مسألة تجنيس المسلم بالجنسية الفرنسية ( 6 )


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن أدلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - (4: 59 - 60): {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}.

 

الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله وما حكم به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه جعل مقابلاً له هنا وفي آيات أخرى. ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع مايستلزمه اتباع أي جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم. ومما ورد في تفسير الآية بالمأثور أن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض كهان الجاهلية، وقد سمى - سبحانه - ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعماً، والزعم مطية الكذب. وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل، وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما ينافيه، وإن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن القوانين والمحاكم الأهلية [1]، فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله - تعالى -: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها فأي فرق [2] بين آراء فلان وآراء فلان، وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة، ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم إلى هذه القوانين فما كان منها يخالف حكم الله - تعالى - يقال فيه - أي في أهله - {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟... الخ ما قاله. وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.

 

وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد زال الآن[3] بالاستقلال. فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق أعضائه وأعناق الأمة في جملتها، إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع، هذا وإن المحاكم الأهلية وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية المعلومة من الدين بالضرورة ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزماً أخذه، ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية على اجتهاد الحاكم - فاين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم مافي ا لقرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهي اختيارية لا اضطرارية، ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله - تعالى - في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.

 

(ومنها): قوله - تعالى - (4: 64): {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}، قال أبو بكر الجصاص[4] من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه (أحكام القرآن) ما نصه: (وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله - تعالى - أو أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ماذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله - تعالى - حكم بأن من لم يسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان) اهـ.

 

وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه أن الإيمان الحقيقي وهو إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون لا يتحقق إلا بثلاث:

 

1 - تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر أي اختلط فيه الأمر مما يتخاصم فيه الناس.

 

2 - الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى حرج أي ضيق وانكماش مما قضى به.

 

3 - التسليم والانقياد بالفعل.

 

ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدين، إذ لا يعقل اجتماع الإيمان الصحيح برسالته مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به عن الله - تعالى -، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له بالفعل.

 

وجملة القول أن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا. والمعقول أن هذا لا يقع من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي بأن أحكام النكاح والطلاق والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من عند الله العليم الحكيم يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها والعلم بأن التزامها من أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب - سبحانه - وتركاً لما حرم، ودليله أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة، ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي، ومن سائر الناس بالتجربة المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض القاعدة التي بيناها مراراً. ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات فيحسبها ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى خفاء وجوه الترجيح الطبيعي فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان والفكر، مثال ذلك: ترك المريض للدواء النافع، وفعله لضده كتناول الغذاء الضار من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه قاطع بضرره المتعلق بالذوق، وهو من الحسيات اليقينية، وغير قاطع بنفعه، بل هو إما ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعي كالزنا فإن الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل الله - تعالى - أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لاشك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب، وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحباً للشعور الوجداني بالخوف والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد يقع من بعضهم وراء الأستار.

 

فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور السلف العمل ركناً من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق عليه (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... الخ)، بناء على اختلافهم في تعريف الإيمان، فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي يقتضي العمل فعلاً وتركاً - وقيل إن الإيمان يفارق الزاني حين الزنا، بحيث لو مات في أثنائه مات كافراً، وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمناً لأنه يستلزم سخط الله وعذابه، وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحياناً كما قال الشاعر:

 

قالت وأبثثتها وجــدي فبحت بـه قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

 

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها غطـى هـواك وما ألقى على بصـري

 

ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفاً من رجاء المغفرة أو التكفير. ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمناً، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة بل هو أثر له ناشيء عنه.

 

وإنما أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مراراً لما بلغني من توقف بعض علماء تونس في الافتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.

 

جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر:

ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مراراً من الركن الأعظم لإصلاح الإسلام لشؤون البشر وتمهيد طريق السعادة لهم.

 

وبيان ذلك بالإيجاز أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب (أي العناصر والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، أو الأصناف كما يعبر علماء المنطق) والطبقات والتقاليد والعادات وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر بعضهم بعضاً...

 

جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم بالتعادي والتباغض بجمعهم على دين واحد موافق للفطرة البشرية مرق لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد (وهو الجنسية الدينية) ولغة واحدة يتخاطبون بها ويتلقون معارفهم وآدابهم بها (وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل تغيير يعرض لجماعات البشر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ماهو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته الأولى في خير القرون إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم القديم من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.

 

وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر المقنطرة من الذهب لنشر دينها ولغتها وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع أقطار الأرض مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات وتقارب الأقطار ودقة النظام ما بلغه تأثير الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية لعم الإسلام ولغته العالم كله، ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدينة الفاضلة قديماً وحديثاً.

 

أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل، فما زالوا يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع وما نرى، وصار مستعبدوهم ومستذلوهم يطمعون في تركهم لما بقي من شريعتهم اختياراً، في الوقت الذي آن لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم، ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم، وينهضوا به لإصلاح أنفسهم وتلافي سقوط حضارة العصر بإباداة بعض أهلها لبعض، {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.

 

----------------------------------------

[1] - أنشئت المحاكم الأهلية سنة 1883 هـ، ووضعت لها ستة تقنينات أخذت عن التقنينات الفرنسية، وهي: التقنين المدني، وتقنين المرافعات، والتقنين التجاري، والتقنين البحري، وتقنين العقوبات، وتقنين تحقيق الجنايات، وقد قام قضاة أجانب بوضع هذه القوانين التي ليس لها من اسمها نصيب إذ أنها ليست أهلية وليست وطنية، وقد اختاروا لها هذا الاسم المزور لتمييزها عن المحاكم الأجنبية [مع أنها بقيت أجنبية في قوانينها وفي كثير من قضاتها] والمحاكم الشرعية التي ألغاها نظام جمال عبد الناصر.

[2] - كلام الشيخ محمد عبده لا يدعو إلى الاطمئنان، فلا مجال للمقارنة بين المحاكم التي تطبق شرع الله مهما قيل عن التعصب المذهبي، وبين شريعة فرنسا التي التزمتها المحاكم الأهلية الوطنية.

[3] - غريب هذا القول من رجل مثل رشيد رضا، وهو لا يختلف عن أقوال أصحابنا اليوم الذين يعلّقون أوسع الآمال وأعرضها على البرلمانات، فالمستعمر لا يترك بلداً من البلاد إلا بعد أن يطمئن لمن سيخلفه، ولعل عذر رشيد رضا أن تجربة البرلمانات كانت في بدايتها.

[4] - الجصاص: أحمد بن علي، أبو بكر الرازي، إمام الحنفية في عصره، كان مشهوراً بالزهد، وطلب منه أن يلي القضاء فامتنع، وأعيد عليه الخطاب فلم يفعل.توفي سنة 370 هـ.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply