طالبان والحزب الإسلامي هجماتهم على قوات الاحتلال الأمريكية وأذنابها الأجنبية والمحلية, لكنه بدا مرشحاً للامتداد في أكثر من رقعة أفغانية مع تنامي الغضب من الممارسات الاحتلالية, والتي غدت عنواناً للتوتر والفزع الذي تعيشه هذه القوات لقاء سيل لا ينقطع من الهجمات المتنوعة التي أضحى إخفاؤها ضرباً من الهزل الإعلامي.

والحق أن الولايات المتحدة الأمريكية كلما أرادت أن تعالج - بعجرفة وصلف - مشكلة احتلالية زادتها تفاقماً بتجييش فئات جديدة كانت محايدة أو "مسالمة" أو حتى متعاطفة ضدها.

والمهم هنا أن هذه الغضبة اندلعت من منطقة تعد إحدى مناطق نفوذ التحالف الشمالي الأفغاني، ويسكنها البنشيريون الشماليون الذين كان منتسبون لهم قبل خمس سنوات بمثابة كاسحة الألغام أمام القوات الأمريكية إبان غزوهم لأفغانستان، وعدوانهم عليها, ما يؤشر لاتساع رقعة الغضب، يؤشر أيضاً لفشل احتلالي عميق في تدجين الشعب الأمريكي وإغرائه بـ"مميزات" الاحتلال, فلا نجح الأمريكيون في تقديم أيديولوجية جديدة للأفغان بديلاً لما قدمته طالبان ونظام حكم ربما كان يشوبه قصور وحدة، لكنه كان قادراً على حفظ الأمن، ولم يك مصادماً لموروث الشعب الأفغاني الديني والثقافي, ولا نجح في بسط أنماط سلوكه الاجتماعيº فبعدُ المرأة لم تنزع عنها حجابها مثلما "بشر" المتأمركون, ولم تسمح محاكم أفغانستان بالردة أو بالفجور, ولا الإعلام تغير, وحينما أراد الأمريكيون أن "يتحفوا" الأفغان بنمطهم الاستهلاكي فشرعوا في تشييد بعض المراكز التجارية فرِق منها الشعب، وتحاشتها قاعدته العريضة, ولم يجد نفسه جانياً إلا خرط القتاد, إذ نكث الغرب بوعوده الإعمارية, ولم يشأ أن يحول أفغانستان إلى "جنة موعودة" كما وعد, بل تفاقمت أزمة الأفغان الاقتصادية، وزاد الأمر بعجز وزارة المالية الأفغانية عن ملاحقة زيادة الأسعار المتوالية بتأمين زيادة مناسبة للموظفين الأفغان (قال الوزير من قريب جداً أنه قد فشل في تأمين زيادة مقدارها دولاران فقط للرواتب لتكون 42 دولاراً بدلاً من 40!!), وعوض أن تسعى لتنمية اقتصادية شجعت أو غضت الطرف عن زراعة المخدرات والاتجار بها, بما جعل الشعور السائد في قلب العاصمة فضلاً عن ضواحيها أو المناطق النائية أنهم قد ابتاعوا الوهم من المحتلين.

عود إلى الانتفاضة التي تبدو أنها ستكون سبيلاً احتجاجياً فاعلاً مع الوقت، وإن خبت جذوتها بعد هذه الأحداث, لأن ما بات يعتمل في نفوس الأفغان أكبر بكثير من الحدث ذاته, ومعانيه أغزر من مفرداته, فحيث لم تكن طالبان تتعامل مع سكان العاصمة أو غيرهم بصلف, تعامل المحتلون بهكذا أسلوب لحد جعلهم يدمرون نحو ثلاثين سيارة في سبيل قمعهم لأحداث تسببت في تدمير سيارة واحدة فقط! وبدلاً من أن تقوم الشرطة الأفغانية بتطويق المنطقة للحؤول دون قوات الاحتلال وإطلاق النار بشكل عشوائي على المحتجينº صوبت بنادقها للأفغان من ذات الأعراق التي تنحدر منها الشرطة (الطاجيك والأوزبك), وبدلاً من أن يتحلى الناطق الأمريكي بالصدق، ويعتذر عن الجريمة سعياً لامتصاص الغضب, لاذ بأكاذيبه الممجوجة عن عطب ألم بسيارة عسكرية أمريكية ما جعلها تدهس سيارة مدنية, وبدلاً من مساعٍ, تبذل لخلق قدر من النهضة، ودفع البلاد نحو الاستقرارº يتورط المسؤولون في الفساد المالي والإداري.

وقد لا تتحمل الحادثة قدراً عالياً من الاحتجاجات, لكنها مع مثيلاتها من حوادث قصف القرى الجنوبية، وقتل المدنيين بدم بارد ستضخ الدم الثوري في العروق الأفغانية, وستذكيها مشاعر دينية فوارة, أومأت إليها تلك العبارة التي فاض منها الأسى من جريح أفغاني أظهرته الفضائيات نزف منه الدم كما الحسرة "لقد بيعت بلادنا".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply