دارفور ملتقى الإرادات ومنتهى الغايات!!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يكن القرار 1706 الداعي لإرسال قوات دولية لولاية دارفور غرب السودان هو القرار الوحيد الذي ناضلت الولايات المتحدة وحلفائها لإخراجه من طيات مجلس الأمن/ ويتعلق بالإقليم آنف الذكر.

فقد سبق وأصدر مجلس الأمن قراره الذي حمل رقم 1556 في يوم الجمعة30/7/2004، وهدد بفرض عقوبات على السودان في غضون 30 يوماً إذا لم ينزع سلاح ميليشيا الجنجويد في دارفور ويحاكمها, ويوم السبت 18/9/2004 صدر قرار آخر يحمل الرقم 1564 ويحذر من أنه سيفرض عقوبات على صناعة النفط في السودان في حال لم تنفذ الحكومة السودانية تعهداتها بحماية السكان في دارفور.

ولكن هذا القرار 1706 كان له نكهة خاصة لاسيما عند اللوبي الصهيوني المسيطر والمتنفذ في الإدارة الأمريكية، فقد أعلن - عقب صدور القرار - تحالف المجلس اليهودي الأمريكي للعلاقات العامة عن تنظيم عشرة أيام من الاحتفالات المستمرة احتفاء بالقرار 1706.

وقال رئيس المجلس اليهودي: إن الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة يحق لها الاحتفال بالنصر، لأنها 'قادت جهود التعريف بالمذابح التي ارتكبتها الحكومة السودانية والميليشيات الموالية لها في دارفور', وأن الاحتفالات التي ينظمها المجلس اليهودي وتحالف 'أنقذوا دارفور' الذي يضم 160 جمعية دينية وحقوقية بقيادة اللجنة الأمريكية اليهودية ومؤسسات تحالف اليمين المسيحي الصهيوني، ومتاحف ومعاهد الهولوكوستº ستبدأ بـ 'إضاءة الشموع'، وصلوات شكر، ومظاهرة أمام البيت الأبيض.

ويعتبر أنصار اللوبي 'الإسرائيلي' الأمريكي أن نشاطهم لما يوصف بحملة إنقاذ دارفور كان وراء تكوين رأي عام عالمي وزخم سياسي على الساحة الأمريكية والدولية لدفع المجتمع الدولي نحو اتخاذ قرار أممي لإرسال قوات دولية إلى دارفور.

فعند دارفور إذن تلاقت الإرادة الأمريكية مع الرغبة 'الإسرائيلية' في صورة فريدة, حتى وان اختلف منظور الرؤية وترتيب الأولويات الداعية لسلخ الإقليم عن السودان، وإنهاء الدور الإفريقي - بعد إنهاء الدور العربي - فيه ووضعه تحت الانتداب الدولي الذي هو بطبيعة الحال رهن إشارة الولايات المتحدة وربيبتها 'إسرائيل'.

دارفور في المنظور 'الإسرائيلي':

في مقال نشرته صحيفة 'الرأي العام' السودانية في عددها الصادر بتاريخ 14/7/2004 للكاتب والأكاديمي الدكتور الطيب زين العابدين تناول بإسهاب الدور الذي قام به اللوبي الصهيوني في حشد الرأي العام العالمي حول قضية دارفور، وإعطائها زخماً وبعداً أكثر مما تحتمل.

وتحدث الكاتب في مقاله عن اجتماع دعت إليه في واشنطن منظمة اليهود الأمريكية العالمية لتنظيم حملة للتبرع لأهل دارفور ومناصرتهم، وبادر المركز اليهودي للإصلاحات الدينية إلى تنظيم مظاهرة احتجاجية صاخبة أمام السفارة السودانية في العاصمة الأمريكية، وشارك في الحملة المخططة بعض الأسماء اللامعة مثل القيادي اليهودي 'ايلاي ويزيل' الحاصل على جائزة نوبل للسلام, بحجة أنه يريد تسليط الضوء على العنف في السودان تحت شعار 'أنا لا يمكن أن أكون منعزلاً'، وشاركته في الحملة 'روث ميسنجر' رئيسة منظمة اليهود الأمريكية التي صرحت بأنها تستطيع عن طريق هذه الحملة جمع أموال طائلة لأكثر من غرض, خاصة وأن مشكلة السودان أصبحت شأناً عالمياً، واعتذرت بأن الحملة قد تأخرت لأننا لم نفهم مشكلة غرب السودان إلا أخيراً, هكذا.

وساهمت مجموعة 'يهود منطقة واشنطن' بتنظيم ورشة عمل دينية لتتخذ مواقف احتجاجية ضد ما وصفته بالعنف المستشري في غرب السودان، وعلق الحاخام 'ديفيد سابرستين' على أحداث دارفور بقوله: عندما ترتكب أعمال إبادة عرقية ينبغي على اليهود أن يكونوا في مقدمة المحتجين, لأننا سبق أن كنا ضحايا وشهوداً لمثل تلك الأعمال!!

كما قام جيري فاولر مدير لجنة 'الضمير اليهودي' بزيارة معسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد، ثم كتب بعدها لجريدة 'واشنطن بوست' يقول: لقد صدرت إشارات وتحذيرات مهمة قبيل محرقة راوندا ولكنها لم تحرك ساكناً، وها نحن نقول لا مرة أخرى فهل سيتم تجاهل هذه التحذيرات المبكرة وأفارقة دارفور يبادون.

ولم يفسر مدير لجنة 'الضمير اليهودي' لماذا لم يتحرك اللوبي الصهيوني في تلك المحرقة الأفريقية التي ذهب ضحيتها 800 ألف قتيل على مدى سنتين، كما أوقف متحف المحرقة اليهودي نشاطه اليومي لمدة نصف ساعة ليلفت الأنظار إلى أحداث دارفور، وقامت مجموعة 'ائتلاف' اليهودية التي تضم 45 مجموعة بإنشاء مكتب خاص مهمته جمع التبرعات لدعم احتياجات اللاجئين السودانيين في تشاد.

وعلق الدكتور الطيب زين العابدين على هذه الحملة قائلاً: هل يعقل أن اللوبي الصهيوني فجأة أدرك ما يعانيه الزغاوة والفور والمساليت في غرب السودان، ومن ثم هب لنجدتهم؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟

وقد يفسر الأهمية التي توليها 'إسرائيل' لهذا الإقليم ما جاء في كتاب أصدره مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا, التابع لجامعة تل أبيبº حول 'إسرائيل وحركة تحرير السودان' كتبه ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشي فرجي, ونقل مقتطفات منه الكاتب والصحفي المصري فهمي هويدي في مقال بتاريخ 8/6/2004, حيث سرد المؤلف مجموعة من الحقائق التي توضح أن الأصابع اليهودية ما عبثت بأفريقيا لاسيما السودان إلا من أجل أن تضع حذائها علي العتبة الجنوبية لمصر.

فقد شرح كتاب العميد فرجي بتفصيل ما فعلته 'إسرائيل' لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر، وكيف أنها انتشرت في قلب إفريقيا لكي تحيط بالسودان، وتخترق جنوبه.

ففي الفصل الأول من الكتاب الذي حمل عنوان 'إفريقيا كمدخل إلى السودان' يقول: إن 'إسرائيل' قررت احتواء إفريقيا والانتشار في قلبها للاقتراب من السودان، والإحاطة به، ومن ثم يتسنى لها الضغط على مصر، وتهديد بعدها الاستراتيجي الجنوبي, وقد استطاعت 'إسرائيل' في الفترة من عام 56 إلى 77 إقامة علاقات مع 32 دولة إفريقية.

وأشار المؤلف إلى أن هذا المخطط بدأ تنفيذه في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات, وأن مهندس العملية كلها 'اروي لوبراني' هو مستشار بن جوريون للشؤون العربية، وهو الذي قال بوضوح: 'لا بد من رصد وملاحظة كل ما يجري في السودان، ذلك القطر الذي يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، بالإضافة إلى سواحله المترامية على البحر الأحمر، وهو ما يوفر للسودان موقعاً استراتيجياً متميزاً, لذلك فمن الضروري العمل على إيجاد ركائز إما حول السودان أو في داخله, ولأجل ذلك فإن دعم حركات التمرد والانفصال يغدو مهماً لأمن إسرائيل'.

وقد تبنت 'إسرائيل' في سبيل ذلك استراتيجية 'شد الأطراف ثم بترها' على حد تعبير الكاتب, بمعنى مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج النطاق الوطني، ثم تشجيعها على الانفصال لإضعاف العالم العربي وتفتيته، وتهديد مصالحه في الوقت ذاته.

ما أهمية دارفور للولايات المتحدة؟

ركيزتان أساسيتان يمكن أن تشكلا مدخلاً للوقوف على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لانتزاع إقليم دارفور من السيادة السودانية، ووضعه تحت مظلة الانتداب الذي يتحرك كدمية في يد صناع القرار في البيت الأبيض.

أولهما: مشروع الشرق الأوسط الجديد:

فالسودان الذي يعد أكبر دولة عربية وإسلامية من حيث المساحة بما فيها من موارد اقتصادية متعددة ومتنوعة يتعارض مع ما تريده الولايات المتحدة من شرق أوسط جديد لا يسمح بالكيانات الكبرى التي يمكن أن تشكل نفوذاً يهدد الكيان 'الإسرائيلي'، أو يقفز خارج القفص بعيداً عن الأسر والهيمنة الأمريكية.

فالسودان على سبيل المثال بما يملكه من موارد وثروات غير مستغلة يمكنه أن يخرج العالم العربي من التبعية الاقتصادية للغرب، ويحقق له الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية إذا ما تم استغلال تلك الموارد وتوجيهها, وهذا بطبيعة الحال يشكل أرقاً مزمناً لصانع القرار, رغم الصعوبات التي تكتنفه والتحديات التي تواجهه.

ومن ثم فإنه قبيل الفراغ من الجنوب كانت مشكلة الغرب السوداني, وتحضير الوجبة القادمة في الشرق يجرى على نار هادئة ليخرج من تحت المشرط الأمريكية، وبمخاض ترعاه الآنسة العجوز كونداليزا رايس ثلاث دويلات طائفية في الجنوب والشرق والغرب، وهي قصة قريبة الشبهة لما يحدث في العراق, ويجرى التحضير لها في مصر، وعدة بلدان عربية وإسلامية أخرى ليكون 'الشرق الأوسط الأمريكي' دويلات طائفية, تدور في الفلك المرسوم تقوده الربيبة 'إسرائيل'.

ثانيهما: العامل الاقتصادي:

اكتشاف النفط في السودان وبكميات كبيرة جعله هدفاً لمخططات أمريكية تذكر بما دار ويدور في العراق، فقد دخل السودان بقوة مجال التنقيب عن النفط، وأصبح يستخرج نحو 345 ألف برميل يومياً, ولديه احتياطي يقدر بـ 183.2 مليار برميل, وهو بذلك يتفوق على احتياطي كثير من الدول المتربعة على عرش الإنتاج حالياً.

ووفقاً للموجز الإحصائي للتجارة الخارجية السنوي لعام 2000 الذي أصدره بنك السودان فقد سجلت صادرات النفط بمشتقاته نسبة 75% من جملة الصادرات بعائد بلغ حوالي 1.35 مليار دولار.

وقد أصبح النفط أهم إيرادات الدولة، وبلغت إيراداته في ميزانية عام 2003 حوالي 367 مليار دينار سوداني، وقدرت ميزانية عام 2004 إيرادات النفط بـ373 مليار بسبب الزيادة المطردة في الإنتاج، ودخول آبار جديدة دائرة الإنتاج.

واللافت للنظر أن الحديث يجرى حالياً عن بحيرة من البترول يعيش فوقها الغرب السوداني, في حين ما زالت عمليات التنقيب الجارية في الجنوب متمركزة في يد شركات صينية وهندية وماليزية, ومن هنا كان لا بد وفق رؤية الطامعين من ضمان عدم امتداد هؤلاء إلى بحيرة الغرب السوداني.

أضف إلى ذلك الرغبة الأمريكية في الخروج من أسر الإمدادات البترولية من دول الخليج, حيث تعاني تلك البقعة من التهاب مزمن يساعد في توتير أسعار النفط وارتفاعها, ومن ثم كان تأمين الاحتياجات من أماكن أخرى لاسيما أفريقيا أولوية في المنظور الأمريكي.

وقد أشار ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي في تقرير أعده عام 2001 حول السياسة القومية الأمريكية بالنسبة للطاقة أن أفريقيا ستكون 'أحد المصادر الأمريكية المتنامية بسرعة من النفط والغاز'.

كما نشرت مجلة 'أسيا تايمز أون لاين' في عام 2003 حواراً مع المحلل الأمني الأمريكي 'مايكل كلير' مؤلف كتاب 'حروب مصادر الثروة' نوه فيه إلى احتمالية زيادة النفوذ الأمريكي في إفريقيا, حيث رأى أنها ستكون هي الهدف, وستكون مسرحاً للحروب القادمة بين القوى المتصارعة.

هذا فضلاً عن اليورانيوم الذي يعيش فوقه الغرب السوداني, والذي تسعى الولايات المتحدة للإفادة منه في برامجها النووية من ناحية, كما تخشى من وصوله إلى أيدي جماعات مناهضة أو دول يحلو لها أن تطلق عليها متمردة أو مارقة.

بقي أن نقول أن عين الصقر الأمريكي الساهرة على تحقيق أهدافه ومراميه, والأفعى الصهيونية التي تلتف حول النيل والفراتº لابد وأن تقابلهما يقظة وهمة من أبناء العروبة والإسلام, لأنهم القصعة التي يرى الغرب وأمريكا على وجه الخصوص أنها مستباحة, وإن لم يقفوا اليوم رغبة مستأسدين للحوض عن ديارهم ودينهم فسوف يقفون غداً قهراً على الأطلال يبكون أندلساً جديدة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply