اللاءات الثلاثة في قمة الخرطوم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم يتعين عرض فكرة ملخصة عن الصعوبات والمشاكل التي تواجه عملية التحضير لمؤتمرات القمة العربية، وخصوصاً فيما يتعلق بإعداد جدول الأعمال، والذي يعتبر بمثابة المرآة التي تعكس مدى جدية المواضيع المطروحة على بساط البحث، ونوع القرارات الصادرة بشأنها، وكذلك المقياس الذي يؤشر فيه مدى قدرة الحكام على اتخاذ قرارات شجاعة في قضايا مصيرية تهم الأمة, أو مدى التخاذل في اتخاذ مثل تلك القرارات.

إن عملية إعداد جدول الأعمال ليست من الأمور السهلة التي تواجه المعنيين، بل كاد هذا الموضوع أن ينسف إحدى القمم السابقة بسبب عدم توافق الآراء في اتخاذ موقف موحد لإقرار بنوده، فإن هناك سلسلة من الإجراءات الفنية التي يجب أن تتخذ ليتسنى إنجازه وعرضه على القمة، ومن هذه الإجراءات قيام كل دولة ضمن سقف زمني محدد بإرسال ما تريد بحثه من مواضيع في القمة إلى جامعة الدول العربية 'الأمانة العامة', التي بدورها تقوم بجمع كافة المواضيع المراد بحثها بالإضافة إلى المواضيع التي تتقدم بها الأمانة العامة إن كانت مواضيع مؤجلة من القمم السابقة، أو مواضيع مستجدة يستوجب بحثها ضمن بند يسمى 'ما يستجد من أعمال' لمناقشتها على مستوى المندوبين الدائمين، وبعد أن يتم تشذيبها، وإكمال المستلزمات اللازمة بشأنها تعرض على وزراء الخارجية العرب في اجتماعات تعقد لهذا الغرض تسبق انعقاد القمة، وفي تلك الاجتماعات تستمر عملية الغربلة والفلترة واختزال الكثير من تلك المواضيع حسب وجهات نظر كل دولة، وبعد مناقشات مستفيضة، وجدال طويل، تتم الولادة القيصرية لجدول الأعمال، وبالرغم من كل هذا لم يسلم من الخضة الأخيرة عند بحثه على مستوى القمة من أجل إقراره، وإلى أن يتم ذلك يكون قد ظهر بشكل مُهَلوَس رغم عمليات التجميل والماكياج، وعلاوة على ذلك بدلاً من الاتفاق والتصديق على بنوده الهزيلة التي باتت لا تلبي الحد الأدنى لمستوى الطموحº تتفجر بشأنها الخلافات والتناقضات والفضائح التي تصل إلى حد الشتائم والاستهتار بمشاعر الجماهير, وما حصل في القمم السابقة لم يكن مخيباً للآمال فقط بل مقوضاً للحياء العربي, وصورة معبرة لزيف الشعارات والعناوين البراقة التي لم تكن إلا للخداع والتسويف.

والمطروح اليوم أمام قمة الخرطوم ثلاثة بنود مهمة, وأهميتها هنا لا تصب في رفع المعاناة عن الأمة, بل زيادة حالة التخاذل، ورفع مستوى حالة اليأس في قلوب الجماهير العربية أكثر مما هي عليه, ولا نريد أن نناقش بإسهاب هذه البنود الثلاثة لأنها لا تستحق سوى ذكر عناوينها, والإناء ينضح بما فيه.

 

البند الأول: السلام خيار استراتيجي:

أي لو احتلت 'إسرائيل' كل البلاد العربية يبقى السلام خياراً استراتيجياً, ولو وصلت الجيوش 'الإسرائيلية' إلى قلب القاهرة فالسلام خيار استراتيجي.

 

البند الثاني: قضية العراق:

وماذا يريد القادة العرب من العراق بعدما ضيعوه بتآمرهم عليه؟! هل سيعترفون من باب تأنيب الضمير أن من أراضيهم ومياههم وأجوائهم انطلقت القوات الأمريكية لاحتلال بلد عربي مسلم له فضل على كل العرب.

 

البند الثالث: قضية دارفور:

أي أن مشروع القرار المقدم من الجامعة العربية إلى القادة العرب يشير إلى عدم قبول قوات أجنبية في دارفور ما لم توافق عليه السودان, ومعنى ذلك أن الدول العربية وراء السودان في رفض القوات الدولية, والمخزي والمبكي هو صدور قرار من مجلس الأمن بالإجماع بموجب الفصل السابع بإرسال قوات دولية إلى دارفور, يعني أن هذا القرار ملزم ولا تستطيع الجامعة العربية رفضه، لأن قرارات مجلس الأمن لا تعير أية أهمية للدول العربية, ولا تكترث لأية إرادة عربية, ولا تحترم قرارات القمة العربية, بل إنها ليست بالحسبان، نعم الدول الاستعمارية على حق حينما تعبث وتستهتر بقيم الشعوب العربيةº لأنها تعلم أن القادة العرب أنفسهم لا يحترمون قراراتهم, وتعلم أيضاً أن قرارات القمم العربية قمامة وغير ملزمة لأحد حسب ميثاق الجامعة العربية, وتعلم أكثر مما نعلمه نحن الشعوب العربية عن مدى ضحالة انتماء هؤلاء القادة إلى وكالاتهم الاستخبارية.

إن هذه الصورة الضبابية التي تشهدها الأمة لم تكن وليدة عن حالة يأس، وإنما قراءة للواقع الملموس، وقياس محسوس بعدم قدرة الأنظمة العربية على التفاعل مع الأحداث، والتعامل مع التحديات الجسام التي كلما تشتد كلما بان عجز تلك الأنظمة، وعدم قدرتها على الارتقاء إلى الحد الأدنى من الأداء المطلوب, وعلى وجه التحديد في إطار العمل العربي المشترك، وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية، ونرى أكثر ما يحرج الأنظمة العربية عندما تُعرض عليها مرغمة قضايا مصيرية جسام يفرضها الواقع الذي طالما تتمنى ألا تراه لأنها غير قادرة على التعامل معه، والخوض فيه بجدية, فهناك أدلة كثيرة على ذلك عندما عرضت على القمم العربية السابقة قضايا مصيرية لم تكن غير قادرة على حلها، بل زادتها تعقيداً مثلما حصل في قمة آب عام 1990 بعد غزو النظام العراقي السابق للكويت، ونتيجة لإملاءات خارجية قامت بتحويل النزاع من الساحة العربية إلى الساحة الدولية, وما صاحب ذلك من تداعيات مزقت الأمة العربية، وكذلك محاولة تسوية الخلاف العراقي الكويتي في قمة آذار من عام 2002 التي لم تتمكن تلك القمة من عمل شيء سوى تغيير عنوان البند المسمى بالمشكلة العراقية - الكويتية إلى المسألة العراقية، وقامت وسائل الإعلام الرسمية بالتطبيل والتزمير على أنه مكسب عربي كبير نحو المصالحة العربية، وحتى هذا القرار المتواضع، وبدلاً من استثماره وتطويره نحو مستقبل عربي أفضل في القمة اللاحقة انقلب إلى مشهد مأساوي مخجل من سب وشتائم، ونشر الغسيل أمام أنظار العالم، وفي نهاية المطاف تحولت المسألة العراقية إلى مأساة عراقية.

أما على صعيد القضية الفلسطينية البند الدائم في جدول أعمال كل مؤتمرات القمم العربية، والذي يبحث قضية الصراع العربي 'الإسرائيلي' وتطوراته، وبمرور الزمن بدأ يتآكل حجم هذا البند تناغماً مع تآكل حجم الصراع الذي كان يسمى بالصراع العربي - 'الإسرائيلي'، وبات يسمى بدول المواجهة بطرفيه سوريا ولبنان وفلسطين من جهة و'إسرائيل' من جهة أخرى, خصوصاً بعد خروج مصر والأردن من الحلبة، ومن ثم تقلص إلى صراع 'إسرائيلي' فلسطيني، ومن ثم تحول إلى مواجهة بين 'إسرائيل' وحركة حماس، و'إسرائيل' وحزب الله, حتى أمسكت 'إسرائيل' بالعصا، وتمكنت من قيامها بإدارة دفة الأحداث لصالح مشروعها السياسي والاستراتيجي والعسكري, وباتت تنفرد بكل طرف من الأطراف على حدة، وهمة العمل العربي المشترك في حالة سبات, والأنظمة العربية بعضها يتفرج، والبعض الآخر قد ساهم في المشروع الأمريكي - الصهيوني, الذي بدأ باحتلال العراق، ثم الانفراد بالشعب الفلسطيني وذبحه على عتبة النخوة العربية الإسلامية, وباتت مشاريع التسوية والاستسلام يلهث وراءها الجميع، والقمم العربية غير قادرة على أن تبدي رأياً أو وجهة نظر فيما يجرى من أحداث تهم قضايا مصيرية للأمة, بل تحولت إلى مجرد ديكور وصالات عرض تتفرج عليها الجماهير من خلال شاشات التلفزة، وتتشوق إلى ما سيعرض عليها من مفاجآت فضلاً عن كونها باتت أداة لتنفيذ ما تطلب منها أمريكا.

إن الذي يئس من القمم العربية هم القادة العرب قبل الجماهيرº لأنهم أعلم من غيرهم بعدم جدواها, وقد تجلى ذلك واضحاً من عدم مشاركة أحد القادة العرب في أحد مؤتمرات القمة لارتباطه بموعد أهم من القمة العربية وهو حضور حفل زفاف ولي عهد أسبانيا الذي تزامن في نفس موعد انعقاد القمة العربيةº لأنه يعلم جيداً أن القادة الحاضرين هم أيضاً غائبونº لأن العبرة بالنتائج التي باتت معروفة مقدماًº لأنهم سوف لن يتمكنوا من الارتقاء إلى مستوى التحديات، ولن يكونوا قادرين على بحث قضايا مصيرية تتعلق بمستقبل الأمة، ويتخذ بشأنها قرارات شجاعة، هل سيتمكن القادة من مواجهة مخططات تقسيم العراق، وإنهاء محنة الاحتلال، ومساعدة الشعب العراقي في رفع معاناته، هل سيتمكن القادة من مواجهة الإملاءات الأمريكية، والتمسك بالحقوق القومية، وثوابت القيم العربية والإسلامية، هل سيكونون قادرين على الوقوف بشرف بجانب سوريا ضد التهديدات الأمريكية، أم مجرد اجتماعات وشعارات للاستهلاك المحلي, مثلما كانت قرارات التضامن مع العراق في القمم السابقة, ومن ثم تنطلق قوات الاحتلال من أراضي وأجواء تلك الدول التي وقعت على قرارات رفض الحرب ضد العراق ورفض احتلاله، هل سيكونون قادرين على بحث تداعيات القضية الفلسطينية والحد من الغطرسة 'الإسرائيلية'، وإيقاف مجازر ذبح الشعب الفلسطيني، هل سيكونون قادرين على إيقاف نهب الثروات العربية، والتصدي للخطر الجديد وهو سرقة المياه العربية، فضلاً عن القضايا المصيرية الأخرى.

كلا.. لن يتمكن القادة العرب من فعل أي شيءº لأنه لا أحد منهم يخجل عند مشاهدة التظاهرات التي انطلقت في أوروبا وبقية دول العالم من أجل قضايا عربية, والصمت العربي ينعاه الغربان, لأنه لا أحد منهم يرتقي إلى شجاعة عمدة لندن الذي طالب باستقالة ومحاكمة بلير وبوش كمجرمي حرب عما فعلوه بالعراق.

وأخيراً هل المستجدات التي تواجه الأمة من خطر في العراق وسوريا، ولبنان والسودان، وفلسطينº ستحرك ضمائر الحكام العرب كما حصل في قمة الخرطوم المشهورة في لاءاتها الثلاثة؟! ربما نعمº لأن ما وصلت إلية الأمة من مهانة لا بد وأن يرتقي القادة إلى تحمل مسئولياتهم, وحتماً سيصدر عنهم لاءات ثلاثة أخرى جديدة تثلج قلوب الجماهير، وتريح ضمائر الحكام, وهي: لا نسمع، لا نرى، لا نتكلم، لقد تعودت الأمة على جعجعة هؤلاء الحكام وتخاذلهم، فإن الشعوب العربية تفضل أن لا تنعقد القمة كي لا تنتكس الأمة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply